أوروبا

رئاسة ألمانيا للاتحاد الأوروبي بين الأولويات المُلحّة والتحديات المُتشابكة

تتولى ألمانيا رئاسة مجلس الاتحاد الأوروبي، لمدة ستة أشهر، اعتبارا من يوليو الماضي منذ آخر مرة ترأست فيها برلين الاتحاد عام 2007. 

وتختلف الأوضاع الحالية كثيرا عن السابق نظرا لما تشهده أوروبا والعالم من تطورات متلاحقة بسبب أزمة اللجوء وتداعيات جائحة كورونا، فضلا عن تزعزع أسس السياسات والتحالفات الإقليمية.

وستتولى ألمانيا رئاسة جميع اجتماعات المجلس التي تقدر بما يقرب من 1500 اجتماع وحوالي 200 مجموعة عمل ولجنة علاوة على الاجتماعات الوزارية.

تأتي رئاسة ألمانيا للاتحاد مع الجهود الأوروبية الرامية للاستجابة بفعالية لأزمة الفيروس التاجي “كوفيد-19″، ومحاولة احتواء عواقبه الاقتصادية والاجتماعية التي أثرت على أوروبا بشكل كبير.

وتأتي أيضا في ظل تنامي التحولات الدولية والإقليمية التي انعكست تداعياتها على القوى الأوروبية مثل أزمات الشرق الأوسط وما نتج عنها من تدفقات لمواجهات الهجرة غير الشرعية، وتزايد طلبات اللجوء، الأمر الذي دفع بعض القوى الإقليمية مثل تركيا باستخدام هذه الملفات كأوراق ضغط على أوروبا لتوظيفها لتحقيق مصالح أنقرة.

كما تأتي رئاسة ألمانيا للاتحاد في ظل انتشار حالة عدم الاستقرار والفوضى على خلفية انهيار عدد من الأنظمة السياسية في المنطقة وتعرضها لهجمات إرهابية، بجانب تزايد التيارات الشعبوية والمتطرفة المناهضة لسياسات الاتحاد والداعمة للنهج القومي التي أثرت على سياسات التكامل الأوروبي، وساهمت في غيات آليات التضامن على مستوى الاتحاد الأوروبي.

الأمر الذي يعد أولوية لألمانيا خلال فترة رئاستها للاتحاد لكي تساهم في إعادة توحيد الجهود الأوروبية لتعزيز التضامن بين دوله لمواجهة هذه التحديات والمخاطر المُتنامية. وبرهنت عليه من خلال تبنيها شعار “معا لإنعاش أوروبا” بعدد من اللغات على بوابة “براندنبورغ” في العاصمة برلين، كما أدرجت هذه الملفات على أجندة أعمالها لتكون أولوياتها.
 

أولويات الرئاسة الألمانية لمجلس الاتحاد الأوروبي

كشفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمام البرلمان الأوروبي في 8 يوليو عن أهم أولوياتها خلال مدة لرئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي وذلك وفقا لما تقضية المصلحة الأوروبية بالتركيز على معالجة التحديات الناجمة عن “كوفيد-19″، لتكون نقطة انطلاق لتحقيق الاستقلال الأوروبي من خلال التماسك الداخلي والاعتماد على النفس، في إطار عالم مُتغير. 

وعليه تتمثل أبرز أولوياتها على النحو التالي: 

  • التغلب الدائم على “كوفيد-19” والانتعاش الاقتصادي 

تعد إدارة أزمة “كوفيد-19″ أكبر تحدي لـ”ميركل” إبان رئاستها للاتحاد، لكونها تحتاج إلى جهود منسقة ومستدامة لاحتواء الأزمة والتغلب عليها، وعليه فستركز برلين على معالجة العواقب الاقتصادية والاجتماعية. الناجمة عن الأزمة، لضمان الانتقال إلى اقتصاد مستدام يستند إلى معايير الصفقة الخضراء الأوروبية، علاوة على دعم الشركات الصغيرة والمتوسطة التي تأثرت بتداعيات جائحة الفيروس التاجي، تجنبًا للانهيار أو الاستحواذ عليها من قبل بعض القوى الكبرى مثل الصين. مع إبقاء الأسواق مفتوحة لتعزيز التجارة وزيادة مرونة سلاسل التوريد. كما ترغب برلين في تحسين التنسيق بين الدول الأعضاء في أوقات الأزمات، وتعزيز مراقبة الحدود والدفاع عنها. مع الالتزام بحماية المجتمعات من الترويج للمعلومات المضللة التي تؤدي إلى حالة من الاستقطاب والانقسام. 

أوروبا أقوى وأكثر ابتكارًا

زادت أزمة الفيروس التاجي من ضرورة توسيع السيادة الرقمية للاتحاد حتى يظل قادرا على العمل بشكل مستقل، لذا ستستند برلين في سياساتها على تعزيز السيادة الرقمية الأوروبية، ومواجهة تحديات التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي حتى تتمتع أوروبا بخبرة دولية في التقنيات الرقمية الرئيسية، مع ضمان انفتاح السوق الأوروبية الموحدة. بما في ذلك مراقبة القدرات الرقمية الأوروبية بشكل مستمر، فضلاً عن توضيح تعريف السيادة الرقمية بين الدول الأعضاء والاتحاد لتحديد فهم مشترك لها. وفيما يتعلق بالصفقة الخضراء فإنها ستعمل على تنفيذ الاتفاق واتخاذ التدابير اللازمة الداعمة للتحول البيئي والتخلص التدريجي من الانبعاثات الكربونية، مع الالتزام بخطة التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030. بجانب ضمان استمرار الاتحاد كفاعل دولي بارز وطموح في الدبلوماسية المناخية والاستدامة والقيم الأوروبية.

أوروبا عادلة

أدت جائحة كورونا إلى تفاقم عدم المساواة لذا ستعمد برلين على معالجة التداعيات الاجتماعية للفيروس التي أثرت على التماسك الاجتماعي، من خلال التضامن بين الأجيال وخاصة حماية الأطفال والمسنين الذين يعيشون في الأزمات لأن التحديات الأمنية على الصعيد الاجتماعي ستزداد في سياق المُتغيرات البيئية والرقمية والديموجرافية. بجانب تعزيز المساواة بين المرأة والرجل مع النظر في القضايا المتعلقة بالأشخاص ذوي الإعاقة ودعم المجتمع المدني. 

الأمن الأوروبي والقيم المشتركة

أكدت برلين التزامها بإجراء إصلاحات لسياسة اللجوء والهجرة، وحماية القيم الأساسية والحقوق والحريات الفردية على مستوى الاتحاد الأوروبي. بجانب إدارة حوار سياسي حول سيادة القانون بين الدول الأعضاء، البدء في تطوير فهم أفضل بين جميع الدول الأعضاء لتحديد التهديدات في مرحلة مبكرة والقدرة على تقديم الدعم المتبادل. بالإضافة إلى تعزيز قدرة اليوروبول على دعم العمل التشغيلي لوكالات الأمن القومي لمكافحة الجريمة العابرة للحدود والتهديدات الإرهابية والمتطرفة، داعيةً إلى زيادة التعاون بين الدول الأعضاء في أمن الشبكات والمعلومات، وخاصة لحماية البنية التحتية الحيوية من أجل المصلحة العامة. 

اتحاد أوروبي فعال قائم على الشراكة والقواعد

أكدت ألمانيا على تحديد أولوياتها الخارجية التي ستتمثل في التعاون الدولي متعدد الأطراف، لمعالجة الأزمات وزيادة القدرة على الاستجابة على خاصة تجاه دول غرب البلقان ومساندتهم للانضمام إلى الاتحاد، والمنطقة الشرقية والجنوبية وأفريقيا، مع بلورة حوار سياسي إيجابي مع الولايات المتحدة باعتبارها أقرب الشركاء الأمنين مع دعم العلاقات المستقبلية بين الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة التي يجب أن تكون متوازنة بين الحقوق والالتزامات وشروط التنافسية العادلة. 

وفيما يتعلق بالصين فإن ألمانيا ترغب في توسيع العلاقات معها وفقًا للقيم والمصالح المشتركة للاتحاد على المدى الطويل. أما موقفهم من الصراعات الكبرى فإنها تؤكد ضرورة حل الصراع الليبي والتعامل مع الأزمة السورية وحل قضية البرنامج النووي الإيراني، ومنطقة الساحل وشرق أوكرانيا. علاوة على دعمها لحل الدولتين كأساس للسلام في منطقة الشرق الأوسط. علاوة على مواصلة دعم جهود السلام في أفغانستان. وتوسيع علاقات الاتحاد الأوروبي مع أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، على الصعيد الاقتصادي والعلمي.  وأخيرًا دعم الهياكل ومبادرات التعاون الدفاعي والأمني لتعزيز القيادة المدنية والعسكرية الأوروبية. وعليه ستنشئ ألمانيا مركزا أوروبيا لإدارة الأزمات المدنية لوضع معايير مفاهيمية وتوصيات لعمليات الأزمات المدنية.

تحديات مُتشابكة

تواجه “ميركل” عددا من التحديات المُتنامية بالرغم من طرحها أجندة طموحة كأساس لتوجهاتها أثناء فترة رئاستها لمجلس الاتحاد الأوروبي.

 تتجلى هذه التحديات على النحو التالي: 

• تزامنت قيادة برلين للاتحاد مع قمة القادة الأوروبيين في بروكسل في 17 و18 يوليو التي امتدت إلى يوم 20 يوليو نتيجة عدم توافق بين القوى الأوروبية المتحفظة على خطة الإنعاش الاقتصادية الموحدة التي تقدر قيماتها بـ 750 مليار يورو لمجابهة أزمة “كوفيد-19″، يمولها قرض مشترك من دول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، هي اقتراح فرنسي ألماني؛ حيث تتحفظ بعض الدول مثل السويد والدنمارك وهولندا والنمسا على الخطة، مع مطالبتهم بتخفيض قيمة الأموال المقدمة للدول التي تضررت من أزمة “كوفيد-19” في سياق الخطة الاقتصادية المُقترحة. وبالرغم من ذلك استطاعت “ميركل” بجانب عدد من القوى الأوروبية التوصل إلى اتفاق حول خطة الإنعاش الأوروبية يساهم في الحد من تداعيات أزمة الفيروس التاجي. 

• احتمالية عدم تمكنها من إقناع الدول الأعضاء للتوافق حول بعض القضايا محل الاهتمام المشترك مثل قضية التحول الرقمي والبيئي على المدى القصير والالتزام بذلك؛ حيث تسعى ميركل إلى تعزيز التعاون متعدد الأطراف لمعالجة هذه القضايا بين القوى الأوروبية لضمان تحقيق السيادة الرقمية وبنود الصفقة الخضراء التي ستنعكس على طبيعة عمل الاتحاد كفاعل دولي في هذه المجالات. 

• يأتي ملف خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في صدارة أولويات برلين، خاصة مع مرور نصف مدة المرحلة الانتقالية التي بدأ منذ 31 يناير 2020 وستنهي في ديسمبر 2020، دون التوصل إلى اتفاق بين لندن وبروكسل الأمر الذي يعد تحديًا لها خلال فترة رئاستها، خاصة مع إعلان “ميشال بارنييه” المفاوض الأوروبي أول يوليو استمرار “التباينات الهائلة” بين الاتحاد ولندن حول الاتفاق الذي سيحدد طبيعة العلاقات المستقبلية بينهم. 

• بالإضافة إلى ملف اللجوء والهجرة غير الشرعية الذي يُمثل نقطة خلاف بين القوى الأوروبية؛ إذ ترغب برلين في توظيف الملف لصالح أهدافها الوطنية من خلال انتهاج سياسة تقاسم اللاجئين بينهم بدون النظر إلى تداعياته على باقي الدولي التي تواجه تحديات داخلية وخارجية تتعلق بالأوضاع الاقتصادية، وعدم قدراتهم على استيعاب هذه الأعداد داخل مجتمعاتها. الأمر الذي ساهم في تنامي الاتجاهات الانعزالية والقومية الرافضة للاندماج، والداعية لعدم الالتزام بسياسات الاتحاد الأوروبي لما لها انعكاسات عميقة على مجتمعاتهم. 

ختاما: تعد فترة رئاسة المستشارة الألمانية لمجلس الاتحاد الأوروبي مرحلة أخيرة في مسيرة “ميركل” قبل انتهاء ولايتها بنهاية العام الحالي. 

وعليه من المتوقع أن تبذل “ميركل” جهودا استثنائية لمواجهة التحديات الأوروبية المُتتالية لكي تُضاف إلى تاريخها السياسي قائدة أوروبية وألمانية ساهمت في إدارة عديد من الملفات الإقليمية والدولية بكفاءة وفعالية. 

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

آية عبد العزيز

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى