
الشراكة المصرية-الأوروبية.. آفاق أرحب للتعاون في الولاية الرئاسية الجديدة
حفزت الأوضاع الراهنة التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط -الناتجة عن تنامي نقاط الاشتعال على خلفية الحرب المستمرة في غزة منذ السابع من أكتوبر 2023 وحتى الآن دون التوصل إلى اتفاق حول وقف إطلاق النار، وما ارتبط بها من توترات في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن، فضلًا عن تصاعد حدة الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل، علاوة على تصدع المشهد السياسي في بعض دول المنطقة- تعزيز التعاون ورفع مستوى العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر، الأمر الذي تمثل في إعلان المفوضية الأوروبية إبرام اتفاقية مع مصر في 17 مارس 2023 ترُكز على رفع العلاقات بين الجانبين إلى مستوى “الشراكة الاستراتيجية الشاملة”، وتقديم حزمة من المساعدات المالية تُقدر بنحو 7.4 مليارات يورو لمصر خلال الفترة من عام 2024 وحتى عام2027، وتعزيز التعاون في عدد من المجالات الأخرى، وذلك إبان زيارة وفد من القادة الأوروبيين للقاهرة برئاسة السيدة “أوسولا فون دير لاين” رئيسة المفوضية، وبصحبة كلٍ من رئيس وزراء بلجيكا –رئيس الاتحاد الأوروبي حاليًا-، ورئيس وزراء اليونان، ورئيسة وزراء إيطاليا، ومستشار النمسا، ورئيس قبرص.
استهدفت اتفاقية الشراكة تعزيز العلاقات السياسية بين الجانبين من خلال عقد قمة كل عامين على رأس مجلس الشراكة السنوي، ودعم الاستقرار الاقتصادي، وزيادة التعاون الاستثماري لا سيما في قطاع الطاقة، بجانب التعاون في مجال الهجرة واللجوء، ومكافحة الإرهاب، وضمان تأمين الحدود، ومنع ومواجهة التهديدات الأمنية، واستمرار العمل المشترك في مجال التعليم، والتدريب، والبحث، والابتكار.
وتعكس الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الاتحاد الأوروبي ومصر مدى عمق واستمرار العلاقات التاريخية والمتوازنة بين الجانبين، فضلًا عن رغبتهما في تكثيف التعاون في الملفات والقضايا ذات الاهتمام المشترك، والذي يرتكز بالأساس على ثقل الجانبين، وقدرتهما على الاستجابة للأزمات المُتتالية، وهو ما تجلى خلال حرب غزة وتوافقهم بشأن خفض التصعيد والحد من اتساع نطاع الصراع في المنطقة واحتواء تبعات الوضع الراهن، والذي يهدد الأمن والسلم الإقليمين والدوليين.
مُحفزات عدّة
أسهم عديد من العوامل في استمرار تطور مسار العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر في العديد من المجالات، وذلك في سياق التحولات التي يشهدها النظام العالمي التي تزايدت منذ جائحة “كوفيد-19″، وتصاعدت مع اندلاع واستمرار الحرب الروسية-الأوكرانية بدون حسم لأكثر من عامين، فضلًا عن تفاقم الأزمات الإقليمية على خلفية غياب التسوية السياسية السلمية لها، وهو ما انعكس بشكل سلبي على أمن واستقرار المنطقة، وامتدت تداعياته إلى العواصم الأوروبية، هذا بالإضافة إلى جُملة من المحددات الأخرى التي منها:
- دعم الشركاء: جاء الإعلان عن الاتفاقية بين مصر والاتحاد الأوروبي في إطار الشراكة القائمة بين الجانبين منذ عام 2004، والتي حددت أولويات الشراكة، وحفزت من مسار التعاون. ذلك بالإضافة إلى توجه الاتحاد الأوروبي لدعم قدرة واستجابة القوى الإقليمية الواقعة في منطقة شمال أفريقيا على احتواء التحديات، وتعزيز استقرارها الاقتصادي، علاوة على التعاون المشترك للحد من تنامي موجات الهجرة غير الشرعية من خلال معالجة أسبابها، وذلك انطلاقًا من أن الملف يحتل أولوية لدى الجانبين، فضلًا عن تبني الدولة المصرية مقاربة شاملة لمعالجة هذا الملف مرتكزة على مجموعة من الأبعاد الإنسانية والأمنية والتشريعية، المتوافقة مع المواثيق الدولية، بجانب إطلاقها أول استراتيجية وطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية (2026-2016)، واستضافة الملايين من اللاجئين ودمجهم في المجتمع.
- تقوية الدور: تمثل الاتفاقية ترجمة عملية لدعم القوى الأوروبية لدور مص بوصفها دولة محورية ورقمًا مهمًا في معادلة أمن واستقرار المنطقة، فضلًا عن التزامها بثوابت مُتوازنة في تعاطيها مع الأزمات تتمثل في: التأكيد على أهمية التسوية السياسية والسلمية للأزمات، ورفض الحلول العسكرية، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، والتزامها الدفاع عن السيادة الوطنية والسلامة الإقليمية، فضلًا عن كون القاهرة شريكًا إقليميًا مهمًا للقوى الأوروبية في معالجة العديد من الملفات في مقدمتها الهجرة غير الشرعية، ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى زيادة قدراتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن الاضطرابات الإقليمية والدولية.
- توافق مُعزز: تعد هذه الخطوة تتويجًا لمسار العلاقات بين الاتحاد الأوروبي ومصر على مدار عقود، وتُعد نتاجًا لتوافق الجانبين على آليات التعامل مع التهديدات المشتركة التي تصاعدت خلال السنوات الأخيرة؛ إذ لم تُعد قاصرة على التهديدات الأمنية التقليدية فحسب، مثل الإرهاب العابر للحدود بل شملت أنماطًا غير تقليدية، الأمر الذي يستوجب أهمية تنسيق التعاون متعدد الأطراف للتصدي لها. كما ستوفر المزيد من الفرص للتباحث بشأن قضايا التعاون على المستوى الثنائي والإقليمي ذات الأولوية المشتركة، فضلًا عن الأوضاع في المنطقة وفي مقدمتها الحرب في غزة.
آفاق مُحتملة
تأتي اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين الاتحاد الأوروبي ومصر قبل نحو شهر من بدء الولاية الجديدة للسيد الرئيس “عبد الفتاح السيسي” بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية التي عقدت خلال شهر ديسمبر 2023، لذا من المُتوقع أن تشهد السنوات المُقبلة المزيد من التعاون والتنسيق المشترك بين القاهرة والقوى الأوروبية على كافة الأصعدة، بما يتوافق مع مصالحهم المشتركة، تتمثل أبرزها على النحو التالي:
- سياسيًا: من المُرجح أن تشهد الولاية الجديدة حوارً مُكثفًا بين مصر والقوى الأوروبية بشأن العديد من الملفات على رأسها وقف إطلاق النار في غزة بشكل فوري، وإنهاء الأعمال العدائية ضد الفلسطينيين، وزيادة المساعدات الإنسانية إلى القطاع؛ للحد من تفاقم الوضع الإنساني، تمهيدًا لإعادة إحياء عملية السلام في المنطقة، بما يسهم في التوصل لحل شامل وعادل للقضية مُرتكز على مبدأ “حل الدولتين”، وذلك بناءً على موقف مصر الثابت من القضية.هذا بجانب الاستمرار في التواصل بشأن الأزمات الأخرى مثل: الأزمة الليبية، والسودانية، والسورية، وما تواجه منطقة القرن الأفريقي من تحديات مُتلاحقة وذلك في سياق سعيهما لاستعادة الأمن والاستقرار في المنطقة عبر الحد من اتساع نطاق الأزمات.
ذلك بالإضافة إلى زيادة فرص التوافق السياسي بشأن العديد من القضايا بموجب اتفاقية الشراكة، وفي ضوء مجلس الشراكة الأوروبي-المصري؛ حيث شهد الاجتماع العاشر الذي عقد في يناير 2024، التأكيد على الرغبة المشتركة للارتقاء بالعلاقات بين مصر والاتحاد الأوروبي إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة. واتصالًا بذلك من المُتوقع أيضًا أن يتم توطيد العلاقات على المستوى الثنائي مع القوى الأوروبية مثل: فرنسا، وألمانيا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، واليونان، وقبرص، وبلجيكا، والنمسا، وإسبانيا، عبر بحث سبل تعزيز التعاون المشترك في المجالات المختلفة لا سيما السياسية المُرتكزة على دعم الاستقرار الإقليمي، والاقتصادية ذات الصلة بقطاع الطاقة، وخاصة مع اليونان وقبرص تحت مظلة آلية التعاون الثلاثي.
- اقتصاديًا: من المُتوقع أن يتصاعد حجم التبادل التجاري بين مصر والاتحاد الأوروبي على خلفية اتفاقية الشراكة خلال المرحلة القادمة في العديد من القطاعات الاقتصادية وخاصة الطاقة المتجددة لا سيّما في إطار منتدى شرق المتوسط، فضلًا عن احتمالية تنامي مشاريع الربط الكهربائي مع الدول الأوروبية، فقد سبق وأن وقعت مصر واليونان مذكرة تفاهم في أكتوبر 2021، بهدف نقل الطاقة إلى أوروبا. ذلك علاوة على تصدير الغاز إلى أوروبا على خلفية توقيع مصر والاتحاد الأوروبي وإسرائيل مذكرة تفاهم في يونيو 2022 لتصدير الغاز بعد تسييله في المحطات المصرية إلى أوروبا، وذلك بالتزامن مع توجه القوى الأوروبية لزيادة الاعتماد على الطاقة النظيفة، والتخلي بشكل التدريجي عن إمدادات الطاقة الروسية بعد أن تم توظيفها خلال الأزمة الأوكرانية كسلاح ضد الدول الأوروبية.
هذا بجانب قطاع الصناعة، والزراعة، والأمن الغذائي، وخاصة أن الاتحاد الأوروبي يعد أكبر شريك تجاري للقاهرة؛ إذ بلغ حجم التبادل التجاري بين الجانبين حوالي 37 مليار يورو في عام 2023 مُقارنة بعام 2004 الذي بلغ فيه نحو 12 مليار يورو. ويُعد الاتحاد كذلك أحد أكبر المستثمرين في مصر؛ حيث وصل حجم استثماراته في مصر حوالي 8 مليارات دولار في عام 2023.
- عسكريًا: من المُحتمل أن يتزايد حجم وأنماط التعاون العسكري بين مصر والقوى الأوروبية، والذي يُعد ركيزة أساسية في مسار تطور العلاقات بين الجانبين، كما يأتي استجابةً للتحديات والتهديدات المتصاعدة دوليًا وإقليميًا، وذلك في ضوء توافقهم بشأن آليات إدارة العديد من الأزمات، وسعيهم لدفع مسار التعاون بشأن تبادل الخبرات عبر المشاركة في المزيد من المناورات العسكرية الثنائية والمُتعددة الأطراف بالتزامن مع تصاعد الاضطرابات في المنطقة، والتوترات في البحر الأحمر، فقد سبق أن شاركت مصر في العديد من المناورات والتدريبات مثل: التدريب البحري المشترك المصري-الفرنسي “كليوباترا- 2022″، ومناورة “ميدوزا 10” في شرق المتوسط، بمشاركة فرنسا، واليونان، وقبرص، ومصر، والإمارات، خلال الفترة 30 نوفمبر وحتى 6 ديسمبر 2020.
من المُحتمل أيضًا أن تستمر مبيعات السلاح باعتبارها أحد أنماط التعاون العسكري المصري-الأوروبي، فوفقًا لتقرير صادر في مارس 2024، لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث والسلام، الذي جاء بعنوان: “الاتجاهات العالمية لعمليات نقل السلاح“، تعد ألمانيا المورد الرئيس لمصر خلال الفترة من عام 2019 وحتى عام 2023؛ مستحوذة على نحو 27% من واردات الأسلحة المصرية، تليها إيطاليا بنسبة 22%، ثم روسيا بنحو 20%، وفرنسا بحوالي 17%. فيما شملت وارداتها من ألمانيا 3 فرقاطات وغواصتين، ومن إيطاليا فرقاطتين، و20 طائرة مقاتلة من روسيا، و3 فرقاطات وصواريخ بعيدة المدى من فرنسا في نفس الفترة.
- أمنيًا: انطلاقًا من أن مصر شريكًا محوريًا للاتحاد الأوروبي وخاصة فيما يتعلق بالتعاطي مع القضايا الأمنية مثل الهجرة غير الشرعية، وأن مصر سبق وأن وقعت اتفاقيات مُتعلقة بهذا الأمر مع الاتحاد الأوروبي ودوله، مثل: اتفاقية مع الاتحاد في أكتوبر 2018، وبروتوكول لمكافحة الجريمة والهجيرة غير الشرعية مع إيطاليا في 2018 وجُدد في 2020، واتفاق مع ألمانيا في أغسطس 2016، كذلك سبق وأن ثمن تجمع “فيشجراد” الجهود المصرية في هذا الملف؛ لذا من المُتوقع أن يشهد خلال الولاية المقبلة مزيدًا من التعاون والتنسيق المشترك في ضوء اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين القاهرة والقوى الأوروبية؛ إذ سيتم تخصيص 200 مليون يورو لإدارة مسألة الهجرة.
أما فيما يتعلق بملف مكافحة الإرهاب فيُعد من الملفات ذات الأولوية، لذا سيستمر التنسيق في هذا الأمر خاصة وأن مصر حاليًا تتولى الرئاسة المشتركة مع الاتحاد الأوروبي للمنتدى العالمي لمكافحة الإرهاب لمدة عامين بعد أن تسلمت رئاسته بشكل رسمي في مايو 2023، فضلًا عن أن لديها تجربة عملية في مكافحة الإرهاب والتطرف ترتكز على انتهاج مُقاربة شاملة مُتعددة الأبعاد، وهو ما يعد فرصة لتكثيف النقاش حول آليات مجابهة هذه الظاهرة المُتنامية، في إطار تنامي الاضطرابات الإقليمية التي قد توفر بيئة خصبة لتنامي التنظيمات الإرهابية.
ختامًا: من المُتوقع أن تشهد الولاية الجديدة للرئيس “عبد الفتاح السيسي” وضع لبنات جديدة في مسار العلاقات المصرية-الأوروبية في مختلف القطاعات، بجانب استمرار التوافق بشأن آليات التعاطي مع الأزمات الإقليمية، التي برهنت على أن ضمان الأمن الأوروبي مرهون باستقرار الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية