
إسرائيل ترقص على أوتار التجاذبات الروسية البولندية
روسيا وبولندا- تجمعهما علاقة تاريخية محمومة بمشاعر الرفض والصراعات المختلف، علاقة تشبه الصراع الذي كلما أوشك أن ينام، أيقظه حدث جديد، أو حتى كلمات تشعل مرة أخرى سلسلة لا تنتهي من التراشق بالاتهامات. وتظهر إسرائيل في منتصف هذه التجاذبات باعتبارها الطرف الآخر أو بالأحرى الطرف –المجني عليه- وهي البلد التي تقول إن أبنائها ينحدرون من سلالة الناجون من معسكر الحصار أوشفيتيز ببولندا أبان الحرب العالمية الثانية، وهي كذلك نفس البلد التي تستمر في إعادة مشهد المحرقة الى الأذهان كلما أرادت تحقيق بعض الأرباح الجديدة.
وفي مطلع 2020، وجدت كلاً من روسيا وبولندا من المنتدى العالمي الخامس لإحياء ذكرى الهولوكوست، فرصة مناسبة لأجل التراشق بالاتهامات. حيث امتنعت بولندا عن المشاركة في الحدث الذي يُقام في القدس، بسبب قيام إسرائيل بحرمان الرئيس البولندي أندريه دودا من فرصة القاء كلمة في الوقت الذي منحت فيه إسرائيل الفرصة لنظيره الروسي لإلقاء خطابين خلال زيارته الى القدس. بل أن دودا انتقد قيام إسرائيل بإقامة هذا الحدث في القدس وليس آوشفيتس نفسها، الواقعة في بولندا. نظرًا لأن بولندا تقيم بالفعل حدث مماثل في المدينة التي شهدت أراضيها الحصار، وقد ضم الحفل حضور 200 ناج من الهولوكوست من جميع انحاء العالم، كما حضره الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين.
فيما قررت روسيا –وعلى خلاف مشاركتها في حدث القدس- تخفيض مستوى تمثيلها ليقتصر على السفير الروسي سيرجي أندرييف لدى بولندا، من دون وصول أي شخصيات روسية خصيصًا لأجل المشاركة. ومن جانبها، بولندا على هذا الرفض بأن صرح رئيس الوزراء البولندي كرزيستوف شتشيرسكي، منوهًا الى أن الدعوة التي تم توجيهها الى بوتين صدرت رسميًا عن متحف أوشفيتز-بيركينا الحكومي، وإن كان الرئيس الروسي قد قرر عدم قبول دعوة موجهة له من الناجون من المعسكر، فمن الصعب عليه التعليق على رفضه لدعوة لم ترسل من حكومة بولندا، ولكنها أرسلت من الناجين، منوهًا الى أنه قد أهدر الفرصة الأخيرة للاستماع الى رواية الناجين بأنفسهم.
ويذكر في هذا السياق، أن ذكرى معسكر أوشفيتيز في بولندا تعود الى ابريل بالعام 1940، عندما أمر هيلمر قائد قوات النخبة الألمانية، بإقامة معسكر في مدينة أوشفيشيم جنوب بولندا، وبعد عام ضم المعسكر 11 ألف سجين. وفي تلك الفترة كان هيلمر قد أمر ببناء معسكر ثانٍ، وبداية كان الهدف من بنائه استيعاب أعداد أسرى الحرب المتزايدة، لكنه تحول لاحقا إلى معسكر لاعتقال وإبادة اليهود.
وبدأت عمليات الإبادة أوائل عام 1942، حيث تم ترحيل مليون وثلاثمائة ألف شخص على الأقل إلى أوشفيتز. وقتل آنذاك مليون ومئة ألف شخص تقريبا، 90 بالمئة منهم يهود. حيث تم التخلص من معظم القتلى فيما يسمى بغرف الغاز، ولاحقا أنشئ معسكر ثالث، في ضواحي مدينة مونوفيتز. وفي يناير 1945، سقط المعسكر في يد الجيش السوفيتي الذي عثر بداخله على عدد 700 ناجٍ فقط.
الرواية الروسية في مواجهة الرواية البولندية

في أواخر 2019، وتحديدًا في ديسمبر جلس بوتين على طاولة الاجتماعات داخل مقر وزارة الدفاع الروسية. وتحت عناوين حول إدانة وشجب روسيا لمعاداة السامية، أكد بوتين لحضور الاجتماع من كبار الضباط، أنه أطلع على أرشيف كان الجيش الأحمر قد قام باسترداده في أوروبا العام 1945، ويظهر بوضوح في هذا الأرشيف كيف أن دولاً عدة من ضمنها بولندا كانت تتواطأ مع الديكتاتور النازي هتلر. كما أشار بوتين على وجه التحديد كيف أنه أطلع خصيصًا على وثائق تاريخية وعد فيها السفير البولندي يوسف ليبسكي في ألمانيا بالعام 1938، هتلر بعمل نصب تذكاري له على خلفية الوعود التي أطلقها الأخير بطرد اليهود الى أوروبا، ولهذا السبب نعته بوتين بـ “السافل والخنزير المعادي للسامية”.
وردت وارسو بأن أكدت على أنها لطالما كانت بعيدة للغاية عن سياسات هتلر المعادية للسامية ولم تشارك بأي حال من الأحوال في ذلك، كما أوضحت أن تصريحات ليبسكي الداعمة لهتلر –والتي أشار لها بوتين- كانت قد صدرت بالفعل قبل فترة طويلة من الهولوكوست، لذلك لا يمكن تحليلها في سياق إبادة اليهود. وردًا على اتهامات بوتين، هاجم الرئيس البولندي آندريه دودا خطاب بوتين، وقال “أنا آسف لقول ذلك، ولكن بوتين ينشر الأكاذيب. هو يفعل ذلك، بهدف إزالة مسئولية روسيا أثناء حكم ستالين، عن شن حرب مشتركة مع ألمانيا النازية”، وتابع “أعتقد أنه يخجل من ذلك”. وعليه تراجعت بولندا عن حضور الحدث بالقدس، لأنها لن تسمح أبدًا لنفسها بالجلوس مكتوفة الأيدي، فيما تشاهد الرئيس الروسي وهو يعتلي المسرح لأجل الترويج للسيناريو الروسي الذي يرى محللون إسرائيليون أن إسرائيل تدعمه، والدليل على ذلك يتجلى بوضوح في قرارها بدعوة بوتين لإلقاء كلمة والامتناع عن منح نفس الحق للرئيس البولندي.
ولم يتوقف التراشق بالاتهامات عند هذا الحد، ولم يقتصر على روسيا وبولندا فحسب، بل أن إسرائيل دخلت بينهم على خط الاتهامات كذلك، ويشار في هذا الصدد الى تصريحات وزير خارجية إسرائيل يسرائيل كاتس في فبراير 2019، الذي قال إن البولنديين قد “رضعوا معاداة السامية من حليب أمهاتهم”، والتي أغضبت وارسو بشكل كبير حتى أن الرئيس دودا قد طالب الوزير الإسرائيلي بالاعتذار عن تصريحاته، واصفا إياها بأنها كانت مهينة للشعب البولندي وساهمت بشكل وأسفرت عن ارتفاع وتيرة الهجمات ضد اليهود في البلاد، مشيرا إلى مطالبات في بلاده بالامتناع عن زيارة إسرائيل ما لم يعتذر كاتس. وتأتي هذه التوترات بعد تصاعد وتيرة الأحاديث حول دور البولنديين في الهولوكوست، لاسيما بعد تبني البرلمان البولندي قانونًا يحظر اتهام البلاد بالتورط في المحرقة النازية.
الموقف الروسي العدائي تجاه بولندا.. دلالات ومعاني

بالنسبة لروسيا، يعود تاريخ تأزم العلاقات فيما بينهم الى مشوار طويل، نذكر منه ما حدث بعد الغاء الجمهورية الشعبية البولندية في عام 1989، عندما بدأت النخب السياسية البولندية الجديدة على الفور في اتباع سياسة خارجية معادية لروسيا. وخاصة بعد وصول حزب القانون والعدالة –اليميني المتطرف الى السلطة في 2015، وكيف تسبب ذلك في تحويل بولندا الى دولة معادية لروسيا بالكامل. وهو أمر بالطبع لن تغفره موسكو سليلة الإمبراطورية السوفيتية، التي كانت بولندا بالفعل في فترة من فترات التاريخ – 1952- 1989 جزء من حدودها، ولا زالت روسيا حتى يومنا الحالي تنظر اليها باعتبارها تقع داخل نطاق النفوذ الجغرافي الروسي مثل أوكرانيا وبيلاروسيا ودولاً أخرى حكمها السوفييت في يوم من الأيام. ومن هذا المنطلق يصعب تخيل، تنازل روسيا عن لهجتها العدائية تجاه وارسو، التي لم تكتفي فقط بالانسلاخ عن جلد النفوذ الروسي، ولكنها ذهبت بعيدًا الى الحد الذي دفعها الى الانضمام حلف شمال الأطلسي، ومساعدته على خلق وجود له على الجانب الشرقي، وهو أمرًا لا تراه موسكو مجرد استفزاز فحسب، بل أنها تراه تدخل سافر في نطاق نفوذها السياسي وامتدادها الجغرافي الطبيعي. إذ أن بولندا لا تكتفي بمجرد انضمامها فحسب، بل أنها تذهب الى ما هو أبعد من ذلك وتقوم بين الحين والآخر بتنظيم مناورات عسكرية على مقربة من الحدود الروسية.
وموقف روسيا من حلف شمال الأطلسي، لطالما كان معروفًا، باعتباره نقطة خلافية رئيسية بين كلاً من الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا التي عارضت ولازالت تعارض أي امتداد له صوب مناطق نفوذها بالشرق. حيث يعكس رفض روسيا لتوسع حلف الناتو مخاوف حقيقية من احتمالية فقدان نفوذها في بلدان الجوار، وعليه حاربت أغلب الأشكال التي من شأنها أن تعزز وجوده في تلك المناطق، تمامًا مثل ما حدث في حالة أوكرانيا عندما أقدمت على توقيع معاهدة تفيد بانضمامها الى حلف الناتو الذي يشترط أولاً على أي دولة تنضم اليه ضرورة خلو أراضيها من أي قواعد عسكرية أجنبية، وهو الأمر الذي يتعارض مع احتفاظ روسيا لنفسها بقاعدة عسكرية في شبه جزيرة القرم، وعليه لم تتردد روسيا في التحرك لأجل ضمها.
كما تسعى روسيا الى تعزيز التوترات بين إسرائيل وبولندا، لما سوف ينعكس بدوره على توتر العلاقات بين بولندا والولايات المتحدة بالتوالي، وهو أمر سوف يمثل مكسب كبير للسياسة الخارجية الروسية.
لماذا يتبنى الموقف الإسرائيلي نفس وجهات نظر روسيا تجاه بولندا؟!

بمراجعة المرسوم الأمريكي التالي، تصبح الدوافع الإسرائيلية تجاه إظهار العداء لبولندا ومدى توافقها مع الموقف الروسي جلية للغاية. إذ أنه في مايو 2019، قام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتوقيع على المرسوم رقم 447، الذي يُطلق عليه –العدالة للناجين- ويقضي هذا المرسوم بضرورة إعادة الممتلكات التي خسرها اليهود من ضحايا المحرقة، وفي حال تعذر التوصل الى ورثة هؤلاء الضحايا، فإن هذه الوثيقة تسمح بانتقال الممتلكات مرة أخرى الى ملكية المنظمات اليهودية لأجل استخدامها في أغراض تعليمية. وعن هذا المرسوم، يمكن القول إنه يتعلق بشكل مباشر ببولندا، والتي عاش فيها معظم اليهود في أوروبا قبل الحرب العالمية الثانية، وبعد الانتهاء من الحرب انتقلت ملكية معظم هذه الممتلكات الى الدولة. وتقدر هذه الممتلكات اليهودية السابقة بقرابة الـ 300 مليار دولار.
ولقد تعرضت وارسو –بعد اعتماد هذا القانون- إلى ضغوطات غير مسبوقة من قِبَل اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، التي تعتقد بالمثل أن الدولة البولندية والبولنديين أنفسهم مسئولون عن المحرقة ويجب عليهم دفع التعويضات الطائلة. فيما استقبلت بولندا الأمر باستياء بالغ من جانب كلاً من اليمين البولندي والقوميين كذلك، وتم تنظيم احتجاجات حاشدة لرفض هذا المرسوم.
وبينما تقول روسيا في تصريحاتها، بأنها تلتزم
الحياد فيما يتعلق بالخلافات اليهودية البولندية، تخرج تصريحات بوتين المعادية
لبولندا وطريقة تعامل إسرائيل مع الأمر، بمثابة دلالة بارزة على حقيقة الصراع
الروسي البولندي الدائر على السطح وفي طياته تسبح إسرائيل باتجاه الحصول على ما
تريد مما تعتقد أنه من مكتسباتها.
باحث أول بالمرصد المصري