شرق المتوسط

ما بعد الترسيم.. المكاسب المصرية اليونانية والمأزق التركي

ما إن تم الإعلان عن توقيع الجانبين المصري اليوناني عن اتفاق لترسيم حدودهما البحرية، تعالت الأصوات التركية الرسمية المعارضة لهذا الاتفاق. تلك المعارضة التي تأتي في إطار سياسة تركية رافضة لأي نهج من شأنه شرعنة الحقوق البحرية لدول المنطقة، وهو ما تجلى في رفضها السابق لاتفاق تعيين الحدود البحرية المصرية القبرصية، والقبرصية –الإسرائيلية، ومؤخرًا اليونانية- الإيطالية. وهنا يُثار التساؤل حول الدوافع التركية جراء تلك المعارضة، وإلى أي مدى يشكل الاتفاق اليوناني المصري مأزقًا أمام السياسة التركية.

أسباب المعارضة التركية

يعد السبب الأكثر جوهرية بالنسبة لتركيا من تصعيد تحركاتها بمنطقة شرق المتوسط، ورفض أي اتفاق بحري مبرم ما بين دول المنطقة يتمثل في ابتعاد المناطق الاقتصادية الخالصة لتركيا عن مناطق أحواض الترسيب الغازية التي حددتها هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية. فمع اكتشاف إسرائيل لحقلي “تمار وليفثيان”، واكتشاف قبرص لحقل “أفروديت”، وأخيرًا، اكتشاف مصر لحقل “ظهر”، قدرت هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية مؤخرًا احتواء حوض شرق البحر المتوسط ما بين 340 إلى 360 تريليون قدم مكعبة من الغاز الطبيعي، تتراوح قيمتها المالية ما بين 700 مليار دولار و3 تريليونات دولار.

وفي هذا الإطار، صعّدت تركيا من تحركاتها الاستفزازية والتي من شأنها الاستحواذ –بشكل غير شرعي- على أكبر قدر من الموارد الغازية ومحاولة إصباغه الشرعية المفقودة. فإلى جانب غياب المياه التركية عن خريطة الاستكشافات، تعاني تركيا من فقر غازي، حيث تصل نسبة الغاز الذي يتم إنتاجه داخل تركيا ما ب26% من احتياجاتها. وعليه، كان الاعتماد التركي على الاستيراد لتغطية كامل استهلاكها من النفط والغاز تقريبًا، الأمر الذي ينعكس سلبًا على أداء الاقتصاد التركي.

كذلك، تسعى تركيا أيضًا إلى تأكيد مكانتها كبوابة عبور رئيسية للطاقة إلى أوروبا. وبناءً عليه، وضعت تركيا رؤيتها الخاصة إزاء ترسيم الحدود البحرية لمنطقة شرق المتوسط بما يتلاءم مع مخططاتها التي تساعدها في الوصول إلى مناطق غنية بحقول الغاز، وتمكنها من ترسيخ نفسها كممر رئيسي للطاقة. وتبعًا لما تقدم، عمدت تركيا خلال الفترة الماضية إلى تصعيد حدة خلافاتها مع الجانب اليوناني داخل منطقة شرق المتوسط؛ تحقيقًا لطموحاتها التوسعية.

ظلال النزاع اليوناني التركي

يجمع كلًا من اليونان وتركيا تاريخ طويل من النزاعات -وتحديدًا- حول جزر بحر إيجه، والتي بموجب اتفاقية لوزان عام 1923، تمتلك اليونان السيادة عليها كلها ما عدا جزر ” طفشان وجوكتش يادا وبوزكادا” الواقعة بمضيق الدرنديل. وهنا يقع الخلاف التركي اليوناني حول ادعاء الأولى أحقيتها بجزر شرق إيجه، التي تمثل نقطة الاتصال المباشرة بين بحر إيجه والبحار المفتوحة، وهو ما يضفي لمالكها نفوذًا قويًا على الملاحة الحرة، والطيران، والأمن بشكل عام في المنطقة.

وقد اتخذت الخلافات ما بين البلدين منحى تصاعديًا مع اتجاه تركيا إلى نشر سفن الحفر والتنقيب بمناطق جزر بحر إيجه منذ أكتوبر 2018. وفي سبتمبر 2019، نُشر على موقع الرئاسة التركية صورة أردوغان، وخلفه خريطة توضح ما تطلق عليه أنقرة “الوطن الأزرق”، حيث تتوسع خريطة تركيا لتشمل الجزء الشرقي بكامله من بحر إيجه، وكذلك جزر ليمنوس ولسبوس ورودس وشيوس اليونانية. وفي نوفمبر من نفس العام، كان الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الليبية والذي بمقتضاه اُقتطِعت مناطق من المياه الاقتصادية اليونانية وتم إلحاقها للسيادة البحرية لتركيا. وبمقتضى هذا الاتفاق نشرت تركيا بالثاني من يونيو 2020 خريطة تنقيب جديدة. تقع إشكالية تلك الخريطة–الموضحة أدناه- كونها تضم مناطق تقع بالمياه الاقتصادية الخالصة لليونان –وتحديدًا قبالة سواحل جزر رودس وكارباثوس وكريت اليونانية-.  

المعضلة التركية في شرق المتوسط

بتوقيع الجانبين المصري واليوناني لاتفاق تعيين حدودهما البحرية، تواجه الحكومة التركية معضلة جديدة سواءً في محيط منطقة شرق المتوسط أو في قبالة المجتمع الدولي بشكل عام؛ لعدة أسباب:

الأول، استندت اليونان في اتفاقياتها البحرية الأخيرة المبرمة مع كل من مصر وإيطاليا إلى ما ينص عليه القانون الدولي للبحار من قواعد، وهو ما يمنح الجانب اليوناني شرعية على جزره وذلك في مقابل ما تدعيه تركيا من أحقية بها. وبمقتضى ما تقره كلتا الاتفاقيتين، تضعف مبررات أنقرة في التنقيب عن النفط خارج حدودها بالبحر المتوسط، علاوة على أن أي تحرك تركي بالمناطق اليونانية الخالصة الواردة بالاتفاقيات المبرمة، يضع تركيا في مواجهة مباشرة مع الاتحاد الأوروبي، بما يقلل في النهاية من فرص الحلم التركي لدخول الاتحاد الأوروبي، بل ويعزز من إمكانية اتخاذ الاتحاد لقرار فرض عقوبات اقتصادية على الجانب التركي.

الثانى، يأتي الاتفاق المصري اليوناني في مواجهة الاتفاق التركي مع حكومة الوفاق الليبية. استندت تركيا خلال الفترة الأخيرة في تبرير وشرعنة تحركاتها بمنطقة شرق المتوسط إلى اتفاقها المبرم مع حكومة الوفاق الليبية-المنتهية ولايتها، والذي تقتطع من خلاله مناطق بالجرف القاري اليوناني، وتحديدًا جنوب جزيرة كريت. ولكن، جاء الاتفاق المصري اليوناني ليُدحض شرعية الاتفاق التركي الليبي، وأيضًا شرعية أي تحرك تركي داخل تلك المنطقة.

الثالث: من خلال تعيين الحدود البحرية لليونان مع كلًا من مصر وإيطاليا، تتقلص إمكانات تحقيق الطموح التركي الخاص بالرغبة في أن تكون تركيا المعبر الرئيسي والمتحكم الوحيد بخطوط إمداد الغاز الموجه لأوروبا بحيث تضمن السيطرة على أمن الطاقة الأوروبي بما يمنحها ورقة ضغط على الاتحاد. في مقابل ذلك، تتصاعد فرص اليونان في التحول إلى معبر للطاقة الأوروبية من ناحية الجنوب. ففي حال إتمام مشروع خط غاز شرق المتوسط East- Med مع كُل من اليونان وإسرائيل وقبرص، ستصبح الأراضي اليونانية معبرًا لنقل الغاز والذي يستهدف نقل الغاز من الدول المُنتجة إلى داخل أوروبا.

الرابع، ستُغيب اتفاقات تعيين الحدود تركيا عن خريطة شركات التنقيب العالمية بالمنطقة، لاسيما مع ما أكدته الاتفاقيات الأخيرة من بطلان أي ادعاء تركي بالسيادة بالمناطق المعروف عنها كونها مناطق غازية، علاوة على عدم امتلاك تركيا للإمكانيات اللازمة لإتمام عمليات التنقيب والاستكشاف بما يُقلص من قدرة تركيا على إجراء عمليات استخراج الغاز بالمناطق التي تدعي السيادة عليها وتجري في إطارها ما تدعيه من عمليات مسح.

وإجمالًا، يمكن القول إن الاتفاق البحري المصري اليوناني قد أضاف معضلة جديدة أمام صانع القرار التركي من خلال ما أقره الاتفاق ليس فقط من تحديد للحدود البحرية المصرية اليونانية، بل وأيضًا من تضييق لمساحات الحركة التركية بمناطق شرق المتوسط، وهو ما قد تواجهه تركيا بتكثيف انخراطها داخل سياق الأزمة اللليبية، حتى لا تغيب عن مشهد التفاعلات بالمنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى