
أبعاد الوساطة الروسية بين أنقرة ونيقوسيا في شرق المتوسط
كتبت : داليا يسري
نعرف أن لدى موسكو اهتمامات اقتصادية وجيوسياسية في منطقة حوض شرق المتوسط من جهة، وفي إقليم الشرق الأوسط برمته من جهة أخرى. وهي في هذا السياق شأنها كشأن سائر الدول الكبرى، التي لطالما نظرت إلى هذه البقعة دائمة الاشتعال باعتبارها المحور الرئيسي الذي تنبثق منه أهم الأحداث العالمية.
وبينما ترتبط موسكو مع أنقرة بعلاقات سياسية تشوبها مواقف متضاربة على جبهات مختلفة من جهة، نرى كيف ترتبط البلدان بمصالح اقتصادية تُعد شديدة الحيوية بالنسبة لكليهما من جهة أخرى. وفي ظل تباين الخلافات ووجهات النظر بينهما، لاحت في الأفق ساحة جديدة تجتمع عبرها البلدان، وقد تضفي نوع جديد من الارتباك السياسي على علاقاتهما والمشهد الإقليمي برمته. الحديث هنا يدور عن قبرص، وطلبها الأخير من روسيا بضرورة التدخل والتوسط في النزاع الدائر مع تركيا حول غاز شرق المتوسط. وهي الرغبة التي قوبلت بكل ترحيب من روسيا، حيث ردت موسكو بالموافقة في مواقف عدة كان أبرزها ما ذُكر أخيرًا على لسان وزير خارجيتها سيرجي لافروف. عندما صرح خلال لقاءه مع الرئيس القبرصي نيكوس أناستاسيادس -8 سبتمبر من العام الجاري- أن بلاده تُعبر عن قلقها إزاء الأوضاع المتوترة في شرق المتوسط، وتُعلن استعدادها للتوسط وتسهيل إقامة حوار بين قبرص وتركيا من أجل التوصل إلى حلول للأزمة المحتدمة في المنطقة.
وفي الطريق إلى بحث أبعاد الوساطة الروسية بين قبرص وتركيا، هناك عدد من المحطات ينبغي التوقف عندها، من ضمنها الروابط والمصالح المشتركة التي تجمع بين موسكو ونيقوسيا، والموقف الحالي المتوتر بين موسكو وأنقرة. بالإضافة إلى بحث إمكانية تدخل موسكو في تسوية النزاع لصالح نيقوسيا، ومدى استفادتها من هذه الخطوة إن تحققت.
نظرة على أبرز محطات العلاقات الروسية-القبرصية
إن قبرص دولة لها خصوصية شديدة، بحكم موقعها الجغرافي من جهة وبحكم تركيبتها السكانية التي استدعت لها الكثير من المشكلات. ويمكن القول أن روسيا وقبرص جمعتهما علاقات دبلوماسية ودية ذات طابع تقليدي منذ تاريخ يرجع إلى أغسطس 1960، تخللها منذ ذلك التاريخ وصولاً إلى الوقت الراهن زيارات متبادلة بين رؤساء ومسئولي الدولتين. كما تشابهت مواقف البلدان في محطات فارقة خلال أحداث عالمية عدة حيث دعت قبرص إلى ضرورة انعقاد حوار بناء بين روسيا والاتحاد الأوروبي؛ لأجل تعزيز الدور المركزي للأمم المتحدة في العلاقات الدولية؛ ولأجل سرعة الاستجابة الجماعية للمجتمع العالمي ضد التهديدات في عصرنا الحالي مثل الإرهاب الدولي والجريمة المنظمة العابرة للحدود والإتجار بالمخدرات.
أما روسيا فقد دعمت دائماً حق قبرص في التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة للمشكلة القبرصية، كما تم توقيع عددًا من الاتفاقيات المتعلقة بالتعاون الثنائي بين البلدين، وامتدت علاقاتهما إلى عدة مجالات، مثل: اتفاقية التعاون في مجال الرعاية الصحية والعلوم الطبية التي تم توقيعها بين البلدين في نوفمبر 2008، بالإضافة إلى عددًا من الوثائق الثنائية الأخرى التي تم التوقيع عليها في خلال عامي 2010 وعام 2015 و2017. كما تُعقد المشاورات الوزارية على مستوى نواب وزارة الخارجية بين البلدين بشكل منتظم، ويتبادل الطرفان علاقات برلمانية آخذة في التطور. وفيما يتعلق بالعلاقات التجارية، يجمع البلدان علاقات تجارية آخذة في النمو؛ إذ أن حجم التبادل التجاري بين البلدين قد بلغ في نهاية عام 2018 مقدار 798,5 مليون دولار، بالمقارنة مع العام السابق له والذي بلغ فيه حجم التبادل التجاري بينهما 314,4 مليون دولار فقط.
علاوة على ذلك، نجحت الدولتان في 10 أغسطس 2020 في التوصل إلى اتفاق يرضي الطرفين بشأن تعديل بنود اتفاقية تجنب الازدواج الضريبي بين قبرص وروسيا. بعد مرور فترة قضاها الطرفان في مفاوضات بدأت منذ الأول من أبريل الجاري وتخللها تهديدات من قبل روسيا بإمكانية الانسحاب من المعاهدة من طرف واحد، في حالة عدم إمكانية التوصل إلى ما ترغب به من تعديلات على الاتفاقية التي تم توقيعها خلال القرن الماضي.
أبعاد الوساطة الروسية في الصراع التركي القبرصي بشرق المتوسط
رحبت موسكو بالوساطة بين تركيا وقبرص، وأعلنت استعدادها للتدخل بينهما للتهدئة، ولكن يمكن التساؤل حول حدود التي يمكن أن تتدخل موسكو بها لصالح نيقوسيا على حساب أنقرة؟!. وللإجابة على هذا السؤال، يجب أولاً النظر في طبيعة ما يربط ما بين موسكو وأنقرة من جهة، وما بين موسكو ونيقوسيا من جهة أخرى.
بالنسبة لموسكو، إن أهمية أنقرة والعلاقات التي تربطها بها غنية عن الذكر، حتى في حالة وجود عدم تفاهمات إزاء قضايا محددة مثل ليبيا أو سوريا؛ إذ أن هناك مصالح استراتيجية كثيرة تربط ما بين موسكو وأنقرة خاصة فيما يتعلق بخطي الغاز ترك ستريم ونورد ستريم، بالإضافة إلى تداخلات البلدان على ساحة الحرب السورية والمصالح الروسية هناك.
وعلى الجانب الآخر، العلاقات مع قبرص هي علاقات تقليدية إلى حد كبير. بُنيت في المقام الأول على أساس أن جعلت موسكو من نيقوسيا ملاذًا آمنًا أمام أموال المودعين الروس –الأفراد الراغبون في غسيل الأموال- وهذه أموال ترغب موسكو دائما في الحفاظ عليها. وقد تسببت هذه الأموال في توترات كثيرة بين البلدان، انتهت في الآونة الأخيرة بأن هددت روسيا بالانسحاب من معاهدة الازدواج الضريبي وسحب الأموال الروسية من هناك، مما أدى الى أن خضعت قبرص لرغبات روسيا وقبلت بإدراج تعديلات على بنود هذه الاتفاقية بما يحول دون انسحاب موسكو وانهيارها بالكامل. والرضوخ القبرصي في هذه الحالة مُسبب بشكل سياسي، السبب بالطبع لا يعزو لأي شيء آخر سوى رغبة قبرص بعدم خسارة الدعم الروسي في حالة نشوب حرب مع تركيا حول مقدرات قبرص من غاز شرق المتوسط.
وفي إجابة عن السؤال الرئيسي، حول الطرف الذي من المرجح أن تدعمه موسكو في جهود التسوية؟ يشار إلى أنه حتى وقت قريب كان من المُرجح أن يقتصر تدخل موسكو على مجرد لعب دور المحايد في موقف وساطة تُريد هي أن تتصدر من خلاله المشهد باعتبارها وسيط إقليمي وقوى كبرى باستطاعتها أن تلعب دورًا محوريًا في فرض توازنات جديدة على المشهد السياسي. وهناك أيضًا احتمال آخر، وهو أن موسكو حال تدخلها لن تكتفي بلعب دور الوسيط المحايد؛ نظرًا لأنه حتى وقت قريب كان من المرجح أن تُبدي موسكو الحياد أو حتى تأييدًا خفيًا لأنقرة قد يحدث بفعل التوافقات المتجددة فيما يجري وراء الستار بين البلدين. إلا أن المشهد الجيوسياسي قد تغير تمامًا في اللحظات الأخيرة، خاصة في ظل تسارع الأحداث على الجبهة الأرمينية الأذربيجانية ومشاركة تركيا بشكل فاعل واضح وعلني في الحرب، بل أنها تكاد تعتبر هي أيضًا أحد أطرافه وأحد العناصر العاملة على تأجيجه واشعاله بشكل يتسبب في إزعاج كبير لموسكو.
مما يعني أنه من المحتمل أن تستخدم موسكو قبرص كورقة تقوم من خلالها العمل على حسم النزاع لصالح نيقوسيا وأثينا في حوض شرق المتوسط على حساب أنقرة. بحيث تكون هذه الخطوة بمثابة درساً روسياً جديدًا لتركيا وقائدها الذي يطمح لأن تمثل تحركاته الأخيرة إزعاجاً لروسيا بما يضطرها للتجاوب معه!. ومن المحتمل أيضًا أن تكتفي موسكو بلعب دور الوسيط المحايد، وسوف يكون هدفها من وراء هذه الخطوة يتلخص في شغل حيز أكبر من النفوذ في المنطقة مستغلة غياب النفوذ الأمريكي عنها. وفي هذه الحالة، سوف يعني هذا أن موسكو تنوي استخدام ما لديها من أوراق ضغط بالإضافة إلى أوراق جديدة بهدف صد تركيا عن اعتداءاتها المتكررة التي تثير ازعاج روسيا، وإجبارها على الرضوخ لرغبات ومصالح الكرملين.
الانعكاس على ليبيا
لكن ماذا عن صراع النفوذ الروسي التركي على الجبهة الليبية؟ وهل من مصلحة روسيا أن تتوسط بين قبرص وتركيا في ظل محاولاتها لتنسيق موقف موحد مع تركيا في ليبيا؟
بالنسبة لروسيا، هي تريد استعادة تواجدها السوفيتي القديم في ليبيا، بالإضافة إلى تثبيت نفوذها في منطقة حوض شرق المتوسط من خلال ليبيا التي تمثل بيئة مناسبة لإنشاء قاعدة بحرية روسية جديدة تطل على موقع استراتيجي هناك. أما بالنسبة لأنقرة، فإنه لا يمكن النظر إلى إجمالي أطماعها على الساحة الليبية بمنأى عن منابع الطاقة سواء الموجودة في الأراضي الليبية نفسها، أو الموجودة داخل المياه الإقليمية الليبية في البحر المتوسط. إذن من المرجح أن يتحدد الموقف الروسي تجاه الوساطة بين تركيا وقبرص وفقا لتطورات الوضع في ليبيا، فإذا أيقنت أن نفوذ تركيا يمكن أن يمتد في ليبيا فقد تقرر روسيا التوسط بينها وبين قبرص بغرض التوصل إلى تسوية من شأنها أن تساعد على تحييد الرأي العالمي بحق الاستفزازات التركية الأخيرة في المنطقة.