
أحلام اليقظة .. الاستراتيجية التركية لإحياء الدولة العثمانية
يراود حلم الخلافة العثمانية الساقطة ذهن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، معتقدًا في وجود فرصة لإعادة إحياء تلك الدولة، التي ستكون بوابةً لإحكام السيطرة على الدول الوطنية الناهضة بالاقليم والتي كانت يومًا ما تتبع الباب العالي. وفيما صرح أردوغان بحديثه لبعض قواته قائلًا “نأمل في أن يحقق جنودنا في شرق المتوسط ملاحم بطولية كتلك التي حققها أمير البحارة العثمانيين “خير الدين بربروس”، وهم بالفعل سيواصلون كتابة تلك الملاحم”، ينفي الرئيس التركي وجود نوايا لدى نظام حزبه “العداله والتنمية” لذلك، أو أن تكون تحركاته مدفوعةً بالرغبة في إحياء الأرث العثماني.
وفي هذا الصدد يجب الإشارة إلى وجود مشروعات تتقاطع برامجها معًا في إقليم الشرق الاوسط، مثل إحياء الدولة العثمانية التي سقطت فى العام 1922، وكان مركزها تركيا، وارتكزت على إدعاء توحيد مسلمي العالم، وهو الحلم الذي يسعى النظام التركي الحالي لتحقيقه ومشروع إحياء الدولة الفارسية، وتضطلع بهذا الطرح طهران، التي لا تتوانى عن خلق وكلاء محليين داخل ساحات النزاعات الاقليمية، وهو مشروع مذهبي شيعي قائم على مبادئ لا تلقى ترحيبًا بالمنطقة.
بينما على الجانب الآخر يأتي مشروع الدولة أو التجمع العربي الذي أطلق من القاهرة، ويهدف الى تنسيق جهود الدول العربية لتحقيق التكامل والتنمية وبناء السلام، وتعميم الاستقرار الاقليمي بما يحقق سلامة الوطن العربي من أطماع المشروعات الأخرى.
ومما سبق، فإن المشروع التركي إحياء الخلافة العثمانية يستهدف ذات المناطق والأقطار التي تخطط المشروعات الاقليمية الأخرى لضمها لبنيتها الأساسية، لا سيما الدول العربية التي خرجت من السيطرة العثمانية وعانت من ويلات سياسات القديمة، والتي نالت استقلالها بعد سباق طويل مع الاستعمار الخارجي الذي أت إليه سياسات الباب العالي في فترات حكمه الاخيرة.
وبالعودة إلى السعي التركي لاحياء الدولة العثمانية، نجد أنه –في الوقت الراهن- أكثر المشروعات تصديرًا للاضطربات وانتهاكًا لسيادة دول المنطقة، وهو يسارع لاستثمار حالة الانشغال الدولي لمواجهة تداعيات جائحة كورونا، فضلًا عن استغلال ما تعانيه بعض دول الشرق الاوسط بعد ما سمي بـ “الربيع العربي” وتصاعد نفوذ تيارات الاسلام السياسي فيها، وهي تيارات نجحت أنقرة في السيطرة عليها وتطويعها للتماشي مع أهدافها. ونتناول فيما هو قادم أدوات العمل التي اعتمدتها الاستراتيجية التركية للتمدد إقليميًا، وأبرز العقبات التي تواجهها أنقرة في التطبيق الفعال والناجح لتلك الاستراتيجية.
آليات المد العثماني في الاقليم .. الاقتصاد والارهاب والأزمات الانسانية
اعتمدت تركيا على مجموعات آليات التحرك لتطبيق استراتيجيتها للتمدد بالشرق الاوسط، تنوعت بين التسلل الاقتصادي وبذرعية تقديم المساعدات الانسانية تارةً، وبابتزاز دول الجوار الاوروبي تارة أخرى، وصعدت في بعض الاحيان في تدخلاتها لتعتمد القوة العسكرية في التعاطي مع حالات كسوريا والعراق وليبيا عبر الجيش التركي بشكل مباشر أو عبر مجموعات المرتزقة الواقعين في أسر الامتيازات المغررين بها. كما حاولت أنقرة التقارب مرحليًا في بعض الملفات مع الدول التي لديها مشروعات اقليمية أخرى، أو وسطاء وتنظيمات ارهابية محظورة لتحقيق ما تريد في ميادين المواجهة بالمنطقة، بل تدخلت بشكل واضح ببعض الدول لتطبيق برامج تغيير ديموجرافي وتوطين عناصر موالية لها بالمناطق التي تطمع في ثرواتها وأراضيها.
وقد برز اتجاه تركيا نحو التسلل الاقتصادي الإنساني مع انطلاق سياستها للاستحواذ على امتيازات بموانئ ومطارات اليمن بعد العام2011، وهو ما تكرر في محاولات انقرة للاستثمار بجزيرة سواكن السودانية وعدد من موانئ الصومال، بالاضافة الى ما قد تتمكن من الخروج به من مشروعات اعادة الاعمار في مناطق سيطرة التنظيمات الارهابية في أدلب السورية بمناطق سيطرة قوى غرب ليبيا الموالية لها. كما حاولت أنقرة تصدير أنها الراعي والداعم للقضية الفلسطينية في وجه اسرائيل، عبر إثارة الرأي العام العربي والاسلامي بمحاولات توصيل مساعدات لقطاع غزة وإضفاء زخم عليه، كما حدث في واقعة “أسطول الحرية” عام2010. وتعد هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات التركية أبرز أذرع أنقرة التي يتم توظيفها لاستغلال الاوضاع الانسانية في عدد من الدول المأزومة، إما بغرض تصدير صورتها كالحامي للمضطهدين وأصحاب القضايا والكوارث الانسانية، أو تستغل أعمال تلك الهيئة الاغاثية لتهريب الاسلحة والعناصر الاستخباراتية والمرتزقة الى ساحات الصراع، وهو ما أكده موقع أحوال تركية، مارس 2020، بضلوع أنقرة في تهريب كميات كبيرة من السلاح إلى اليمن عبر الموانئ التي تسيطر عليها ميليشيا الحوثي، وتم استخدامها في عمليات واسعة النطاق لاغتيال شخصيات أمنية وسياسية معارضة.
وعلى صعيد دعم أنقرة وتوظيفها للتنظيمات الارهابية، فقد لعبت تركيا دورًا واضحٌا في تسليح ودعم العديد من التنظيمات الارهابية، وعلى رأسها تنظيمات داعش والقاعدة والاخوان المسلمين، عبر احتضان عناصرها الهاربة من الملاحقات القانونية بدولهم أو توفير الدعم العملياتي واللوجيستي لتحركات وهجمات هذه العناصر وتوفير أحدث الاسلحة، كما وفرت تركيا الرعاية الطبية اللازمة لعلاج مصابي تلك العناصر الارهابية. وكشفت عدة تقارير عن وجود روابط قوية بين الاستخبارات واجهزة الامن التركية وتنظيم داعش الارهابي، وكيف تورطت أنقرة في شراء نفط سوريا والعراق المهرب لصالح الدواعش. وفي سوريا كشفت تقارير دولية عن اشراف المخابرات تركية على إرسال شحنات أسلحة لتنظيم “جبهة النصرة” -الموالي لتنظيم القاعدة- وقُدّرت تلك الشحنات في الفترة من أواخر 2011 حتى 2014 بحوالي 2000 شحنة. ناهيك عن عمليات نقل المرتزقة من أدلب السورية الى مناطق الغرب الليبي، وإيواء تركيا ودعمها لعناصر تنظيم الاخوان المسلمين الهاربين من القضاء المصري، ودعم الاحزاب والحركات الاخوانية في اليمن وتونس وغيرها من دول الاقليم.
كما اتجهت تركيا للتقارب مع بعض مراكز المشروعات الاخرى، لاسيما طهران وإسرائيل وإدخالها للوسيط القطري لتحقيق ذلك، فقد كشفت عدة تقارير عن تؤكد روابط أنقرة التي تسعى لاخفاءها عن العلن، فنجدها تقرر تزويد إسرائيل بمعدات طبية، تشمل كمامات الوجه والوزرات الواقية والقفازات المعقمة، لمساعدة تل أبيب على مكافحة تفشي فيروس كورونا، وتتضح درجات التنسيق التركي الايراني جليةً في الميدان اليمني الذي تمارس فيه جماعة الحوثي الوكلة لايران وتنشط في كنفها مجموعات عالية الارتباط بتنظيم الاخوان الموالي أنقرة، وعلى رأسها حزب الاصلاح الاخواني. وتستثمر تركيا العديد من أوراق الضغط لابتزاز الجوار الاوروبي عبر التهديد بفتح الحدود للمهاجرين للعبور الى اوروبا، أو عبر شراء منظومات تسليحية روسية كمنظومة (أس 400) للضغط على واشنطن والدول الاعضاء بحلف الناتو لتقديم الدعم الذي تريده، سواء تدخل داعم في الساحة السورية أو إطلاق يدها للبعث في شرق المتوسط وليبيا.
عقبات معطلة لبسط النفوذ العثماني
وتتصادم نوايا واتجاهات تركيا واستراتيجية تعاملها مع أزمات وقضايا الشرق الأوسط بعدد من العقبات الكبرى، التي تحول دون أستمرار انقرة في تطببيق تلك الرؤية الاستعمارية بحرية. ومن أبرزها وجود مشروعات إقليمية أخرى تستهدف ذات النطاق الجغرافي، وتوجس الجوار الاوروبي والولايات المتحدة من أن تقود سلوكيات تركيا إلى الاضرار بمصالحها، سواء بتمهيد الساحة لدخول روسيا إلى مياه البحر المتوسط بعد اشنتقال المواجهات في الصراع الليبي إلى مستوى أكثر تصعيدًا، أو بتهديد الأمن الاوروبي عبر موجات المهاجرين الذين توظف أنقرة أوضاعهم لابتزاز أوروبا لوقف خطر انتقالهم إلى اراضيها، كذلك احتمالات انتقال العناصر الإرهابية والمتطرفة عبر بوابات تركيا إلى العمق الاوروبي، ما سيشعل موجات من الاعمال الإرهابية التي عانت منها تلك البلدان التي كانت بعيدة عن أيدي الإرهاب لفترات طويلة بنسب متفاوتة.
وحيث تقود السياسات التركية الى تهديد الأمن الإقليمي، فهي تتعارض مع جملة من المشاريع الوطنية للدول العربية التي ترفض التدخل في شئونها والدعم التركي لتيارات الاسلام السياسي وعمليات اعادة التموضع العثماني في البحر الاحمر أو المتوسط، كونها تحركات ستدفع المنطقة إلى مزيد من الاضطرابات والنزاعات تصب في مصلحة المشروع التركي وتضر بسلامة الدول الوطنية ووحدتها. بالإضافة إلى حالة الداخل التركي المتراجعه، حيث تتداعي بشكل مستمر المنظومة الاقتصادية التركية والعملة الوطنية، كذلك تتصاعد حالة من عدم الرضاء عن سياسات اردوغان القمعية، إلى جانب الانقسامات المتتالية داخل صفوف العدالة والتنمية وبروز أحزاب جديدة قد تقوض من سيطرة العدالة والتنمية على الرئاسة والدولة التركية.
وتجسد مصر –وفقًا للرؤية التركية- العقبة الأصعب أمام تطبيق استراتيجية أنقرة بالمنطقة؛ كونها تمتلك المؤسسة العسكرية النظامية الأقوى والاكثر انضباطًا، وتعمل منذ أعوام لتحديث قدراتها المختلفة متفوقةً عليها وغيرها ممن يتبنون مشروعات تتجاوز الحدود الوطنية. فضلًا عما تتمتع به القاهرة من علاقات قوية ومتوازنة مع الجوار الأوروبي والعربي والقوى الكبرى -القائمة والصاعدة- في ظل ما يعانيه قبول نظام “أردوغان” من تراجع مستمر بين تلك الدوائر.
لذلك فان التعاطي المصري مع قضايا الإقليم هو أكثر ما ترغب تركيا في تحييده عبر الاستماله تارةً، وعبر تصدير مشكلات تارة أخرى، أو من خلال الدخول في عمليات تنقيب بشرق المتوسط أو قيادة عمليات عسكرية في ليبيا بغرض التعرف على ما قد تقدم عليه الدولة المصرية في توقيت ما، ولتحسس الخطوط الفاصلة بين ما قد تسمح به القاهرة وما تعتبره تهديدًا لأمنها القومي.
وختامًا، فإن إعادة إحياء الدولة العثمانية الساقطة أوائل القرن الماضي هو أحد أحلام يقظة “أردوغان”، ونجح في ترويجه للكثير من فاقدي قدرة التمييز بين الدولة الوطنية الموحدة والولايات التابعة لسلطان غير مبال إلا بجمع الجبايات ونقل الحواضر إلى مركز حكمة. وتتصدر قوائم المفارقات، أن تركيا التي يسعى رئيسها لإحياء الخلافة التي لطالما نادت بـ “وحدة مسلمي العالم” هي أول الاقطار التي نادت بفصل الدين عن الحكم، وهي التي ماتزال تفتخر بذلك وبكونها دولة علمانية. ولا يجد “أردوغان” أي غضاضة في الاعلان عن أهدافه من التدخل في شئون الدول المأزومة، مثل ليبيا التي أعلن مؤخرًا نيته توجيه عمليات للسيطرة على مناطق الوسط كونها مكامن للنفط الليبي، وهو ما يفسر اهتمامه المتزايد بمناطق شرق الفرات والشمال السوري ومناطق آبار النفط به. وبذلك فالفشل البين هو مصير تلك الاتجاهات التركية، التي ستزول فور أن يفيق نظام العدالة والتنمية من تلك الاحلام على واقع أنه لا تفريط في الاوطان ولا قبول لاستعمار عثماني وراء أية رايات خادعة.