مصر

البحث عن السلام: رسائل ودلالات توقيت زيارة “البرهان” للقاهرة

تأتى زيارة رئيس مجلس السيادة السوداني “عبد الفتاح البرهان” للقاهرة، الخميس الموافق 29 فبراير 2024، في توقيت شديد الأهمية والدقة مع اقتراب دخول الأزمة السودانية عامها الأول، وتعتبر زيارة “البرهان” الثانية لمصر منذ اندلاع الحرب منتصف أبريل 2023، وقد شهدت الفترة الفاصلة بين هذه الزيارات مجموعة من التحولات والتطورات في الداخل السوداني، مع قيام “البرهان” بعدة جولات أفريقية أُختتم بالعاصمة الليبية “طرابلس” قبل يومين فقط. ضمن هذا السياق، تتناول أجندة الزيارة مناقشة تطورات الأوضاع في السودان، وسُبل تعزيز العلاقات الثنائية بين البلدين، والقضايا ذات الاهتمام المشترك، وبحث فرص إنهاء الأزمة السودانية، ومناقشة أوضاع الجالية السودانية بمصر، ويمكن توضيح أهم رسائل ودلالات توقيت زيارة “البرهان” للقاهرة على النحو التالي:                                                                 

حراك سياسي ودبلوماسي لتعزيز جهود تسوية الأزمة السودانية

تصاعدت حالة الحراك الدبلوماسي خلال الفترة الأخيرة، حيث شملت زيارة “البرهان” للجزائر في28 يناير 2024، مع تأكيد الرئيس الجزائري “عبد المجيد تبون” على وقوف وتضامن بلاده إلى جانب السودان لتجاوز ظروفه الصعبة، وأهمية حل الصراع من خلال مقاربة داخلية فقط، بعيدًا عن التدخلات الخارجية. كما قام “البرهان” بزيارة ليبيا في26   فبراير 2024 التي تعتبر الأولى له منذ توليه رئاسة مجلس السيادة في 21 أغسطس 2019، وأكدت مخرجات الزيارة على أهمية تنسيق وتبادل وجهات النظر، وضرورة عدم التدخل في الشؤون الداخلية لكلا البلدين.                        

 وفي سياق موازٍ، قام نائب رئيس مجلس السيادة السوداني “مالك عقار” بزيارة عدة دول أفريقية من أجل توضيح الصورة الكاملة للحرب في السودان؛ حيث اتفق مع الرئيس الأوغندي “يوري موسفيني” في 21 فبراير 2024 على خطة سلام جديدة لإنهاء الحرب. كما سلم “عقار” للرئيس الرواندي “بول كاجامي” في 26 فبراير 2024، خارطة السودان لإنهاء الحرب، وقد قال “عقار” بأن “الحكومة لا تمانع الانخراط في أي عملية سياسية، بشرط المحافظة على سيادة السودان وأمنه القومي، وأن تكون شاملة، بلا إقصاء لأي مكون من الشعب السوداني”.                                                                 

كما برزت عدة مؤشرات لحلحة الأزمة السودانية، ومحاولات لبلورة رؤية حول العملية السياسية بعد وقف إطلاق النار، وظهر ذلك جليًا في التحركات السياسية للقوى الفاعلة في المشهد السوداني، بما في ذلك لقاءات تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم” مع مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الأفريقية “مولي فيي” على هامش قمة الاتحاد الأفريقي العادية رقم (37) في إثيوبيا، في 13 فبراير 2024، وتم التباحث بشأن مُعالجة الأزمة الإنسانية، ومساعي وجهود إنهاء الحرب وتحقيق السلام، وأكدّت “مولي فيي” على مستقبل السودان ما بعد الصراع من خلال تشكّيل جبهة مدنية واسعة وشاملة وداعمة للديمقراطية، وذلك من أجل تحديد الأولويات المتعلقة بالمرحلة الانتقالية. كما عقدت “تقدم” لقاء مع رئيس جنوب السودان “سلفا كير ميارديت”، وقدمت رؤيتهم بشأن التعامل الإيجابي مع مساعي وقف الحرب، والبناء على “إعلان أديس أبابا” بشأن سُبل إحلال السلام في البلاد.                

بالإضافة إلى ذلك، جاءت مخرجات الاجتماع المشترك بين تنسيقية “تقدم” وحزب البعث العربي الاشتراكي الأصل بالقاهرة في 14 فبراير 2024، بأهمية الوقف الفوري للحرب دون أي شروط مسبقة، وضرورة الحفاظ على وحدة السودان، وتنسيق وتوحيد جهود كافة القوى المدنية من أجل الوصول لجبهة مدنية واسعة لوقف الحرب ومعالجة الأزمة الانسانية واستعادة مسار التحول المدني الديمقراطي.        

وفي سياقٍ آخر، تم توقيع اتفاق المنامة في 20 يناير 2024 بين نائب القائد العام للقوات المسلحة السودانية “شمس الدين كباشي”، والقائد الثاني لقوات الدعم السريع “عبد الرحيم دقلو”، وشملت بنود هذا الاتفاق تكوين جيش وطني مع الدعم السريع، والقبض على المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، وتفكيك نظام الإسلاميين الذي حكم البلاد في العقود الثلاثة الماضية، وقد أُعتبر هذا الاتفاق بمثابة وثيقة مبادئ وأسس للحل الشامل للأزمة السودانية.                  

بجانب ذلك، تم الإعلان عن مُبادرة السلام الليبية لإحلال السلام ووقف إطلاق النار في السودان من قبل رئيس وزراء حكومة الوحدة الوطنية “عبد الحميد الدبيبة”، في 24 فبراير 2024. وقدم دعوة للبرهان وحميدتي لزيارة طرابلس. فيما أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في 26 فبراير 2024 عن تعيين “توم بيرييلو” مبعوث خاص جديد للسودان، بعد استقالة السفير الأمريكي في السودان “جون جودفري”، بهدف إنهاء الأعمال العدائية، وتأمين وصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، واعتبارها خطوة دافعة من أجل إحلال السلام في البلاد.                                    

وقد جاءت هذه الخطوة الأمريكية بعد ضغوط من أعضاء الكونجرس الأمريكي وتحديدًا جراء تصاعد أعمال العنف وجرائم الإبادة الجماعية في دارفور. بالإضافة إلى ذلك،أكد وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” لنظيريه السعودي والإماراتي أهمية إنهاء الصراع في السودان، وجاء ذلك في محادثتين منفصلتين في27  فبراير 2024، في ظل تحديات ومخاطر الأوضاع في إقليم البحر الأحمر، مما يجعل السودان أولوية لواشنطن في الوقت الحالي. فضلاً عن، دعوة سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة ليندا توماس مجلس الأمن الدولي في27  فبراير 2024 إلى اتخاذ إجراء للمساعدة في إنهاء الصراع في السودان، وقالت، “يتعين على المجلس التحرك على الفور لتخفيف المعاناة الإنسانية ومحاسبة الجناة وإنهاء الصراع في السودان، الوقت ينفد”.     

وتأتى هذه الجهود السياسية والدبلوماسية مع تقدم الجيش السوداني في عدة محاور استراتيجية في معركة الخرطوم وتحديدًا في محاور أم درمان القديمة وشمال الخرطوم، لكن وصلت الأزمة الإنسانية لمستويات بالغة الحدة، حيث بلغ عدد النازحين واللاجئين حوالي 8 مليون شخص، مع ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وخطر المجاعة الكارثية، واستمرار حالات الاشتباه في وباء الكوليرا، وفقًا لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا). علاوةً على ذلك، تداعيات الحرب على قطاعات الاقتصاد السوداني المتمثلة في انخفاض معدل النمو الاقتصادي، وانهيار العملة السودانية، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وانخفاض حجم الصادرات، وتوقف القطاع الزراعي، وانهيار القطاع المصرفي.       

الدور الإيجابي لمصر في الأزمة السودانية…. شراكة استراتيجية ممتدة بين القاهرة والخرطوم 

تسعى مصر دائمًا من خلال مقاربتها تجاه السودان للحفاظ على وحدة وسيادة واستقرار البلاد، ومقدرات الشعب السوداني، وتحرص مصر على حل الأزمة السودانية لعدة اعتبارات، في مقدمتها الأمن القومي والروابط التاريخية المشتركة بين البلدين، وأهمية الدور المصري في حلحلة الأزمة، وجهودها في استقبال العدد الأكبر  من اللاجئين السودانيين. وقد جاءت تحركات وجهود مصر من أجل تهدئة الأوضاع في السودان، حيث تمثلت الرؤية المصرية في وقف إطلاق النار بشكل شامل ومستدام، وعدم التدخل الأجنبي في السودان، وضرورة الحفاظ على وحدة مؤسسات وشعب السودان، وضرورة التوصل إلى حل شامل للأزمة السودانية،  وتنسيق وتوحيد المبادرات السابقة، ومطالبة الوكالات الإغاثية والجهات المانحة بتوفير الدعم اللازم لدول الجوار.  

وعلى هذا الأساس، قامت مصر بخطوتين مهمتين في هذا الصدد أبرزهما استضافة قمة القاهرة لدول جوار السودان التي انعقدت في يوليو 2023، ثم استضافة مؤتمر القضايا الإنسانية في السودان نوفمبر 2023، في ظل موقف مصر الداعم لخيارات الشعب السودانى، وحرصها على نزع فتيل الأزمة في السودان، وضرورة التوصل إلى تسوية دائمة وشاملة للصراع بشكل عاجل، وقد تمثل موقفها في رفض التدخلات الخارجية في الشأن السوداني، وتدعم مساعى التسوية السلمية والابتعاد عن أية حلول عسكرية. بالإضافة إلى أهمية دعم ملف الحوار السوداني- السوداني؛ إذ تعتبر مصر قاسمًا مشتركًا بين السودانيين، في ضوء انفتاح مصر على كافة القوى المدنية والسياسية، وعدم وجود أجندة خاصة لمصر في السودان.                                 

وإلحاقًا بالسابق، تنطلق المقاربة المصرية تجاه السودان من عدة أسس وركائز قوية بحكم عوامل الجغرافيا وتاريخ العلاقات الوطيدة وحالة التقارب وعمق روابط الأخوة والوحدة بين البلدين، في ضوء عمق الثقافات والمصالح المشتركة، وقد تجلى ذلك في مجموعة من التفاعلات والزيارات المتبادلة على فترات متقاربة بين البلدين، وقد ظلت سياسة مصر دائمًا دعمًا وسندًا للسودان لمواجهة مختلف التحديات والأزمات. كما تنوعت مجالات وأبعاد ومرتكزات التعاون المشترك بين البلدين، في ظل الرغبة في تحقيق التكامل بينهما في المجالات الحيوية، مع وصول العلاقات لمرحلة من التفاهم المشترك والشراكة الاستراتيجية، والتنسيق والتشاور السياسي بين البلدين حيال القضايا الإقليمية والدولية محل الاهتمام المشترك.         

حاصل ما تقدم، تُمثل زيارة “البرهان” للقاهرة أهمية بالغة الدقة، في ضوء التحركات الدبلوماسية والسياسية الأخيرة الساعية للسلام، واحتواء تفاقم الصراع، وتعجيل الخروج من الأزمة الراهنة، وضرورة تسريع جهود وقف إطلاق النار، وضمان وصول المساعدات الإنسانية، في ظل تفاقم حدة الأزمة الإنسانية في البلاد، وانعكاساتها على دول الجوار. لذلك، تعتبر القاهرة داعمًا محوريًا للسودان في جهود ومساعي السلام وحفظ الأمن والاستقرار داخل البلاد.          

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى