
مؤتمر برلين.. آمال عريضة ومخرجات محدودة
اختُتمت فعاليات مؤتمر برلين(19 يناير2020) والذي دعت إليه المستشارة الألمانية ” انجيلا ميركل” حيث شارك في المؤتمر عدد من الفواعل الإقليمية والدولية المنخرطة أو المتأثرة بالصراع الدائر على الساحة الليبية-زعماء ووزراء نحو 12 بلدًا ورؤساء وممثلي 5 منظمات دولية- من أجل العمل على حلحلة الازمة او تخفيض حدة الصراع الليبي الذي امتد منذ سنوات، فضلًا عن البحث عن آليات وسبل لإطلاق عملية سلام وتهدئة بين الأطراف المتناحرة.
وقبل انعقاد المؤتمر كشفت عدد من التقارير ما عُرف باسم ” مسودة البيان الختامي” والتي تضمنت عدة بنود أساسية تتعلق بالإصلاحات الاقتصادية، والترتيبات الأمنية، فضلًا عن حظر توريد الأسلحة، والعمل على وقف إطلاق النار، ناهيك عن حث الأطراف الدولية المشاركة في المؤتمر إلى العودة للعملية السياسية والالتزام بالقانون الدولي، وعليه يمكن قراءة ما جاء في هذه المسودة باعتباره المُخرج النهائي للاجتماعات التحضيرية والنقاشات التي استمرت الأشهر الماضية بين الدولة الداعية للمؤتمر-برلين- والأطراف المنخرطة والمتأثرة بالصراع، خاصة وأن مثل هذه القضايا الواردة في المسودة لا يتصور أن يتم حسمها في غضون يوم انعقاد المؤتمر، وهو ما يعني الترتيب المسبق لهذه المخرجات.
وترتيبًا على ما سبق يسعى هذا التقرير للوقوف للإجابة على عدد من التساؤلات، سواء ما يتعلق بدوافع ومواقف الأطراف المنخرطة في الصراع، وما يمكن أن تؤول إليه المفاوضات، وصولًا لفرص نجاح المؤتمر أو العقبات التي قد تحول دون ذلك وذلك فيما يلي:
مفاوضات مُتكررة ونتائج غير مُجدية
لقد عُقدت عدة لقاءات ومؤتمرات سابقة بهدف العمل على تسوية الأزمة الليبية، وقد تمت محاولات سابقة مشابهة لمساعي برلين الحالية تجاه الأزمة، وهو ما يمكن الوقوف عليه عبر مجموعة من المحطات والمراحل، سواء تلك التي تمت من قبل فرنسا، حيث حاول الرئيس الفرنسي عبر عدد من الإجراءات علي فرض الرؤية الفرنسية وتبني موقف الوساطة الدولية في الازمة وذلك من خلال عقد مؤتمرين متعلقين بهذا الشأن وذلك في (25 يوليو2017) وقد اتفق الأطراف المشاركة على أهمية الحل السياسي للازمة عبر عدة مسارات أهمها تنظيم انتخابات برلمانية ورئاسية نهاية عام 2017 مع العمل على خلق مناخًا محفزًا لعملية التحول من خلال بناء الثقة ومزيد من التوافق بين مختلف الأطراف، إلا ان هذه المحاولات لم تنجح في تحقيق مراده.
وقد عاودت باريس محاولاتها في هذا الصدد في (مايو2018) دون جدوى حقيقية. كما سعت إيطاليا للقيام بمهمه مماثلة من خلال مؤتمر باليرمو الذي عُقد في (نوفمبر2018) والذي تركزت مخرجاته حول ضرورة عقد مؤتمر وطني جامع يضم كافة الفرقاء الليبيين والعمل على اجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية خلال عام 2019، مع التأكيد على ضرورة توحيد الجيش الليبي، إلا أن المؤتمر لم يسفر عن أية تحولات في الازمة الليبية، ويمكن ارجاع ذلك لعدة أسباب من أبرزها أن فرنسا وإيطاليا ليست الوسيط أو الطرف الثالث المحايد الذي يمكن أن يتبنى عملية التوفيق بين الأطراف المتنازعة وذلك بحكم المصالح المتباينة لكل الطرفين. وعلى ذات المنوال، وبالتحديد في فبراير 2019 اتفقا السراج وحفتر خلال لقاء في ابوظبي على انهاء المرحلة الانتقالية والعمل على اجراء انتخابات عامة تعمل على تهدئة الأوضاع في ليبيا، ورغم هذه المحاولات الدولية إلا أن المشهد في ليبيا زاد تعقدًا وتشابكًا ولم تسفر هذه التحركات عن أية نتائج إيجابية بشأن الأزمة الليبية.
مؤتمر برلين.. المُناخ العام
يُعقد مؤتمر برلين بشأن ليبيا في ظل مناخ مُلبد بالتشابكات والتداخلات الأمر الذي يمكن الوقوف عليه من خلال عدة نقاط باعتبارها محددًا مهمًا وسياقًا ضابًطًا للمؤتمر وذلك فيما يلي:
1- جاء مؤتمر برلين في أعقاب محاولات روسيا لفرض اجندتها في الصراع الليبي والبحث عن تدخل يضمن لها مزيدًا من النفوذ المستقبلي، وقد ظهرت المساعي الروسية للعلن من خلال المبادرة الروسية التركية لوقف إطلاق النار بين الطرفين الرئيسيين في الازمة الليبية وذلك على هامش اجتماع جمع بين بوتين واردوغان (8 يناير2019)، كما انتهت المباحثات التي تمت برعاية موسكو (13 يناير2019) بشأن تثبيت وقف إطلاق النار دون جدوى حقيقة بعدما انسحب قائد الجيش الليبي دون التوقيع على مخرجات الحوار بسبب ضبابية الاتفاق وغموض ما جاء فيه.
2- يأتي مؤتمر برلين أيضًا في ظل معادلات جديدة فرضها التقدم الميداني والنجاحات العسكرية للجيش الوطني الليبي والتي تجلت بوضوح في نجاح الجيش في تحرير والسيطرة على مدينة سرت (7 يناير2019) ويُعد هذا النجاح أول تقدم عسكري احزره الجيش الليبي منذ عدة أشهر، كما أنه يعتبر مقدمة يمكن البناء عليها لشن هجوم أوسع بغرض تطويق وتحرير مصراته من أيدي الجماعات والميلشيات المسلحة، خاصة وأنها تعتبر المعقل الرئيسي لهذه الجماعات حيث تصم وفقًا لعدد من التقارير ما يقرب من 30 ألف مقاتل ضمن الميليشيات التي تدعم السراج.
3- كما عُقد المؤتمر ايضًا في ظل انخراط عسكري مُعلن من قبل أنقرة في الازمة الليبية والذي جاء من خلال موافقة البرلمان التركي (2 يناير2019) على الموافقة على نشر قوات عسكرية لدعم السراح ومنع انهياره في ظل التقدم العسكري للجيش الوطني الليبي، وقد عززت أنقرة تحركها بمحاولات تم توثيقها ورصدها تتمثل في نقل عدد من المقاتلين من الساحة السورية إلى ليبيا، حيث اشارت عدد من التقارير إلى ضلوع تركيا بشكل مباشر في عملية نقل وتجهيز نحو 2000 مسلح سوري عبر توقيع عقود بمبالغ مالية كبيرة نظير قيامهم بهذا الدور الداعم لميليشيات طرابلس.
هذا السياق والمناخ العام المُصاحب لانعقاد المؤتمر يستدعي البحث عن مواقف الأطراف الاقليمية والدولية الفاعلة من الأزمة الليبية بهدف معرفة إمكانية نجاح المؤتمر من عدمه وهو ما يمكن ايجازه فيما يلي:
- برلين وسيط مُحايد وطرف موثوق فيه، تسعى المانيا عبر دعوتها لعقد مؤتمر بشأن تسوية الازمة إلى تحقيق مجموعه من الأهداف من بينها تخفيف حدة الصراع لما له من تداعيات وتأثيرات سلبية يمكن أن تنال من استقرار المانيا بشكل خاص وأوروبا بشكل عام، حيث أن مزيد من الفوضى يعني مزيد من الهجرة غير الشرعية وهو ما يؤثر على المانيا بشكل كبير، فضلًا عن رغبة المانيا في عدم تحويل ليبيا إلى ساحة سوريه جديدة خاصة في ظل التدخل العسكري التركي الأخير ومحاولة انقرة فرض أمر واقع ودعم الميليشيات المسلحة في طرابلس على غرار الدعم العسكري التركي الواضح للعناصر الإرهابية في ادلب شمال سوريا، كما أن برلين تعمل جاهده على تجنب تسلل الإرهابيين من ليبيا إلى بلادها في ظل استمرار الأزمة الليبية.
- موقف اقليمي مُضاد، في الوقت الذي تدعم فيه مصر والإمارات والسعودية قيام الدولة الوطنية الليبية والعمل على توحيد وتقوية المؤسسة العسكرية وتطويق وتحجيم نفوذ الميليشيات المسلحة، نجد أن تركيا وقطر تقف في اتجاه مضاد لهذا النهج حيث تعمل كلا البلدين على تقديم الدعم المالي والعسكري للسراج وميلشيات طرابلس، إذ أفادت عدد من التقارير إلى أن أنقرة ارسلت معدات عسكرية للسراج بنحو 350 مليون دولار منذ حملة الجيش الليبي العسكرية تجاه طرابلس والتي انطلقت في (ابريل 2019)، فضلًا عن ارسال طائرات بدون طيار وعدد من المستشارين والخبراء العسكريين لإدارة ما يُعرف بغرفة عمليات طرابلس لشن هجمات ضد الجيش الليبي. في الوقت ذاته تسعى الجزائر وتونس لإظهار موقف محايد في الأزمة رغم انحيازهم للسراج، كما ينظر للمصالح الفرنسية والإيطالية المتضاربة بشأن الأطراف الرئيسية في ليبيا ضمن أسباب تعقيد المشهد حيث ساهم الصدام واختلاف الرؤى بين الطرفين في غياب رؤية أوروبية موحدة لحلحلة الازمة الليبية.
وتأتي هذه المواقف الإقليمية في ظل مساعي روسيا في مزيد من الانخراط في الازمة الليبية كجزء من استراتيجية موسكو لبسط مزيد من النفوذ والهيمنة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، الأمر الذي قوبل بانتقادات ورفض أمريكي، حيث اتهمت الخارجية الأمريكية(نوفمبر2019) روسيا بالعمل على زعزعة الاستقرار في ليبيا من خلال توظيف شركات العسكرية الخاصة في هذا الغرض، الامر الذي نفته موسكو بشكل قاطع، وتمثل هذه الاتهامات مؤشرًا على تقاطع مصالح القوى الكبرى- روسيا وأمريكا- بشأن الازمة الليبية، فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة لم تكن فاعلًا مؤثرًا في الأزمة ولم تضع ليبيا ضمن أولوياتها، إلا ان الانخراط الروسي المتزايد يسبب لها مزيدًا من الانزعاج، وهو ما قد يؤثر على التسوية النهائية للازمة حال استمرار التضارب في الموقف وغياب الموقف الدولي الموحد.
البيان الختامي.. خطوط عريضة تحتمل التأويل
اظهر البيان الختامي حول مؤتمر برلين جملة من المبادئ والخطوط العريضة التي تم الاتفاق عليها من قبل الحضور، ومن بينها حظر توريد السلاح إلى ليبيا، الأمر الذي لا يُمكن اعتباره تحولًا جذريًا في مسار الأزمة خصوصًا وأن حظر توريد السلاح يتم اختراقه بشكل كبير منذ 2011 وهو ما يتوقع استمراره في الفترات القادمة خاصة في ظل عدم وجود ضمانات دولية حقيقة وجادة لمنع مثل هذه الاجراءات أو معاقبة من يقوم بها، كما أن الاتفاق على تسوية الازمة عبر السبل السياسية يعتبر هدفًا طويل الأمد لا يمكن اختبار جدواه على المدى القصير، خاصة في ظل فشل محاولات سابقة لاقناع طرفي النزاع بالشروع في تسوية تبدأ بوضع دستور ومن ثم اجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية، ناهيك عن أن الدعوة لتشكيل لجنة لمراقبة الهدنة لن تكون مجدية في ظل عدم وجود ضمانات وضغط حقيقي على الاطراف المنخرطة عسكريًا في الصراع وعلى رأسهم أنقرة والتي تمثل تهديدًا كبيرًا يمكنها أن يقوض أية جهود لحل الأزمة، خاصة مع استمرار الخروقات في عدة محاور في ليبيا وهو ما لوحظ اثناء انعقاد مؤتمر برلين عبر قيام الميليشيات المسلحة في طرابلس بإطلاق النار على قوات الجيش الليبي جنوب طرابلس.
مجمل القول، يمكن القول على أن السياق العام والمناخ المصاحب لمؤتمر برلين يختلف بشكل كبير عن المفاوضات السابقة التي تمت تحت رعاية فرنسا وإيطاليا، إلا ان ذلك لا يُعني غياب التحديات أو العراقيل التي قد تحول دون نجاح المؤتمر ومن بينها ما يتعلق بمشكلة تجريد الميليشيات المسلحة من أسلحتها، فمن المتوقع إلا يتم التوافق على الترتيبات الأمنية المتعلقة بهذه القضية، خاصة وأن الجيش الليبي لن يقوم بتقديم أية تنازلات تنتقص من نجاحاته الميدانية التي تحققت في الآونة الأخيرة، كما أن تعنت تركيا واستمرار دعمها لهذه الميليشيات قد يستمر، وهو ما حاول اردوغان التأكيد عليه من خلال دعوته للدول الأوروبية لتقديم دعم عسكري للسراج، الأمر الذي يجعل من حلحلة الازمة بشكل نهائي خلال مفاوضات برلين صعب المنال، إلا ان التمثيل الدولي والرئاسي الملحوظ في برلين قد يكون ضامنًا على الأقل لتخفيض حدة الصراع.
رغم ذلك تظل محطة برلين خطوة يمكن البناء عليها لإنهاء الازمة، وأن التركيز الأساسي للمؤتمر سيتمحور حول التأكيد على أهمية استمرار تثبيت الهدنة العسكرية، مع بقاء الجيش الليبي حول طرابلس لاختبار صدق نوايا حكومة الوفاق والأطراف الداعمة له، مقابل وضع آلية مراقبة دولية على الهدنة وإمكانية نزع السلاح من الميليشيات المسلحة الأمر الذي قد يحتاج لوقت طويل حتى يتحقق.
باحث ببرنامج قضايا الأمن والدفاع



