
ليبيا بعد مؤتمر برلين … ما بين أحلام اليقظة والواقع
منذ ساعات، صدرت المسودة الختامية لمؤتمر برلين الدولي حول الأزمة الليبية، وبرغم أن السواد الأعظم من بنود هذه المسودة كان متوقعًا، ألا أن أطرافًا عديدة كانت تنتظر الإعلان الرسمي عنها، من أجل تحديد ما إذا كان هذا المؤتمر سيخرج بنتائج تختلف عن نتائج مؤتمري باريس وروما عام 2018، وكذلك لتحديد اتجاهات القوى الإقليمية والدولية فيما يتعلق بالنقاط الخلافية الأساسية في بالملف الليبي في وضعه الحالي (وضع الميليشيات – آلية ضمان ومراقبة وقف إطلاق النار – حماية الإمدادات النفطية – المصالحة الداخلية – وقف التدخلات الخارجية – حظر تصدير الأسلحة لليبيا – مواضع القوات)
جاءت بنود البيان الختامي للمؤتمر، إطارية بشكل نمطي، ولم توضح آليات التنفيذ أو حتى السقف الزمني لبدء وإنجاز هذه البنود. كما غابت عنها نقاط مهمة كانت أساسية كسبب لرفض قيادة الجيش الليبي التوقيع على اتفاقية الهدنة في موسكو، مثل وضع الميليشيات.
البيان الختامي تمحور بشكل أساسي حول ثلاثة نقاط، الأولي هي وقف إطلاق النار، والثانية هي ضمان إعادة التدفقات النفطية الليبية، والثالثة ترتيبات سياسية مستقبلية تتعلق باجتماعات مقبلة حول الشأن الليبي. ويضاف إلى ذلك، تصريحات المستشارة الألمانية ميركل حول التوافق على خطة شاملة برعاية الأمم المتحدة، ستجتمع في الثاني من فبراير المقبل، وتضم في طياتها أربعة لجان مختلفة تتناول الشأن الاقتصادي والعسكري والسياسي.
وقف إطلاق النار
فيما يتعلق بوقف إطلاق النار، كانت لغة البيان الختامي فضفاضة، فقد قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، إنه حدث توافق خلال المؤتمر بين كل الأطراف على ضرورة وقف إطلاق النار في طرابلس، ولكنها برغم ذلك أقرت أن وقف إطلاق النار فعليًا غير موجود على الأرض، في ظل عدم توقيع الأطراف المتحاربة على اتفاقية للهدنة.
وعلى ما يبدو فإن مراقبة وقف إطلاق النار أو آلية ضمان استمراره، لم تتم مناقشتها بصورة وافية في المؤتمر، نظرًا لخلافات جوهرية ظهرت حتى قبل بدء المؤتمر بشكل فعلي، فإيطاليا التي وصلت إلى قناعة منذ أواخر عام 2018، أن دورها في الملف الليبي يتراجع بشكل متسارع، كانت تسعى خلال هذا المؤتمر إلى التسويق لفكرة قيامها بدور (قوة حفظ سلام)، أو (قوة مراقبة وقف إطلاق النار)، وكان ذلك واضحًا في تصريحات سابقة لرئيس الوزراء الإيطالي حول إمكانية قيام الجيش الإيطالي بهذا الدور.
هذا المعنى تحدث عنه خلال الساعات الماضية كل من رئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق في طرابلس فايز السراج، ووزيرة الدفاع الألمانية أورسولا فون دير لاين التي اشترطت تطبيق هدنة دائمة في ليبيا، إذا ما تم الطلب من ألمانيا المشاركة في قوة حفظ سلام على الأراضي الليبية.
وهذا الرأي تم رفضه من جانب روسيا، حيث صرح وزير الخارجية الروسي قبيل المؤتمر، أن إرسال قوات دولية إلى ليبيا، يحتاج إلى توافق إقليمي ودولي، من الصعب تأمينه في الوقت الحالي، وهذا هو نفس الرأي الذي أدلى به المبعوث الأممي إلى ليبيا غسان سلامة خلال الاجتماع. وبالتالي لم يتعد ما حققه المؤتمر في هذه القضية، تصريح ميركل حول “تأييد كل الأطراف للهدنة”، وقد صرّح الأمين العام للأمم المتحدة في هذا الصدد بأنه توجد مساعي لعقد اجتماع مقبل في جنيف، للجنة عسكرية مشتركة ليبية، وهي لجنة 5 + 5.
الملف الاقتصادي
المسار الثاني الذي كان هو الأبرز في البيان الختامي هو الملف الاقتصادي، وهذا بالطبع على عكس ما كان متوقعًا من هذا الاجتماع، ويعزى إلى الخطوة المفاجئة التي قامت بها القبائل الليبية في شرق وجنوب غرب البلاد، بوقف إنتاج معظم موانئ وحقول النفط، فقد بدأت القبائل الليبية قبيل ساعات من انعقاد المؤتمر، في تحركات لتعطيل حركة استخراج وتصدير النفط.
والحديث هنا عن تجمع القبائل الليبية في شرقي البلاد، بجانب تجمع غضب فزان، ومجلس مشايخ ترهونة، ومجلس قبائل الزاوية. ونتيجة لهذه التحركات، تم تعطيل العمل بشكل شبه كامل في كامل موانئ الهلال النفطي (رأس لانوف – السدرة – البريقة – الزويتينة)، وهو ما أدى بالتبعية إلى تعطيل عمليات التصدير والاستخراج من أكثر من 50 حقل نفطي في نطاق حوض سرت النفطي. كذلك تم تعطيل الخط النفطي الرابط بين حقل الحمادة النفطي وميناء الزاوية، وكذلك التعطيل الجزئي لعمليات الاستخراج من حقلي الشرارة والفيل جنوب غرب البلاد، وهي منطقة تعمل فيها شركة ريبسول الإسبانية، وشركتا إيني الإيطالية وغازبروم الروسية.
وتمت هذه التحركات بشكل أساسي بعد افتضاح أمر تمويل حكومة طرابلس لعمليات استقدام وتوظيف وإعاشة مئات المرتزقة السوريين بأموال العوائد النفطية. وقد مثلت التحركات عامل ضغط على المجتمعين في برلين، وهو ما انعكس في تصريحات أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو جوتيرتش، الذي قال فيها غن المجتمعين في برلين، اتفقوا على الاجتماع بعد أسبوعين لمناقشة المسائل المتعلقة بالحوكمة، وبشكل خاص ملف مصرف ليبيا المركزي ومؤسستي الاستثمار والنفط.

المسار السياسي
على مستوى المسار السياسي، كان من المتوقع حسب ما تم تداوله قبيل عقده، أن يخرج هذا الاجتماع بمسار واضح، يؤسس لاتفاق سياسي بين الأطراف المتحاربة، ويحسم أمورًا خلافية تتعلق بمجلس النواب والحكومة، ولكن فعليًا لم يخرج الاجتماع بأي جديد في هذا الصدد، سوى الترويج للجان التي تم تشكيلها، وإلى دورها المستقبلي في متابعة الملفات العسكرية والسياسية والاقتصادية.
على الجانب الأخر، كانت النقاط الخلافية الغائبة في البيان الختامي لهذا الاجتماع، أكبر بكثير مما كان متوقعًا، فبالإضافة إلى غياب آلية واضحة لتطبيق ومراقبة وقف إطلاق النار، وغياب محددات أساسية لحل سياسي دائم، غاب عن هذا البيان، تقديم حلول لمعضلة من أهم معضلات الملف الليبي، وهي عمليات إرسال الأسلحة والمرتزقة من سوريا وتركيا إلى ليبيا.
أغلب المجتمعين في هذا المؤتمر، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، تحدثوا قبل وأثناء المؤتمر عن خطورة عمليات إرسال المرتزقة والأسلحة إلى ليبيا، لكن غابت هذه المسألة عن البيان الختامي، ولم تتم الإشارة إليها إلا ضمنيًا في تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة الذي قال إن الأمم المتحدة تتوقع أن يحترم الجميع قرار حظر إرسال الأسلحة إلى ليبيا، وإنها تدعو كافة الفاعلين لوقف أي أنشطة تدعم العمليات العسكرية.
بيان برلين تفادي الحديث بشكل صريح عن تورط تركيا في الملف الليبي، وهو التورط الذي تحدث عنه سابقًا معظم المجتمعين، بما فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. فتركيا استغلت بشكل فاضح الهدنة الأخيرة، من أجل إرسال مزيد من المقاتلين والأسلحة، بما فيها أسلحة دفاع جوي وصلت خلال الساعات الماضية، كما سبق وأشار المرصد.
وبالتالي فإن عدم وضع ضوابط لمراقبة عمليات إرسال المرتزقة والأسلحة إلى سوريا، يجعل هذا الأمر فعليًا خارج المتابعة الدولية، إلى حين. كما أن البيان الختامي، تجنّب أيضًا تناول مسألة الميليشيات وتفكيكها، وموضوع مرابض القوات وخطوط التماس في حالة ما إذا ما استُديم وقف إطلاق النار، وهي نقاط مهمة، كانت سببًا أساسيًا في عدم توقيع المشير خليفة حفتر على اتفاقية الهدنة التي رعتها روسيا.
إذن في خلاصة التحليل لنتائج هذا المؤتمر، نستطيع أن نعتبرها نسخة مكررة من مخرجات اجتماعي باليرمو وباريس، بها قليل من الوعود، وكثير من العبارات الفضفاضة والتأجيلات، التي تغيب عنها آليات التنفيذ ومحددات المسار. ولعل المغادرة السريعة لكافة الوفود المشاركة في المؤتمر، وعدم اللقاء المباشر بين قائد الجيش الوطني ورئيس حكومة الوفاق، وتصريحات وزير الخارجية الروسي عقب المؤتمر حول استحالة قيام حوار ليبي – ليبي مشترك في الوقت الحالي، هي دلائل مهمة تشير إلى أن الأيام المقبلة في ليبيا تسير نحو تصعيد ميداني كبير، يجعل البلاد تقترب حثيثًا من سيناريو شبيه بالسيناريو السوري، فغياب ضوابط واضحة تكبح الجماح التركية في (أدلبة) الوضع الليبي، ستجعل مناطحة طواحين الهواء، أكثر جدوى من أية جهود إقليمية أو دولية لفرض حل سياسي في ليبيا.
باحث أول بالمرصد المصري