مهددات الهوية المصرية الجامعة قبل ثورة 30 يونيو
إن مِصر دولة تحمل هوية جامعة، تتشكل في قدرتها على امتلاك وجوه عديدة، منها ما هو: فرعوني، وروماني، وقبطي، وإسلامي وغيره. بشكل يجعل من العصي على أي مُشوه ومُخرب أن يمد أياديه لمحو هذه الهوية، أو حتى لإعادة تشكيلها مرة أخرى كيفما أراد أملًا في تحويلها إلى نسخة أخرى يابسة عن دول إقليمية عاشت مصيرًا مُشابهًا. ففي موسوعته الشهيرة “شخصية مصر”، يقول المفكر المصري الراحل، جمال حِمدان، واصفًا الهِوية المصرية؛ “فرعونة هي بالجد، ولكنها عربية بالأب، ثم إنها بجسمها النهري قوة بر، ولكنها بسواحلها قوة بحر، وتضع بذلك قدمًا في الأرض وقدمًا في الماء. وهي بجسمها النحيل تبدو مخلوقًا أقل من قوي، ولكنها برسالتها التاريخية الطموح تحمل رأسًا أكثر من ضخم. وهي بموقعها على خط التقسيم التاريخي بين الشرق والغرب تقع في الأول ولكنها تواجه الثاني وتكاد تراه عبر المتوسط.”
وبناء عليه، فإنه ليس ثمة شك في أن اعتلاء جماعة “الإخوان المسلمين” الإرهابية، لسُدة الحكم في مصر، ارتبط ارتباطًا وثيقًا بمحاولاتهم المتكررة للتجرؤ على محو هذه الهوية أو استبدالها، بشكل يسترعي معه الرغبة في العودة إلى إلقاء نظرة على الماضي؛ أملًا في الوقوف على مهددات الهوية والثقافة المصرية فيما قبل ثورة 30 يونيو 2013.
محاولات إخوانية واهية
كانت الجماعة منذ ساعات نشأتها الأولى تحلم بالوصول إلى رأس الحُكم، وعندما حدث بالفعل ولأول مرة بالتاريخ تولى رئيس إخواني حكم مصر، طمحت الجماعة لتغيير وجه الحياة في مصر بالكامل على النحو الذي يتماثل وأفكارها التي تنتمي إلى عقل الأب المؤسس وما تفرع عنه من مُجددين ممن زادوا الأمر سوءًا، ولم يفعلوا شيئًا سوى أنهم جعلوا ما هو متطرف بالفعل أكثر تطرفًا. وانطلاقًا من إدراكهم بأن التغيير الحقيقي لأي شيء، سواء بالإيجاب أو السلب، يبدأ من الفكرة؛ جاءت الهوية الوطنية، بكل ما يتفرع منها ويصب فيها من فن وثقافة ومعالم حضرية مصرية على رأس مستهدفاتهم.
فبالنسبة للفن، كان بالطبع بوقت وصولهم للحكم أحد أهدافهم الرئيسة، حيث سلكت الجماعة في ذلك نهج حسن البنا ورؤيته من حيث ضرورة استخدام الفن وتطويعه لتحقيق أهداف الأخونة العامة، لكن مع الأخذ بالحسبان ضرورة “تطهيره أولًا من الدنس”، وفقًا لرؤى وتوجه سيد قطب.
وهذا ما يُفسر شروع الإخوان في توجيه وجههم صوب الفن والفنانين بمجرد تنحي الرئيس الأسبق “مبارك”، حيث بدأ الأمر بتنظيم زيارة لأعضاء الإخوان الى مقر نقابة المهن التمثيلية في 2011، ثم توالت خطواتهم فيما بعد في نفس الاتجاه، حتى اشتملت على إنشاء لجنة داخل الجماعة تحمل اسم “الفن والدراما”، وإنشاء شركات إنتاج سينمائية كان من أشهرها شركة “الرحاب” التي تولى رئاستها القيادي الإخواني محسن راضي، وأعلنوا اعتزامهم انتاج أفلام سينمائية ومسلسلات درامية، منها مسلسل عن سيرة مؤسس الجماعة “حسن البنا”، وذلك عوضًا عما رأوه تدليسًا جرى في حقه من خلال مسلسل الجماعة الذي تم عرضه عام 2010.
أما بالنسبة للمجتمع، فقد انعكست رغباتهم القمعية على النساء والتي لا تختلف في شيء عما تفعله حركة طالبان في النساء الأفغانيات من سلوكيات كانت –وإن تم تطبيقها- كفيلة بأن تعود بمِصر إلى عصور ما قبل الجاهلية. انعكست كذلك على الفن تمامًا بنفس الطريقة التي كانوا يتوجهون بها للتعامل مع النساء كافة وفي كل مكان حتى في الشوارع.
وكالعادة شكلت المرأة نقطة خلافية كبيرة فيما يتعلق بنقاشات الإخوان نحو الفن، فهُم في نهاية المطاف لم يحسموا قط شكل المرأة المراد الظهور عليه في الأفلام، فأحدهم يخرج علينا ليمنع ظهور النساء على الشاشات تمامًا، وآخر يبيح ظهورها لكن في صورة مُحددة، وثالث يقذف ويسب في سمعة وشرف فنانات، ويتطور الأمر بعد ذلك ليصبح قضية رأي عام تتلقى على إثرها الفنانة نفسها تهديدات وصلت أحيانًا إلى حد القتل كي تتنازل عن قضيتها وتتصالح مع الإخوان، وآخر يُطالب باحتجاز واحد من كبار الفنانين ومعاقبته بأثر رجعي على أفلامه، وآخرون كانوا يهللون ويكبرون لدعوات احتجازه أملًا في معاقبة الجميع –بالدور- بأثر رجعي انتقامًا منهم على معاداة الإخوان على الشاشات في أي فترة من فترات حياتهم السابقة.
فيما طال الثقافة ما طاله من محاولات الإخوان للتشويه والهدم والإخفاء للهوية المصرية الجامعة. وسعى الإخوان إلى أخونة وزارة الثقافة نفسها بوصفها مركز الإشعاع المصري الثقافي، ليس فقط في الداخل المحلي بل في سائر الإقليم كذلك. وفي 2012، تمحور السؤال الأبرز وقتها حول هل من الممكن أن يقف فنانو مصر مكتوفي الأيدي وبلا حراك، أمام حركة أخونة وزارة الثقافة؟!
بالطبع لا، لأن مصر كانت ولا تزال عامرة بالفنانين بالشكل الذي يجعلها قبلة لفناني العرب، ومنارة إشعاع للتنوير الثقافي وصولًا إلى كل عربي في بيته. فقد بدأ الأمر عندما قرر الرئيس الإخواني محمد مرسي تعيين علاء عبد العزيز في منصب وزير الثقافة. وكان في ذلك انتهاك صارخ لحق كل فنان ومثقف مصري، خاصة وأن الرجل بلا أي تاريخ ثقافي يذكر، ولا يملك ما يؤهله ليشغل حتى منصب موظف صغير بالوزارة، ما بالك بمنصب الوزير نفسه! والذي من المفترض به أن يُدير كل الوسط الثقافي والفني بوجه عام! لذا لم يُفهم من تعيينه في هذا المنصب سوى الرغبة الدفينة لدى قيادة الدولة في أخونة كافة أنحاء البلاد.
وقد كانت الفترة الوجيزة التي قضاها في منصبه، بدءًا من مايو 2013 وصولًا إلى يوليو 2013، عامرة باحتجاجات الفنانين. حتى أن المشاركون في هذه الاحتجاجات سارعوا بمجرد توليه الحكم إلى توقيع بيان ورد به التالي؛ “إن موقع وزير الثقافة بعد الثورة لا بد وأن يمثل المثقفين المصريين، وأن يوجد فيه قامة ثقافية، تحمي الثقافة المصرية من غزو قيم التعصب والعنصرية التي تسعى إلى تدمير الهوية الثقافية الوطنية المصرية الرائدة ومصادرة كل أنواع الحريات الإبداعية والفكرية والسياسية والشخصية”.
ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد كانت هذه مجرد بداية لفترة متأججة آلت في ختامها إلى الحدث الأكبر الذي يُعرف باسم “اعتصام وزارة الثقافة”، يوم 4 يونيو 2013، والذي يُعد واحدًا من ضمن أولى الشرارات التي مهدت لاندلاع ثورة 30 يونيو. فقد جاء الاعتصام ردًا على قرارات الوزير بإنهاء ندب قيادات ثابتة في الوزارة واختيار بدلاء لهم منتمون لجماعة الإخوان الإرهابية، وقد أقدم الوزير على فعل ذلك في فترة لم تتجاوز الشهر من تعيينه. ولقد جاءت القَشة التي قصمت ظهر البعير على هيئة قرار بإنهاء ندب إيناس عبد الدايم، وزيرة الثقافة السابقة، ورئيسة دار الأوبرا وقتها، من منصبها. مما دفع العاملين بالأوبرا إلى التظاهر السلمي الذي أدى في نهاية المطاف إلى اعتصام مستمر الى حين عدول الوزير عن قراره.
الإخوان وتحولات المجتمع المصري: في الماضي انعكاس محتمل للمستقبل
إن حركة التاريخ كانت خير من يشهد على نوع المستقبل الذي يتردد في خواطر الكثيرين؛ إذ أن الثورة الإيرانية اندلعت عام 1979، ونتج عنها إسقاط نظام الشاه، واستبداله الجمهورية الإسلامية به، في ظل مرجعية دينية تنتمي في أساسها الى سلطة آية الله روح الله الخميني. وكان من المفترض أن تؤدي الثورة الإيرانية وظيفتها المُعلنة بوقت اندلاعها، مثل تحقيق العدالة ودرء المفاسد وغيرها من أهداف الثورات المتكررة عبر صفحات التاريخ. ولكن سُرعان ما تحولت الأمور، واتخذت مجرى آخر تمامًا ضرب بعرض الحائط جميع التوقعات الممكنة وغير الممكنة عن مستقبل إيران في تلك الآونة. والآن، وبينما نحن نمضي في أوساط العام 2023، قد يكون من اليسير التطلع الى نتائج هذه الثورة وانعكاساتها الحقيقية على مشاهد الحياة الاجتماعية الداخلية لإيران.
ولا ينسى أحد ما عاصرته مصر، خلال تلك الفترة، من تصريحات كان أعلام الجماعة الإخوانية يتغنون بها عبر الشاشات، من عبارات تُحلل سرقة الآثار والاتجار بها، وأخرى تُنادي بضرورة تحطيم تمثال أبو الهول لأنه في الحقيقة “صنم”، وغيرها من هؤلاء الذين نادوا بضرورة ارتداء مسيحيات مصر الحجاب بشكل قسري وغيرها.
عشر سنوات مضت على مرور ثورة 30 يونيو 2013، ولا تزال هناك لقطات لا يمكن أن تُنسى من ذاكرة الشعب، حول الملحمة الوطنية التي حالت دون انجراف البلاد الى صورة أخرى مغايرة تمامًا لطبيعة المجتمع المصري وهويته. وهنا يطرح السؤال نفسه، ماذا لو لم تكن هناك تلك الثورة واستمر أعضاء الجماعة الإرهابية في حكم مصر حتى اللحظة؟!
الإجابة المختصرة أن مصر حينها ستتحول إلى دولة يتلقى رئيسها تعليماته من الخارج، ولكان نساء مصر مسلمات ومسيحيات يلتففن رغمًا عنهن داخل عباءات الإخوان، ويحظر عليهن الخروج من المنزل من دون مرافقة محرم شرعي، وقد يلي ذلك أن تُحرم النساء من حقوقهن في التعليم والعمل. وآثار مصر ستتعرض إما للهدم بدواعي الكفر والتكفير أو للسرقة لدواعي النهب والتهريب.
وعليه، ينظر التاريخ إلى كل ثورة على حدة بوصفها لحظة محورية ومفصلًا مهمًا تنعطف من خلاله أحوال البلاد تمامًا فيما بعد. وهو ما جرى تمامًا في الحالة المصرية، حيث لعبت ثورة 30 يونيو دورها بوصفها لحظة محورية ولكن ليس على غرار اللحظة الإيرانية أو حتى الأفغانية، بل على الاتجاه المعاكس؛ إذ إنها كانت هي الصخرة التي حالت دون انجراف مصر نحو ذات المصير المظلم الذي لا قرار له. ولم تكن فقط مجرد ثورة حافظت على أمن البلاد فحسب، بل إنها حالت كذلك دون اختفاء الشخصية المصرية بهويتها الثقافية المعتدلة والراسخة وذوبانها في وعاء الإرهاب المتطرف. فثورة 30 يونيو هي اللحظة المحورية والمنعطف التاريخي، الذي ساعد مصر على أن تمضي في طريقها نحو المستقبل باعتبارها –مصر- القوية، المستقلة الوسطية دائمًا بلا تطرف أو انحراف أو انجراف.