تحليل البعد الشخصي في قصة تمرد “بريجوزين”
لا يزال السؤال الذي حير المتابعين والمحللين حول العالم مطروحًا، هل ما شهدته روسيا في 24 يونيو 2023 كان مجرد خلاف عادي بين قادة، أم كان محاولة للانقلاب؟ هل هو مكيدة مدبرة على يد أعداء روسيا؟ أم خدعة تم تنفيذها على يد الرئيس الروسي وأقرب رجاله؟ تعددت الآراء على مدار الـ 24 ساعة الساخنة، ومن بين كافة الاحتمالات، كان سيناريو الانقلاب هو صاحب النصيب الأوفر حظًا في تأويل قصة تمرد “بريجوزين” وصولًا إلى لحظة إعلان إسدال الستار عليه بوساطة بيلاروسية.
وفي الواقع، تمامًا كما هو الحال في الأدب، لكل حدث بحد ذاته، سواء كان عظيمًا أو ضئيلًا، بُعد شخصي لا يمكن وأن ينفصل عن تحليل مجريات الأحداث، ولا يمكن كذلك النظر إلى الظروف المحيطة بالحدث والتي أدت إلى اندلاعه من دون الأخذ في الحسبان البعد الشخصي لأبطاله الرئيسين. لهذا السبب ننظر في تحليل البعد الشخصي لأبطال قصة تمرد “بريجوزين”؛ أملًا في الوصول إلى صورة تضعنا على مسافة أقرب إلى رؤية الموقف بعيون المحرك الرئيس في الحدث الراهن، وهو قائد قوات فاجنر، “يفجيني بريجوزين”.
“يفجيني بريجوزين”: عندما يُشير الماضي إلى المستقبل
ولد “يفجيني بريجوزين” في مدينة سانت بطرسبرج عام 1961، التحق بمدرسة رياضية وتخرج فيها عام 1977. قضى معظم أيام فترة شبابه الأولى في السجن على خلفية إدانته بالسرقة. ففي نوفمبر 1979، عندما كان لم يكد يبلغ من العمر عشرين عامًا بعد، تلقى أول حكم بالسجن في حياته لمدة عامين. وفي عام 1981، عندما كان قد بلغ بالفعل من العمر عشرين عامًا، حُكم عليه بالسجن لمدة 13 عامًا بعد تورطه في نشاط إجرامي، أي السرقة. وفي 2016، نشرت صحف روسية ما يفيد بأن “بريجوزين”، تخرج في معهد لينينجراد للصيدلة، لكن “بريجوزين” نفى هذا الأمر فيما بعد أثناء أحد لقاءاته في 2018.
أما عن قصة ثرائه أو عن درجات السلم التي اتخذها “بريجوزين” صعودًا إلى القمة حيث يقف الآن، فإنه قد بدأ حياته كبائع نقانق، عام 1990، في “كشك” صغير حيث حقق أول ثروة مالية متواضعة له من هناك. وفي 1993، أصبح مديرًا لسلسة متاجر “سوبر ماركت” بعد نجاحه في امتلاك حصة في سلسلة المتاجر الأشهر في مدينته. وقد حققت سلسلة المحلات نجاحًا ونموًا مطردًا فيما بعد. وبحلول عام 1995، نجح “بريجوزين” في افتتاح حانة خاصة به في إحدى الجزر الروسية. وفي ديسمبر 1996، استطاع “بريجوزين” بالتعاون مع شركائه فتح مطعمه الأول والذي كان يستهدف النخبة الروسية في مدينة سانت بطرسبرج. وبحلول نهاية العام نفسه، كان “بريجوزين” قد حقق أول مليون دولار في حياته.
وفي عام 1996، افتتح “بريجوزين” شركة خاصة به للتموين. وفي عام 1998، افتتح مطعمه الذي يحمل اسم “New Island”، والذي أصبح مطعمًا متخصصًا في استقبال النخبة من الأوساط المالية والسياسية الروسية. وبناء عليه، أمضى “بريجوزين” أكثر من عقد كامل من الزمان في تقديم الطعام للمناسبات الرسمية رفيعة المستوى، حيث يمتلئ أرشيفه بصور تُظهره أثناء تقديمه الخدمات لشخصيات سياسية بارزة، وهو ما أكسبه ثقة النخبة الروسية.
وعلى هذا الأساس، يجوز القول إن الصراع الروسي في إقليم دونباس خلال سنواته الأولى كان هو شرارة بدء انهماك “بريجوزين” في خدمة الأهداف السياسية لروسيا. فقد تأسست شركة “فاجنر” على يديه في 2014، وكان الغرض الرئيس من تأسيسها هو توفير غطاء يسمح لروسيا بالتدخل العسكري في الحرب الأهلية في الدونباس، وتقديم المساعدة للمتمردين، من دون الحاجة إلى استخدام القوات المسلحة الروسية لتحقيق هذه الأغراض.
ومنذ لحظة تأسيسها، نشطت العناصر التابعة للشركة في بقاع ساخنة أخرى، في إطار النزاع على النفوذ بين الغرب بقيادة أمريكية والروس، مثل: غرب إفريقيا، وليبيا، وسوريا. وفي 2016، وُجهت اتهامات غربية إلى “بريجوزين” في التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية. حيث برزت على السطح مزاعم تفيد بأنه أنشأ جيشًا من القناصة الإلكترونيين وأنهم هُم من وضعوا هذه الخطة وعملوا على تنفيذها، لكن “بريجوزين” نفى هذه المزاعم ورفع قضية على مروجيها من الصحفيين.
أبرز محطات الخلاف في رواية “بريجوزين”
لاحت في الأفق بوادر خلافات بين وزير الدفاع الروسي “سيرجي شويجو” و”بريجوزين”، منذ بدايات العام الجاري. لكن من الممكن القول إن الأنباء بشأن الخلافات بينهما على صفحات وسائل الإعلام الدولية كافة، منذ ليلة 5 مايو 2023، تحديدًا عندما بث “بريجوزين”، مقطعًا مصورًا ثائرًا له وهو يسير بالقرب من عدد كبير من الجثث المُلقاة على الأرض، والتي كانت وفقًا لتقديراته نحو 20 جثة. وكان يظهر في شكل انفعالي شديد، وهو يقول: “هؤلاء هم الرجال الذين لقوا حتفهم اليوم، إن دماءهم مازالت طازجة”.
ثم ظل يصيح في “الفيديو” بعبارات تدين وزير الدفاع الروسي، جنبًا إلى جنب مع مسؤولين آخرين، ويقول: “إن هؤلاء هم آباء البعض وأبناء البعض وأولئك المتسكعون يمتنعون عن إعطائنا ذخيرة.. سيأكلون أحشاءهم في الجحيم”. وبدأ بعد ذلك “بريجوزين” ينهمك في سيل من التصريحات العدائية التي كانت تتمحور في معظمها حول إدانة وزير الدفاع الروسي لتسببه فيما قال عنه، “بريجوزين”، جوع الذخائر. مؤكدًا أن قواته كانت تعاني من نقص كبير في الذخائر، وأن ذلك تسبب في رفع معدلات القتلى بين صفوف رجاله.
أما بالنسبة لمقطع الفيديو الأخير، الذي نشره “بريجوزين”، إيذانًا منه بالبدء فيما أطلق عليه “مسيرة العدالة” إلى موسكو؛ فهو ذاك الذي تم نشره في 23 يونيو 2023، حيث ألقى “بريجوزين” باللوم على وزارة الدفاع الروسية وقال إن قوات الجيش الروسي أطلقت الصواريخ على معسكر “فاجنر”، مما أدى إلى مقتل عدد هائل من رجاله وتوعد بالرد، ثم اتخذت بقية الأحداث بعد ذلك المنحنى الذي تابعه العالم على مدار يوم 24 يونيو.
وخلال الفترة التي كانت تفصل بين المقطعين المذكورين أعلاه، لم تكن الأمور تتخذ منحنى أقل توترًا بين قائد “فاجنر” ووزير الدفاع الروسي، وذلك على النحو الموضح في الأخبار التي تتوارد إما من خلال ظهور “بريجوزين” الجانح عبر القنوات التابعة له على “تليجرام”، أو من خلال الأنباء التي تتداولها وكالات الإعلام الدولية باستمرار ما بين الفينة والأخرى.
رؤية تحليلية
يقول الكاتب الكبير عباس محمود العقاد؛ “إن أكثر الانقلابات العظيمة تمت على أيدي الفقراء لأنهم الفئة التي ترغب دائمًا بتبديل ما هي عليه”. نتوقف عند هذه النقطة، قبل وضع تفسيرات محتملة للرد عما إذا كان ما شهدته روسيا محاولة للانقلاب أم لا؟، لنُلقي نظرة على علاقة خلفية “بريجوزين” بالأحداث في ضوء عبارة العقاد. والسؤال هنا، لماذا اختص العقاد بالذكر “الفقراء” وربط بينهم وبين الانقلابات الناجحة؟!
السر ليس بالضرورة يكمن في الفقر نفسه بقدر ما يكمن في المشقات المتولدة عنه، أو بالأحرى يتعلق الأمر بالفارق الشاسع بين تأثير النشأة في ظل نمط حياة يتسم بالرخاء أو على أقل تقدير نمط حياة عادي للغاية، وبين ذاك الفتى الذي قضى ريعان شبابه في مغبات السجون الروسية! إنه نفس الفارق الذي يفصل بين مسيرة وزير الدفاع الروسي ” شويجو” المهنية التي يستطيع من يلقي عليها نظرة سريعة أن يعي كيف نشأ الرجل وشب في مجال أتاح له الفرصة للانتظام في الدراسة، والالتحاق بالوظائف الرسمية، وكيف يخلو سجله من أي انتهاك قانوني محتمل. على النقيض الآخر، نجد أن البطل الرئيس لقصة التمرد، “بريجوزين”، لم يتمتع بأي من ذلك، حتى أن قصة تخرجه في كلية الصيدلة التي حاولت بعض الصحف الروسية تبنيها، في وقتٍ ما، لتبييض ماء وجهه اتضح فيما بعد أنها لم تكن صائبة.
ثمة من يقول “إن المرء يُدرك من مشقة واحدة ما لا يدركه آخر عبر سنوات من التعليم الأكاديمي”، نرى أنه ربما يكون هذا هو الإطار الأكثر صوابًا للنظر إلى “بريجوزين” وتفسير تصرفاته الأخيرة، مع الأخذ في عين الحسبان أن الحديث هنا لا يدور عن رجل عايش مجرد مشقات عادية، إنما هو شخص من أرباب السجلات الزاخرة بالسوابق. وذلك على الرغم من أن الخلاف الذي برز للسطح بينه وبين “شويجو” حمل إمكانية أن تكون تلك خدعة تم تنفيذها تحت إدارة شخصية من دب الكرملين في إطار الخدع اللازمة للحروب. لكن اليوم، وبعد مرور أشهر من الخلافات المستمرة بينهما تكللت بجنوح الرجل وخروجه تمامًا عن السيطرة، يكون من الأفضل إعادة تقييم الأمور برمتها والنظر إليها من منطلق البعد الشخصي لـ “بريجوزين”.
هناك دلالات تشير إلى أن الخلاف بين الجناحين العسكريين موجود بالفعل، والأدلة على ذلك كثيرة ليس أبرزها بالطبع اختفاء وزير الدفاع الروسي وغيابه تمامًا عن مشهد التمرد منذ لحظة اندلاعه فحسب. بل أنه وعلى مدار الأشهر الماضية، كان يخرج عدد من القيادات الفرعية التي كان من ضمنهم من يتبع الشيشان وينهال بالانتقادات على “بريجوزين”. وكان المشهد العام برمته يعج بالشد والجذب، حيث يحرص الأخير على الرد والتجاوب معهم، وسط علامات تعجب واستفهام كثيرة حول سر غياب دور “بوتين” عن المشهد المتفاقم بين الجانبين المتنازعين.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ عندما خرج نائب مجلس دوما الدولة من الشيشان، “آدم ديليمخانوف”، في أواخر مايو 2023، وأبدى عدم إعجابه بانتقادات “بريجوزين” لأنشطة وحدات “أخمأت” الشيشانية في الحرب. وهو ما رد عليه “بريجوزين” في مقطع فيديو في 1 يونيو، مؤكدًا أن الوحدات القتالية الشيشانية، التي ترتدي زيًا عسكريًا، لا تستطيع الذهاب للقتال والموت بدلًا عن السجناء. مضيفًا أنه حتى لو ذهب نصفهم، فإنه لن يحدث أي شيء سيئ.
وخلال زيارته إلى مدينة “نيجني نوفجورود”، ولقائه مع الصحفيين بتاريخ 1 يونيو 2023، كان من بين الأسئلة التي وجهت إليه، سؤال بكيف توقظ المجتمع؟ حيث قال “بريجوزين”؛ “عليك أن تتحدث بصوت عالٍ، لماذا أتحدث بصوت عالٍ؟ حتى تستيقظ.. لأن المجتمع نائم”. وأوضح “بريجوزين” في السياق نفسه أن المجتمع الروسي لن يستيقظ إلا إذا طالت نيران الطائرات بدون طيار ممتلكات أثرياء روسيا. وتابع قائلًا؛ “إن أبناء المسؤولين وأبناء الأوليجارشية يجب أن يذهبوا للحرب، وحتى يحدث ذلك، سيظنون إن كل شيء على ما يرام”.
إذًا، نُدرك مما سبق أننا بصدد معالم شخصية لديها معتقدات ثابتة تظهر بوضوح ما بين الفينة والأخرى، إما من خلال تصريحاته أو تصرفاته. وهذه المعتقدات تتمثل في: “أن الأفضلية في الصراع للسجناء، وأن المجد هو ما يصنعه فقط السجناء، وأن هؤلاء العسكريون لا يستطيعون إحراز ما يتحمله السجناء أيضًا، وأن أبناء الأثرياء لا يشعرون بالصعوبات الجارية في الحرب بسبب ابتعادهم عن ساحة المعركة”. ونحن في غنى عن ذكر وتتبع سيل تصريحات “بريجوزين” التي كان يواصل فيها تأكيده على أن الأفضلية لمجتمع السجناء.
نخلص من كل ما سبق أننا بصدد الحديث عن رجل تشكلت شخصيته وتشربت أولى ملامح شراستها في عالم السجن. وفيما بعد، بنى نجاحاته بالجهد والعرق في مجال التجارة من نقطة الصفر. حتى نجاحاته الكبرى التي فتحت أمامه أبواب الوصول إلى قائد الكرملين، هي أيضًا جميعها نجاحات بناها الرجل بحنكة مكتسبة من احتكاكات السجون وقطاع الطرق.
نعرف أيضًا، في ضوء مواقفه السابقة، أنه رجل يكن تقديرًا عميقًا لقيمة وحياة كل رجل من رجاله. وذلك على الرغم من أن جميعهم أرباب سوابق وخريجو سجون ومدانون سابقون في قضايا جنائية، لكنه أبدى مع ذلك دلالات عدة على اعتقاده بأن أرواحهم ثمينة. على العكس من ذلك، أبدى وزير الدفاع وحاشيته ما يكفي من دلالات وتصرفات تنم عن عدم تقديرهم لقيمة هذه الحيوات. وهو الشيء الذي يكون كفيلًا بإثارة غضب “بريجوزين” إلى حد لا يوصف، خاصة وأنه هو نفسه ينظر إلى نفسه بوصفه جزءًا لا يتجزأ من مجتمع خريجي السجون؛ بحكم ماضيه الذي ليس من الممكن له أن ينساه. حتى بعد ثرائه، حتى بعد نجاحه، وبعد أن أصبح واحدًا من أهم رجال روسيا الأقوياء.
وبذلك، تكون حالة العداء مفهومة بين الرجلين “شويجو” الرجل النظامي ذو الخلفية العسكرية المستقيمة، و”بريجوزين” الذي يعتقد أن مجتمع المدانين السابقين لهم حقوق لا تقل أهمية عن الآخرون. بل على العكس، يمتلك “بريجوزين” نظرة استحقاق وتقدير للنفس ولأتباعه، تضعهم في مرتبة تفوق قدرات العسكريين المدربين.
وبذلك يكون أيضًا من المنطقي أن نتفهم كيف من الممكن أن تنشأ ردة فعل عنيفة عن “بريجوزين” بمجرد قيام وزارة الدفاع الروسية بقصف واحد من معسكراته وقتل الآلاف من رجاله. ولا ننسى هنا الطريقة الانفعالية التي وصف بها “بريجوزين” مقتل رجاله في مقطع فيديو، 5 مايو، عندما قال: “إن هؤلاء هم آباء البعض وأبناء البعض وأولئك المتسكعون يمتنعون عن إعطائنا ذخيرة.. سيأكلون أحشاءهم في الجحيم”.
ولا نغفل كذلك، أن “بريجوزين” الذي لا يكن احترامًا للعسكريين، ويعتقد أنه وجيشه ذوو أفضلية عليهم، وأكثر مهارة واحترافية منهم؛ قد أبدى بالفعل اعتراضًا على القرار الذي أعلنه الرئيس الروسي، بتاريخ 13 يونيو 2023، عندما قال “بوتين”: “إن وضع الشركات العسكرية الخاصة ومفارز المتطوعين يجب أن يتماشى مع الممارسات المتبعة”. وكان يندرج تحت هذا القرار طلب “بوتين” من مجلس الدوما ووزارة الدفاع جعل كل شيء يتماشى “مع الفطرة السليمة والممارسات المتبعة والقانون”. وإعلانه عن رغبته بأن تُبرم وزارة الدفاع عقودًا مع كل من يريد مواصلة الخدمة في منطقته والحصول على الضمانات الاجتماعية من الدولة.
وهو الأمر الذي تعاطى معه “بريجوزين” بالفعل في اليوم التالي، 14يونيو، حيث أعلن “أن شركة فاجنر لن توقع عقدًا مع وزارة الدفاع الروسية”. وقال “إنه عندما كان الوطن الأم في مأزق، عندما كانت هناك حاجة إلى مساعدة فاجنر، أتينا جميعًا للدفاع عن البلاد. ووعدنا الرئيس بكل الضمانات الاجتماعية”. وأضاف “بريجوزين”: “عندما بدأنا المشاركة في هذه الحرب، لم يقل أحد أننا سنضطر لإبرام اتفاقيات مع وزارة الدفاع”. ووصف التوقيع على مثل هذه العقود بأنه “الطريق إلى العار”، حيث قال؛ “إن أيًا من مقاتلي فاجنر ليس مستعدًا للسير في طريق العار مرة أخرى، وبالتالي لن يبرم أحد أي اتفاقيات”.
وبناء عليه، يُستبعد أن تكون تلك الأحداث كانت محاولة لإجراء انقلاب عسكري على الرئيس الروسي. ويستبعد أيضًا أن تكون مكيدة احتيال على الغرب مدبرة على يد روسيا؛ نظرًا لأن “بوتين” نفسه لديه ثوابت وطنية ليس من الممكن وأن يسمح أبدًا بالاعتداء عليها تحت أي ظرف. يأتي على رأس تلك الثوابت: الأمن القومي الروسي، ووحدة وسلامة الأراضي الروسية، وسلامة الشعب الروسي وما إلى آخره، والأهم من كل ذلك، سلامة صورته وهيبته الخاصة أمام شعبه، ورجال نخبته، والغرب ومن ثم العالم أجمع.
ذلك خاصة بعد أن أسقطت فاجنر بالفعل رجالًا ومعدات عسكرية في صفوف الجيش الروسي خلال أحداث الـ24 ساعة الساخنة. ووفقًا للمدون الروسي، “يوري بودولياك”، فإن حصيلة خسائر الطيران الروسي على أرضه وعلى يد قوات “فاجنر” كانت 7 طائرات، و12 فردًا من طاقم الطيران الجوي الروسي. فيما أورد المدون الروسي، “بوريس روزين”، بيانات مختلفة بشأن عدد قتلى الجيش الروسي والذي قدره بأنه 15 قتيلًا بعد الصدام مع فاجنر.
من جهة أخرى، اعترف “يفجيني بريجوزين” بقيام قواته بإسقاط طائرة عسكرية كانت تُحلق في سماء “فورونيج” وعلى متنها 10 أشخاص لقوا جميعًا حتفهم. وعرض “بريجوزين” الحل من وجهة نظره والذي كان يتمثل في موافقته دفع تعويضات مالية ضخمة لأهالي الضحايا! وهي مجملها أشياء ليس من المنطق أن يقبلها “بوتين” أبدًا، وليس من الممكن أيضًا التصديق في إمكانية أن يُقدم “بوتين” على تدبير مكيدة للغرب من خلال إظهار مدى سهولة ويسر أن تقوم قوات عسكرية باقتحام أراضيه والولوج إلى أقرب نقطة للعاصمة موسكو.
إذًا، فالرواية الأقرب إلى تفسير الأحداث تكون هي في إطارها الطبيعي الذي قُدمت فيه على مدار الأشهر الماضية؛ وهي عبارة عن خلاف شخصي متصاعد بين وزير الدفاع وقائد “فاجنر”؛ فالأول: يعتقد أن قوات المرتزقة بلا قيمة ويمكن سحقها والتخلي عنهم لأن قيمة حياتهم يمكن معادلتها بالأموال على العكس من العسكريين النظاميين الذين تنظر لهم الدولة الروسية نظرة ثمينة. والثاني: على النقيض تمامًا، هو شخص بنى نجاحاته بنفسه ويؤمن بالاستحقاق، ويولي تقديرًا كبيرًا لحياة مقاتليه وسلامة رجاله، ويعتقد أن العسكريين بلا أي مهارة تذكر، ولا ينفك يؤكد أنهم لم يحققوا أي نجاحات لولا وجود “فاجنر”.
أما فيما يتعلق بمستقبل العلاقة المحتمل بين “بوتين” و”بريجوزين” عقب ما حدث، فإنه لا محالة سيكون مستقبلًا متوترًا ومحفوفًا بالمخاطر بالنسبة لـ “بريجوزين”؛ وذلك نظرًا لأن تمرده يرفع من مستوى مخاطر انهيار نظام الخوف الذي أنشأه “بوتين” بين رجاله المقربين وخاصته من الأقوياء، الذين إما يندرجون تحت بند أصحاب القوى العسكرية الخاصة، أو تحت بند أصحاب النفوذ القوي الذي قد يمنحهم فرصة الانقلاب على الحكم في يوم من الأيام. وحتى وإن كانت فكرة العفو الحقيقي عن “بريجوزين” تراود ذهن “بوتين”، فعلى الأرجح، وتحديدًا في هذه المرحلة، سيكون من الصعب عليه فعلها، وذلك يعني أن “بريجوزين” -كشخص وليس كـ “فاجنر”- ذهب في طريق لا عودة منه في علاقته مع “بوتين”.