الصحافة الدولية

المسار الفلسطيني الإسرائيلي في علاقات روسيا الخارجية.. ماذا فعل بوتين في زيارته الأخيرة؟

قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرا بزيارة الى إسرائيل وفلسطين على حد سواء، وتناقلت الصحافة الروسية هذه الزيارة باعتبارها خطوة مشهودة على مسار خارطة التحركات الخارجية الروسية. فقد شهدت الزيارة حضور الرئيس الروسي عدة فعاليات، من ضمنها حضور المنتدى الدولي العالمي الخامس للهولوكوست والذي انعقد بتاريخ نفس اليوم في القدس، بالإضافة الى مشاركته في حفل افتتاح النصب التذكاري “شمعة للذاكرة”، والذي اقامته إسرائيل تخليدًا لذكرى سكان مدينة لنينجراد –سانت بطرسبرغ حاليًا- واللذين دافعوا عن المدينة أثناء وقوعها تحت الحصار خلال الحرب العالمية الثانية.

وشارك في المنتدى العالمي للهولوكوست رؤساء ورؤساء حكومات وبرلمانيون وملوك قادمون من أكثر من 40 دولة. وخلال الحدث، ألقى الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين ورئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونائب الرئيس الأمريكي مايك بينس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والأمير تشارلز والرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير.

أبرز تصريحات بوتين خلال الزيارة

في خطابه الى المشاركين في المنتدى العالمي الخامس للهولوكوست، وصف بوتين الهولوكوست بأنه أحد أكثر الصفحات سوادًا وخزيًا في التاريخ الحديث، وأعرب عن شعوره بالٍأسف والخزي الشديد لهذا الأمر، وقال إن 40% من ضحايا الهولوكوست كانوا في الأساس مواطنون لدى الاتحاد السوفيتي السابق، وعليه أكد بوتين أن الهولوكوست كان وسيظل دائمًا جرحًا عميقًا لدى روسيا وإسرائيل على حد سواء. ودعا بوتين الى ضرورة اليقظة أمام كل مظاهر الكراهية ومعاداة السامية كشرط أساسي لمنع تكرار هذه المأساة.

وخلال كلمته أثناء مراسم إزاحة الستار عن النصب التذكاري، قال بوتين “تعطي إسرائيل أهمية بالغة للحفاظ على الحقيقة حول الدور الحاسم الذي قام به الاتحاد السوفيتي لأجل الانتصار على النازية. وهي تشعر –شأنها شأن روسيا- بالامتعاض والقلق من محاولات انكار الهولوكوست ومراجعة نتائج الحرب العالمية الثانية وتبرئة القتلة والمجرمين”.

وشدد على أن كلا من روسيا وإسرائيل تدركان أهمية دروس الحرب ولن تسمحا للعالم بنسيان ماذا ينتج عن الأنانية القومية والتفرقة والتسامح مع جميع أشكال السوفيتية ومعاداة السامية ومعاداة روسيا. مضيفًا إن تاريخ العالم يعرف كثيرا من أمثلة صمود وبطولات ونكبات إنسانية كبيرة جدا، لكنه أشار إلى أن “حصار لينينجراد والهولوكوست لا نظير لهما”.

ويُذكر أن النصب التذكاري يعتبر شاهد على ضحايا الحرب العالمية الثانية، وعلى المأساة التي عاشها الناس أثناء الحرب. حيث تعرضت مدينة لينينجراد الروسية إلى حصار دام من 8 سبتمبر 1941 حتى 27 يناير 1944، عانى خلالها سكانها من الجوع والبرد وتقطعت بهم السبل. وتحيي روسيا ذكرى رفع الحصار في الثامن عشر من يناير في كل عام، عندما استطاع السوفييت فتح معبر بري يؤدي الى المدينة، التي انتهى عنها الحصار بالكامل في تاريخ 27 يناير من عام 1944.

بوتين في اسرائيل- لقطات من الزيارة

استقبل الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين، نظيره الروسي بوتين في مقر الرئاسة الإسرائيلية الموجود في العاصمة الفلسطينية القدس. وخلال لقائهما، استعاد ريفلين الى الذاكرة، الحصار الذي حدث في لينيجراد يناير 1942، حيث قال الناجون منه وقتها أن المدينة عرفت أقسى شتاءً في تاريخها على الإطلاق. وأشار ريفلين الى تاريخ 27 يناير، وهو تاريخ رفع الحصار عن المدينة، باعتباره تاريخ مشترك بين البلدين. وانتهز ريفلين الفرصة حتى يطالب بوتين بالعفو عن الإسرائيلية نعمة يساكر -25 عامًا- التي اعتقالها والحكم عليها بالسجن قرابة الـثماني سنوات في روسيا، معترفين بأنها أخطأت بالفعل ولكنها تستحق فرصة أخرى.

وفي لقائه مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، أجرى بوتين ونتنياهو اجتماع مكثف، قام من خلالها الطرفان بتداول النقاش حول تطورات الأوضاع في سوريا، حيث أخبر بوتين نتنياهو عن نتائج زيارته الأخيرة لدمشق، وفقًا لديميتري بيسكوف المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية. وقد أضاف بيسكوف منوهًا الى أن الطرفان قد تناولا ما يهم زملائهم الإسرائيليون فيما يخص الأزمة السورية، كما ناقشوا بعض الشئون الإقليمية مثل تصاعد التوتر حول إيران، والتسوية الفلسطينية الإسرائيلية، بالإضافة الى العلاقات الثنائية.   كما استغل نتنياهو الفرصة لأجل تجديد طلب العفو عن المواطنة الإسرائيلية المحتجزة في روسيا على خلفية ضلوعها بحيازة وتهريب المخدرات.

بوتين في بيت لحم ولقاء مع محمود عباس

بعد الانتهاء من المشاركة في فاعليات الزيارة الى إسرائيل، وصل بوتين الى بيت لحم حيث أجرى لقاء موسع مع نظيره الفلسطيني محمود عباس. ولقد بحث الطرفان تطورات الأوضاع في المنطقة وعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية. وقبيل الزيارة، كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس قد أعلن عن اعتزامه مناقشة قضية ضم إسرائيل للأراضي الفلسطينية وصفقة القرن مع الرئيس الروسي.

فيما أكد بوتين من جانبه على أهمية الدور الروسي في دعم التسوية العربية الإسرائيلية، كما شدد على أهمية اللقاءات المتبادلة والاتصال المستمر بين الجانبين الفلسطيني والروسي. وفي هذا الصدد قال بوتين” تجمعنا علاقات تاريخية وندعم فلسطين في مختلف المجالات”. مضيفًا “جاهزون لتعزيز وترسيخ التعاون الإنساني والاقتصادي، ولعب دور في التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ونتفهم القلق الفلسطيني إزاء عملية السلام مع إسرائيل”.

زيارة بوتين الى إسرائيل وفلسطين.. دلالات ومعاني

أحيانًا يتلخص المعنى المرادف للسياسة في كيفية تحقيق أكبر قدر ممكن من الأهداف بخطوات أحادية، أو على الأقل بتحركات مزدوجة. ومن ناحيتها ترغب موسكو في لعب هذا الدور وبشدة، إذا فلا ضير في أن يزور بوتين إسرائيل إذا كان في نفس الوقت سوف يُرفق تلك الزيارة بواحدة أخرى موازية الى فلسطين. وإذا كانت واشنطن تواصل دائما الإعلان عن أهمية إسرائيل لديها، وكيف أن أمن إسرائيل يأتي في المقام الأول قبل النظر في أيًا مما يتعلق بالتسويات المقترحة لحل القضية الفلسطينية، فإن موسكو سوف تستمر في مواصلة والتأكيد على أنها هناك ايضًا، تمامًا حيث تقف واشنطن. ولكن هنا يطرح تساؤل نفسه، هل تعني زيارة بوتين الى إسرائيل وفلسطين أن كلا الجانبين يشغلان نفس درجة الأهمية في عيون موسكو؟! أو بالأحرى هل يمكن اعتبار هذه الخطوة باعتبارها ضربة أخرى مزدوجة ناجحة بالنسبة لموسكو في احدى بؤر النزاع بالشرق الأوسط؟!

على المستوى التجاري والاقتصادي، تعتبر إسرائيل بمثابة شريك هام لروسيا بحيث تغطي العلاقات الثنائية بينهما مجالات مثل الصناعة والزراعة والتكنولوجيا المتقدمة، في عام 2018، بلغ حجم التجارة الخارجية لروسيا وإسرائيل ” 2,7 مليار دولار”، بعد أن كان قد وصل في عام 2017 إلى ” 2,5 مليار دولار”. كما يرتبط الجانبان بما لا يقل عن 20 اتفاقية حكومية ويجري باستمرار العمل على تطوير وتحسين الأطر القانوني للتعاون الروسي الإسرائيلي.

وعلى المستوى الإنساني، يعيش في إسرائيل أكثر من مليون مواطن من أصول روسية، بحيث لاتزال الجالية الروسية تحافظ على لغتها، وثقافتها، وتحتوي إسرائيل على العديد من الصحف التي تصدر باللغة الروسية، بالإضافة الى أكثر من 150 قناة إذاعية وتليفزيونية باللغة الروسية.

ومن الناحية العسكرية، ترتبط البلدان ببعضهما البعض بنوع مختلف من التعاون العسكري، الذي يرتبط بطبيعة ما تدعمه كل دولة من حلفاء تراهم الدولة الأخرى أعداء لها. وفيما تفكر إسرائيل في كيف سوف ينعكس التعاون الروسي الإيراني على أمنها الشخصي، يذكر في نفس السياق أن روسيا أيضًا تعاني من نفس الخوف، إذ أن التكنولوجيا العسكرية الإسرائيلية كانت قد سبق وتم استخدامها مع معارضي روسيا في جورجيا، خلال صراع أوسيتيا الجنوبية عام 2008، إلا أنه وفي نهاية المطاف، كل هذا لا يعني أن البلدان لم تتمكنان بشكل أو بآخر من تحقيق التعاون العسكري.

وفي المقابل، إذا نظرنا الى تاريخ الاتفاقيات التي تربط بين روسيا وفلسطين، فلن نعثر على تعاون وتفاهمات إلا فيما يتعلق بأقل القليل، وإن كان من المحدد القول، أنه لا توجد اتفاقيات تربط بين البلدان سوى ما يصب في المصلحة الروسية فحسب، على غرار اتفاقية متعلقة بالسماح لوفد خبراء روسي بإجراء زيارة عمل الى مدينة أريحا قاموا من خلالها بتنفيذ العديد من الأبحاث والدراسات الأثرية في موقع مشروع المتحف الروسي. وهكذا يمكن القول بأن أي حديث آخر عن تعاون بروتوكولي أو من خلال اتفاقيات بين روسيا وفلسطين، لم يتعد أبدًا كونه مجرد حديث وتنسيق مشترك يهدف الى تعاون، أو اتفاقيات مأمول توقيعها وانتهت جميعها الى الـ لاشئ.

والدليل على ذلك ليس ببعيد عن الذكر، إذ أنه تجدر الإشارة إلى أن السفير الفلسطيني لدى موسكو عبد الحفيظ نوفل، كان قد صرح لوكالة أنباء ريا نوفوستي الروسية، قبيل انعقاد الزيارة الروسية الأخيرة الى فلسطين بعدة أيام، أن روسيا وفلسطين تخططان لتوقيع وثيقتين حول التعاون المشترك بينهما خلال زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ووفقًا لنوفل، كان من المخطط أن تكون إحدى الوثيقتين تتعلق بمنح الدبلوماسيين والطلاب الحركة في الانتقالات، والأخرى كانت وثيقة تتعلق بالتعاون في مجال الإحصاء، إذ أنه كان من المقرر توقيع اتفاقية بين المعاهد الإحصائية الفلسطينية والروسية. ولكن الغريب في الأمر، أن أيًا من هاتين الوثيقتين لم يتم توقيعهم، ولم يتم حتى ذكرهم من قريب أو من بعيد، حتى أن وكالات الأنباء المحلية والعالمية التي تابعت أحداث الزيارة، لم تتحدث عن مصيرهم الحقيقي ولا عن السبب خلف عدم استكمال المخططات المُعلن عنها وتوقيعهم بالفعل!

بمعنى أن يقف بوتين جنبًا الى جنب مع رؤساء وشخصيات مرموقة عالميًا، في القدس من قلب حدث مقدس بالنسبة لإسرائيل، ويؤكد على متانة الترابط الذي يجمع بين بلاده وبين إسرائيل، ويشدد على أن ما حدث في المحرقة كان مأساة مشتركة لشعبين. وحتى قبل هذا الحدث لطالما كان اعتاد أن يؤكد أمام الشاشات على أن “المليون ونصف المهاجر من الاتحاد السوفيتي الى إسرائيل، تنظر لهم روسيا باعتبارهم شعبها ومواطنيها”. بينما يكتفى بوتين اثناء لقاءه مع محمود عباس بالحديث عن جاهزية روسيا للتعاون الاقتصادي والإنساني مع فلسطين، ودعم التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، ولكن بدون تحديد أي معالم واضحة لهذا النوع من التعاون، وبدون أن يتم ذكر أو الإعلان عن وثائق وخطوات واضحة ومحددة تعتزم روسيا اتخاذها في هذا السياق، فقط قال لنظيره الفلسطيني، ننتظر زيارتك الى موسكو في هذا العام، وهذا هو كل شيء.

ما تحصل عليه روسيا مقابل المكاسب الإسرائيلية الأخرى؟

لا تتوقف إسرائيل عن إعادة ذكريات المحرقة الى الأذهان كلما حان وقت جني بعض المكاسب الدولية، هذه المرة يتزامن ذكرى المحرقة مع رغبة إسرائيل في الإفراج عن الشابة الإسرائيلية -نعمة يساكر- التي بات اسمها يتردد بشكل كبير باعتبارها فتاة تعرضت لظلم كبير، وأن قضيتها هي قضية مقدسة، وسوف تدافع عنها إسرائيل دولةً وحكومًة وشعبًا حتى النهاية، ولا مانع كذلك من دخول العواطف الى المسألة، خاصة بعد أن تم تخصيص جزء من الوقت على جدول اعمال زيارة بوتين الأخيرة المزدحم لأجل لقاء والدة يساكر ومحاولة اقناع بوتين بالتدخل للإفراج عنها، وللوهلة الأولى يظن من يقرأ هذه السطور أن الفتاة قد تم القبض عليها على خلفية اتهامات أخرى بعيدة عن كونها، كانت تسافر عبر الأراضي الروسية وهي تحمل في حقيبتها المخدرات.!
ويبدو أنه لا مانع لدى بوتين من تسييس المسألة، والتمادي مع التوجه الإسرائيلي الذي يميل عن تعرض الفتاة للظلم الجائر، ولكن الى أي حد يا تُرى؟! هل يعتزم بوتين العفو عن الفتاة مقابل لا شيء؟! بالطبع لا، لأن كل شيء له ثمن، والأمر الذي ليس له أي ثمن هو بالتأكيد أمر لن يتم تحت أي بند من البنود. إذ أن روسيا تملك بالفعل العديد من الأشياء التي من الممكن أن تطالب بها مقابل العفو عن الفتاة، حتى مع عدم وجود –مفاوضات رسمية- في هذا السياق. قد ترغب روسيا في تبني الرواية الروسية فيما يتعلق بالنقاش التاريخي حول مسئولية بولندا عن الهولوكوست، إلى جانب منح صك ملكية ساحة “ألكسندر نيفسكي” في البلدة القديمة بالقدس، الى الكنيسة الروسية وشطب ديونها كذلك، بالإضافة الى إبعاد مسار سكة القطار في القدس عن أملاك الكنيسة الروسية. هذا بالتأكيد لأن بوتين يسعى لإرضاء الكنيسة الروسية، باعتبارها واحدة من أهم معاقله أمام ناخبيه. وهكذا يبقى الرهان على عامل الوقت، لأجل الوقوف على مدى جاهزية إسرائيل للتضحية بالعديد من المكاسب في مقابل الإفراج عن فتاة مُدانة في حادث حيازة والإتجار بالمخدرات.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

داليا يسري

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى