
“ماكرون وديجول”.. تشابه خارجي وتباين في التحديات
استطاع الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”، الوصول إلى السلطة عن طريق حركة سياسية “إلى الأمام“، تحولت إلى حزب سياسي “الجمهورية إلى الأمام” ذات توجهات سياسية لا تنتمي إلى اليمين أو اليسار وذلك بعد تراجع الأحزاب التقليدية عن المشهد السياسي؛ حيث استمرت لأكثر من ثلاثة عقود. إذ انتهج سياسة إصلاحية على الصعيد الداخلي والخارجي حتى يجعل فرنسا فاعلا دوليا قويا ذات تأثير جيوسياسي في إدارة القضايا الدولية المتلاحقة، مع استعادة مكانتها في النظام العالمي والإقليم الأوروبي لكي تكون قادرة على التنافس مع الولايات المتحدة والصين.

وبالرغم من فوز ماكرون على النخب السياسية اليمينية التي استطاعت أن تكون القوة السياسية المعارضة له، والداعمة للنهج القومي الحمائي، رافضة سياسيات الاتحاد الأوروبي، وتمكن من خلال سياساته من إنشاء العديد من الشركات، وفتح مصانع جديدة، وزيادة الاستثمارات الأجنبية، علاوة على توفير ما يقرب من 500 ألف وظيفة، بجانب طرح مجموعة من المبادرات المتعلقة بالأمن والدفاع الأوروبي، إلا إنه مازال يواجه عددا من التحديات على الصعيد الداخلي التي تجسدت في خروج احتجاجات “السترات الصفراء” في معظم المدن الفرنسية تنديدا بنهجه الإصلاحي، مع تنامي موجات العنف في الشوارع، وتعبئة النقابات ضده للقيام بالإضرابات التي تعد الأطول مقارنة بإضرابات عام 1995، التي استمرت ما يقرب من 22 يوما، كما إنها تخطت مدة إضراب قطاع النقل والمواصلات في الفترة من نهاية عام 1986-1987، الذي استمر لفترة تقترب من 28 يوما.
وهنا عقد بعض المحللين مقارنة ما بين “ماكرون” والرئيس المؤسس للجمهورية الخامسة “شارل ديجول” في توجهاته الخارجية، إلا إنه استمر في سياساته رغم الاستنكار الداخلي وخروج المظاهرات الطلابية عام 1968ضد سياساته، مطالبة بعدد من الإصلاحات.
يذكر أن ديجول كان رئيسًا لفرنسا من عام 1958 إلى 1969 بعد مشاركته في الحرب العالمية الأولى وقيادته لحركة المقاومة “القوات الفرنسية الحرة” خلال الحرب العالمية الثانية.
السياسة الخارجية الفرنسية تجاه أوروبا بين “ديجول” و”ماكرون”
يتشابه كل من “ديجول” و”ماكرون” في رؤيتهم للنظام العالمي والقوى المُهيمنة عليه، لذا فقد وضعا تصورا للدولة الفرنسية باعتبارها دولة مستقلة ذات مقدرات داخلية تدعمها في تحركاتها الخارجية، التي اندرجت تحت ثلاثة مفاهيم رئيسة قامت عليها الجمهورية الخامسة (الاستقلال، والسيادة، وفاعل استراتيجي) تستطيع أن تكون لاعبًا رئيسيا في التوازنات الدولية وتمثل ذلك في موقفهما من بعض القضايا التي تجلت في:
- رؤية أوروبا موحدة مستقلة عن الولايات المتحدة؛ كان طموح “ديجول”أن تكون أوروبا قوى عالمية ثالثة مستقلة قادرة على الحفاظ على مقدراتها العسكرية، ولديها القدرة على حق النقض في عملية صنع واتخاذ القرار، وذلك بدون سلطة فوق الوطنية، خالية من النفوذ الأمريكي تتولى فيها فرنسا دور القيادة، بجانب الانفتاح على الشرق، بما فيهم الاتحاد السوفيتي. وذلك بالرغم من “ديجول” كان يدعم التحالف الغربي، إلا إنه رفض التدخل الأمريكي، وإقامة أي تكتل أوروبي يخضع لسيطرتها. أما “ماكرون” فقد تصور دورا أكبر لأوروبا على الصعيد الدبلوماسي والسياسي والدفاعي والرقمي، ولكن ليس منافسا للولايات المتحدة، كما إنه مازال غامضا فيما يتعلق بكيفية تنفيذ أجندته الإصلاحية المتعلقة بمنطقة اليورو، وميزانية الدفاع في سياق التوتر المتنامي مع ألمانيا تجاه الولايات المتحدة وسياساتها في إطار الناتو، بجانب عدم التوافق حول الموقف من روسيا.
- السيادة؛ بالرغم من أن “ديجول” أكد أهمية السيادة الأوروبية باعتبارها فاعلا ذو خصوصية ثقافية، وتاريخية بعيدة عن التقويض من أي قوى، إلا إنه دعم أهداف السوق المشتركة، وذلك بما يتوافق مع المصالح الفرنسية. وهو ما عبر عنه “ماكرون” من خلال إعادة النظر في السيادة الأوروبية، عبر تبني سياسة استباقية لدرء المخاطر، ودعم سبل التكامل الأوروبي لأن احترام الدول كفاعل في النظام العالمي يكون مصحوبا بسيادة وطنية قوية.
- فاعل استراتيجي؛ سعى “ديجول” إلى أن تكون فرنسا دولة مستقلة تقود الدول الأوروبية، بجانب التوافق مع ألمانيا سياسيا، وتعاون معها كشريك اقتصادي، لضمان عمليات التكامل مع دعم مصالح بلاده، من خلال تعزيز الشراكات الثنائية معها التي تُوجت بمعاهدة صداقة تم توقيعها في أوائل عام 1963، وذلك لإعادة بناء أوروبا كفاعل مستقل. وبالفعل فقد ركز “ماكرون” على بناء أوروبا مستقلة سياسيًا ودفاعيًا، وذلك من خلال تطوير مشروع الوحدة الأوروبية، والتوافق حول عدد من الملفات الدولية العالقة بالتنسيق مع المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل”، بالرغم من أن القيادة السياسية للبلدين لديها قناعة راسخة في ضرورة العمل من أجل استعادة أوروبا لمكانتها إلا أن آليات التنفيذ لم تتوافق عليها البلدين بعد، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي يعبر عن نفاذ صبره من السياسة الألمانية المتراجعة تجاه عمليات الإصلاح الأوروبي.
- الموقف من انضمام بريطانيا للتكتلات الأوروبية؛ عارض “ديجول” دخول بريطانياإلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية المشتركة مرة في عام 1963، وتكرر الأمر في عام 1967، وبالفعل لم تتمكن بريطانيا من الانضمام إلا بعد موت “ديجول”. وذلك نتيجة اعتراضه على التقارب البريطاني الأمريكي، علاوة على قبوله انضمام بريطانيا بشرط أن يكون جيشها جزءا من الجيوش الأوروبية، وأن يعملوا معا لتطوير قدراتهم النووية، وفيما يتعلق بـ “ماكرون” لم يكن يعارض خروج بريطانيا أو لم يعارض استمرارها، ولكنه طالب الحكومة بتوضيح موقفها من الاتحاد وسياساته في سياق الاعداد للخروج من الاتحاد، كما أوضح أن علاقات الصداقة الممتدة بين الشعوب ستستمر، ولكن في سياق الحفاظ على أوروبا موحدة ذات سيادة على كافة الأصعدة.
- التقارب مع روسيا؛ دعم “ديجول” الانفتاح على الاتحاد السوفيتي وخاصة روسيا، ودافع عن الانفراج في العلاقات بين الجانبين، وتم عقد اتفاقيتين تجاريتين بين الجانبين، علاوة على وجود خط هاتفي مباشر بينهما. أما “ماكرون” فإنه يدرك أن روسيا لديها طموحات توسعية، ولكن لابد من التعاون معها لحماية الأمن الأوروبي، واحتواءها بدلاً من مواجهتها، بعد أن أصبحت موسكو فاعلًا دوليًا بارزًا في كثير من الملفات ذات الاهتمام المشترك مع القوى الأوروبية، مثل البرنامج النووي الإيراني، وأزمات الشرق الأوسط، وأوكرانيا علاوة على انسحاب الرئيس الأمريكي من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى، والتخوف مع عودة سباق التسلح على الأراضي الأوروبية.
- التوسع شرقًا؛ كان لدى “ديجول” إيمان بالدولة القومية الوطنية، وعليه فقد تصور أن الأنظمة الشيوعية المؤقتة ستنهار، كما أن الروس ليسوا غربيين، وعليه ستستطيع فرنسا دمج هذه الدول مع باقي الدول الأوروبية، ولكن بالنسبة لماكرون فإنه يرفض التوسع شرقًا لإنه يعتقد أن هذه الدول تنظر للاتحاد باعتباره سوقًا، لذا فلابد من اصلاح الاتحاد أولاً قبل فتح ملفات الانضمام لهذه الدول، فضلاً عن ضرورة التأكد من التزام هذه الدول بقيم الاتحاد وسياساته على كافة الأصعدة. وفي هذا الإطار يحترم “ماكرون” مخاوفهم تجاه التهديدات الروسية، ويرفض التدخل في شؤونهم الداخلية من قبل موسكو.
- حلف شمال الأطلسي؛ اتخذ “ديجول” موقفًا معارضًا من الناتو؛ حيث رفض فكرة المؤسسات فوق الوطنية التي تأثر على سيادة الدولة الوطنية، وعليه فقد طرح بديلًا لجماعة الدفاع الأوروبية الخاضعة لسيطرة الناتو، من خلال تشكيل هيئة أركان عامة مشتركة. كما قام بسحب فرنسا من القيادة العسكرية للحلف وذلك عام 1966. والجدير بالذكر إنها لم ترجع مرة ثانية إلا في عام 2009، في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي. أما “ماكرون” فقد تحدى الناتو في اعتراضه العلني على المهام التي يقوم بها، وعمليات التنسيق المستمرة التي تراجعت نتيجة النهج الأمريكي، وشبه بإنه “مات إكلينيكيًا”، بالرغم من ذلك لم يكن تحدي ماكرون بنفس قوة “ديجول” ولكنه طرح فكرة “إنشاء جيش أوروبي” بمقدرات أوروبية لا تتنافس مع الناتو، ولكنه يضمن استقرار وأمن الإقليم الأوروبي بعيدًا عن الولايات المتحدة. كما طرح عدد من المبادرات الدفاعية لتوحيد الثقافة الاستراتيجية للدول الأوروبية، تمهيدًا لتفعيل إنشاء جيش أوروبي لديه نفس الأولويات الدفاعية تجاه التهديدات والمخاطر المتلاحقة.
تحديات البيئة الدولية
بالرغم من سعي كل من “ديجول” و”ماكرون” لجعل فرنسا فاعلا مشاركًا في كثير من القضايا الدولية، وقيادة الدولة الأوروبية، بالإضافة على البحث عن آليات وسط ما بين أقصي التطرف في الرأسمالية والاشتراكية إلا إن كل منهم واجه عدد من التحديات المُتباينة التي وقفت حائلًا بين تنفيذ سياساتهم الخارجية تجاه أوروبا ولكن المفارقة أن “ديجول” كان قيادي قومي يتفهم المزاج العام للجمهور الفرنسي؛ حيث أنقذ فرنسا من النازية في عام 1945، ومن الفرنسيين المُحتجين في ربيع وصيف عام 1968. علاوة على تبنيه سياسة المناورة مع القوى الكبرى بما يتوافق مع المصالح الفرنسية. أما “ماكرون” بالرغم من كونه شابًا استطاع الوصول على السلطة بعيدًا عن الأحزاب التقليدية، واستطاع التصدي للموجات الاحتجاجية، ويعمل على التنسيق مع الدول الأوروبية إلا إنه يواجه عدد من العثرات التي تتمثل أبرزها في؛
- على الصعيد الخارجي فلديه بيئة عالمية أكثر تعقيدًا تتزايد فيها حدة الأفكار المتطرفة والداعمة لنزعة القومية، فضلاً عن انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي والتخوف من تفكك الاتحاد على المستوى القيمي والمؤسسي.
- عدم استطاعت “ماكرون” من تحقيق التوافق بين الدول الأوروبية حول سياسات المتعلقة بالهجرة واللاجئين، ومكافحة الإرهاب، للتحرك خارجيًا بكفاءة وفعالية، الأمر الذي حولها إلى ورقة ضغط تم توظيفها من قبل بعض الدول. كما أن باقي الدول الأوروبية مُنقسمة حول سياسات “ماكرون” المتعلق بالوحدة الأوروبية، وإصلاح منطقة اليورو، بالإضافة إلى الدول الأوروبية حتى الآن لم تعلن موقفها بشكل صريح من زيادة مخصصاتها الدفاعية، ومدى جاهزيتها لتدشين جيش أوروبي، يساهم في استقلالهم، وضمان أمنهم.
- لم يتمكن “ماكرون” من تحقيق التوافق مع ألمانيا كحليف في الملفات العالقة بينهم، على عكس “ديجول” الذي استطاع القضاء على سنوات من الصراع بين البلدين، فقد اعترضت “ميركل” على نهج “ماكرون” تجاه حلف شمال الأطلسي، وسياسة التوسع شرقًا، فضلاً عن عدم توافقهم حول موسكو وتحديد نمط علاقاتهم المستقبلية معها.
- عدم امتلاك “ماكرون” أدوات التأثير على الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بما يتوافق مع المصالح الفرنسية، كما تجلى في التعاطي الفرنسي الأمريكي فيما يتعلق بقضايا الأمن والدفاع الأوروبي، فالرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” لم يكن الرئيس الأول الذي يرفض الانخراط المباشر في حماية الأمن الأوروبي، وقد تجلى ذلك بعد انتهاء الحرب الباردة التي طالب بعدها الرؤساء الأمريكيين من الحلفاء الأوروبيين ضرورة تقاسم أعباء الأمن والدفاع. علاوة على أن علاقة فرنسا بالولايات المتحدة لم تكن على وتيرة واحدة، لأن التوجه الفرنسي غالبًا ما يميل إلى استبعاد واشنطن من الترتيبات الخاصة بالإقليم الأوروبي.
- التأكيد على أن العلاقات الأوروبية مع حلفاء الأطلسي أقوى مع علاقاتهم بفرنسا، لذا فإن فكرة الاستقلال الاستراتيجي عن الولايات المتحدة لن تتم، وقد تجسد ذلك فعهد شارل ديجول؛ حيث أن الدول الأخرى لم تسير على نفس موقفه تجاه الناتو، باعتباره الضامن التقليدي للأمن الأوروبي.
- إعادة التموضع الروسي داخل بعض دول الجوار الأوروبي، ومنطقة الشرق الأوسط، بالتزامن مع الصعود الصين الذي يمثل خطر على القيم والمصالح الأوروبية.
- يواجه “ماكرون” خطر تحييد عمل المؤسسات العالمية من قبل القوى الكبرى، التي كانت ركيزة للنظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ تقوم كل من روسيا والصين باستخدام حق النقض ضد قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي قد تكون سببًا في تهديد المصالح الأوروبية.
- بجانب فشل الناتو في التعاطي مع الدول الأعضاء مثل تركيا التي قامت بالتدخل العسكري في كثير من دول الشرق الأوسط بدون تنسيق مع الناتو، بالإضافة إلى اقتناءها لمنظومة الدفاع الجوي من روسيا.
إجمالا؛ رغم تشابه السياسات بين “ديجول” و”ماكرون” إلا أن القدرة على التنبؤ لما سيواجه “ماكرون” غير واضحة، نتيجة تباين التحديات والتهديدات التي يواجهها في ظل تنامي المتغيرات المتلاحقة.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية



