
رؤية جيوسياسية… فرنسا وتحديات الأمن الأوروبي
أثارت انتقادات الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” حول حلف شمال الأطلسي وقدراته على مواجهة التحديات حالة من الجدل، موضحًا إنه “مات إكلينيكيًا”، وذلك إبان مقابلته مع مجلة “الإيكونومست” في السابع من نوفمبر 2019. وفيما يتعلق بإيمانه بضمان الدفاع الجماعي بموجب المادة الخامسة لمعاهدة الناتو، فقد أجاب بإنه “لا يعرف”، رغم أنه قال إن الولايات المتحدة ستبقى حليفة.
تزامنت التصريحات مع الاحتفال مع الذكرى الثلاثين لانهيار جدار برلين، وإعادة توحيد ألمانيا، وقبل شهر من قمة الناتو المقرر انعقادها في 4 ديسمبر 2019.
المحفزات الداعمة لموقف “ماكرون”
جاءت انتقادات “ماكرون” كتحذير للدول الأوروبية من تنامي التحديات المتلاحقة في النظام العالمي، وخاصة مع التحول في النهج الاستراتيجي للإدارة الأميركية في تعاطيها مع الأمن الأوروبي، وعدم القدرة على التنبؤ والتنسيق في ظل إدارة “دونالد ترامب”.
بجانب التدخل العسكري التركي في شمال سوريا بالرغم من التحذيرات الدولية لأنقرة التي تعد عضوًا في الناتو. مؤكدًا على ضرورة إعادة تقييم دور الحلف في سياق الالتزام الأميركي. علاوة على افتقار أوروبا إلى مقدرات عسكرية وثقافة استراتيجية مشتركة يمكن أن تكون ركيزة للاضطلاع بموقف دفاعي أقوى، دون التنافس مع الناتو أو الاعتماد عليه بشكل كلي.
وعليه ترغب باريس في أن تتكامل الدول الأوروبية، ويتم التنسيق بينهم لمواجهة التحديات المتنامية في النسق العالمي، بجانب إعادة الناتو النظر في سياساته التي مازالت مقترنة بإرث الحرب الباردة، مع السعي للتقارب مع روسيا لحماية الأمن الأوروبي.
ويرجع ذلك لاعتقاد “ماكرون” أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” رغم كل الانتقادات الغربية المعادية للكرملين، سيجد أن خياراته الاستراتيجية محدودة، على المدى الطويل، ومرتبطة بالشراكة مع أوروبا، لإدارة بعض الأزمات العالقة مثل أزمة شرق أوكرانيا التي تتوسط فيها فرنسا لإعادة الاستقرار إليها من خلال تقريب وجهات النظر ما بين روسيا وأوكرانيا بمشاركة ألمانيا.
والجدير بالذكر أن باريس حددت موعد للقمة الرباعية في 9 ديسمبر 2019، على خلفية تقدم مسار المفاوضات لتسوية الصراع في شرق أوكرانيا.
الموقف الدولي من التصريحات الفرنسية
اعترضت عدد من الدول الأوروبية على انتقادات “ماكرون” للناتو، وفي مقدمتهم المستشار الألمانية “أنجيلا ميركل” التي دافعت عنه، وانتقدت رؤية “ماكرون” بشكل حاد، قائلةً إن ماكرون “استخدام كلمات قاسية، وهذا ليس رأيها في التعاون في الناتو”، وأضافت “لا أعتقد أن مثل هذه الأحكام الشاملة ضرورية، حتى لو كانت لدينا مشاكل وتحتاج إلى التوحيد”. كما شددت على ضرورة “تقاسم الأعضاء الأوروبيون المسئولية في الناتو”.
كما حذر “هايكو ماس” وزير الخارجية الألماني وعضو في الحزب الاجتماعي الديمقراطي، وهو أقل تأييدًا للولايات المتحدة، من تقويض الناتو؛ حيث كتب في عمود نشرته مجلة “دير شبيجل” على الإنترنت، “بدون الولايات المتحدة، لن تتمكن ألمانيا ولا أوروبا من حماية أنفسهم بشكل فعال”. الأمر الذي يوضح مدى تقارب الموقف الرسمي الألماني حول الناتو.
بالإضافة إلى ذلك أكد “ينس ستولتنبرغ” الأمين العام للحلف أن “الناتو قوي”، مضيفًا أن الولايات المتحدة وأوروبا “تعملان معًا أكثر مما فعلنا لعقود”. فيما تجاهل “مايك بومبيو” وزير الخارجية الأميركي التصريحات أثناء زيارته لبرلين، لحضور الاحتفال بذكرى السنوية لسقوط جدار برلين. كما أعرب عن وجهة نظره المتعلقة بالناتو في مؤتمر صحفي قائلًا “أعتقد أن الناتو لا يزال مهمًا وضروريًا، وربما من الناحية التاريخية يعد واحد من أهم الشراكات الاستراتيجية”.
في المقابل؛ أشادت روسيا بتصريحات “ماكرون”؛ حيث كتبت “ماريا زاخاروفا” المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية على صفحتها على الفيس بوك “هذه كلمات ذهبية … تعريفًا دقيقًا لحالة الناتو الحالية”.
رؤية “ماكرون” للتعامل مع تحديات الأمن الأوروبي
يرى الرئيس الفرنسي أن النظام العالمي شهد عدد من التحولات المتلاحقة في الآونة الأخيرة، لابد من الاستعداد له لتجنب تحدياتها على الأمن والسلم العالمي بجانب التطلع بدور أوروبي قوي يضمن أمن واستقرار الإقليم، وعليه يعتقد “ماكرون” ضرورة التعامل مع هذه التحولات بنهج استباقي طارئ، الأمر الذي تجلى في رؤيته لتحديات الأمن الأوروبي على النحو التالي:
- العلاقات مع الولايات المتحدة؛ يرى “ماكرون” أن الولايات المتحدة لعبت دورًا قويًا في بلورة الأمن الأوروبي، وضمان استقراره، كما تعد الضامن للنظام العالمي، وتوازن القيم، على أساس الحفاظ على السلام العالمي وهيمنة القيم الغربية، ولكن موقفهم قد تغير على مدى السنوات العشر الماضية – لم تكن فقط إدارة ترامب “. لذا لابد على واشنطن إعادة النظر في علاقاتها مع أوروبا.
- السيادة الأوروبية؛ أوضح “ماكرون” أهمية الحفاظ على السيادة الأوروبية من خلال إعادة النظر فيها، من خلال تبني سياسة استباقية لردء المخاطر، ودعم سبل التكامل الأوروبي لأن احترام الدول كفاعل في النظام العالمي يكون مصحوبًا بسيادة وطنية قوية.
- الناتو والسياسة الدفاعية والأمنية الأوروبية؛ يتخوف “ماكرون” من تراجع الناتو عن الدور المنوط به في حماية الأمن الأوروبي، وعليه يعتقد أن الأمر يحتاج لإعادة نظر، وخاصة فيما يتعلق بعملية التنسيق، واتخاذ القرار، علاوة على تحمل مسئولية المزيد من السياسة الأمنية في دول الجوار.
- النفوذ الروسي؛ أصبحت موسكو المحرك الأساسي لعدم القدرة على التنبؤ، في سياق محاولتها لاستعادة مكانتها في النظام العالمي، وخاصة بعد تدخلها في الأزمة الأوكرانية، وضم شبه جزيرة القرم، فضلاً عن تزايد دورها في الشرق الأوسط. لذا يرى “ماكرون” ضرورة إعادة فتح حوار استراتيجي مع موسكو.
- الصعود الصيني؛ يدعو “ماكرون” إلى نظام عالمي أكثر تعددية، تكون أوروبا جزءًا منه دون تهميشها، بالتزامن مع تزايد الدور الصيني كقوى اقتصادية وتكنولوجية وعسكرية، وذلك تجنبًا لخطر الاستقطاب الدولي.
أبرز الجهود الفرنسية لحماية الأمن والدفاع الأوروبي
لم تكن المرة الأولى التي ينتقد فيها “ماكرون” السياسة الأمنية والدفاعية الأوروبية، وسياسات التكامل بين الناتو والدول الأوروبية؛ حيث دعا منذ توليه في مايو 2017 إلى إعادة النظر في سياسات التكامل الاقتصادي والسياسي، مع طرح مبادرات خاصة بتعزيز الأمن والدفاع الأوروبي بشكل خاص، وليس لإنشاء قوة احتياطية جديدة، ولكن لتطوير ثقافة استراتيجية مشتركة تهدف إلى تعميق التعاون الأمني والدفاعي، ودعم القدرات العسكرية للدول، مع تأجيل سياسة التوسع شرقًا.
وقد اقترح “ماكرون” مبادرة التدخل الأوروبي لأول مرة في سبتمبر 2017؛ حيث دعا إلى تعزيز الاستقلال الأوروبي على الصعيد الدفاعي والأمني وإنشاء “جيش أوروبي حقيقي”. وتم بلورة المبادرة التي تقودها فرنسا رسميًا في يونيو 2018، مع توقيع وزراء دفاع كل من فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا والدنمارك وإستونيا والبرتغال وإسبانيا والمملكة المتحدة خطاب النوايا في باريس، لإقامة تعاون خارج إطار الهياكل القائمة مثل الناتو أو الاتحاد الأوروبي. كما انضمت فنلندا إلى التحالف العسكري في نوفمبر 2018، عندما أصبحت المبادرة تعمل رسميًا، بجانب النرويج والسويد إبان الاجتماع الثاني للتحالف الذي عقد في هولندا في سبتمبر 2019. فيما أكدت إيطاليا على استعدادها لانضمام لمواجهة الأزمات المحتملة على حدود القارة.
وفقًا للوثيقة التأسيسية، تعد المبادرة منتدى مرن وغير ملزم يكون فيه جميع المشاركين متساوين”. يهدف إلى تطوير القدرة على النشر السريع للعمليات العسكرية المشتركة، أو عمليات الإجلاء المدني، أو الإغاثة في حالات الكوارث تمهيدًا لإنشاء “ثقافة استراتيجية مشتركة“، وتُتيح للدول الأعضاء المشاركة فيها فرصة للتنسيق والعمل معًا، لسد الفجوات التي لوحظت في العمليات العسكرية الأخيرة، فضلاً عن تعزيز مصداقية أوروبا العسكرية، والمساهمة في تقاسم الأعباء، مع تحقيق فهم مشترك للأزمات والصراعات.
ختامًا؛ أظهرت تصريحات ماكرون حالة من عدم التوافق بين القوى الأوروبية حول فرص التعاون المستقبلي في مجال الأمن والدفاع، فضلاً عن الرفض المباشر للرؤية “ماكرون” المتعلقة بعلاقة الناتو بالأمن الأوروبي.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية