
دلالات استهداف القاعدة الأمريكية على الحدود الأردنية السورية
أعلنت الولايات المتحدة في منتصف يوم الأحد ٢٨ يناير ٢٠٢٤ عن مقتل 3 جنود أمريكيين وإصابة نحو 34 آخرين، جراء هجوم بطائرة مسيرة على إحدى القواعد العسكرية الأمريكية الواقعة في نطاق شمال شرق الأردن بالقرب من الحدود مع سوريا، مؤكدةً مسؤولية فصائل موالية لإيران عن هذا الهجوم، فيما نفت الحكومة الأردنية بدورها أن يكون الهجوم قد وقع على أراضيها، مؤكدةً أن هذه القاعدة تقع خارج نطاق الحدود الأردنية.
وبعيدًا عن اختلاف الروايات بخصوص الموقع الدقيق للقاعدة المُستهدفة إلا أن العملية على مستوى طبيعة الهدف، وكذا فيما يتعلق بحجم الخسائر الناجمة عنها، تمثل نقطة تحول نوعية في مسار التصعيد الذي تشهده المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة؛ إذ إنها تعد الاستهداف المباشر الأكبر للحضور العسكري الأمريكي في المنطقة، الأمر الذي يدفع باتجاه تنامي وتيرة التصعيد نتيجة الرد الأمريكي المحتمل.
أولًا- حيثيات عملياتية مهمة
مثلت العملية الأخيرة والتي استهدفت إحدى القواعد العسكرية الأمريكية قرب الحدود الأردنية السورية نقلة نوعية في مسار التصعيد الذي تشهده المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وذلك في ضوء كونها الاستهداف المباشر الأكبر للقوات الأمريكية العاملة في المنطقة، فضلًا عما خلفته من خسائر كبيرة نسبيًا في صفوف القوات الأمريكية. وفي هذا السياق يمكن القول إن هناك جملة من الملاحظات المهمة الخاصة بهذه العملية، وذلك على النحو التالي:
1- روايات أمريكية متعددة بخصوص الهجوم: تبنت الولايات المتحدة إزاء هذا الهجوم سرديتين رئيستين حتى اللحظة، الأولى تُشير إلى أن القاعدة العسكرية التي تم استهدافها بطائرة مسيرة تقع في المثلث الحدودي الفاصل بين الأردن وسوريا والعراق، وبالتحديد شمال شرق الأردن ناحية الحدود مع سوريا، ووفق بعض التقارير الأمريكية فإن القاعدة المستهدفة هي قاعدة “T-22” أو “Tower 22” وهي قاعدة عسكرية أمريكية صغيرة قرب الحدود مع سوريا، وتعني هذه الرواية أن العملية تمت في منطقة الركبان الأردنية المقابلة لمنطقة التنف بسوريا. أما السردية الأمريكية الثانية فقد نقلتها صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤولين أمريكيين وتفيد بأن الهجوم بطائرة مسيرة استهدف البرج 22 من قاعدة التنف بسوريا بالقرب من الحدود مع الأردن، لكن المصادر الرسمية الأمريكية تبنت رواية كون الاستهداف وقع داخل الأراضي الأردنية.
وبالنظر إلى الوجود العسكري الأمريكي في الأردن سوف نجد أن هذا التواجد الأمريكي يأتي بموجب اتفاقات تعاون دفاعي بين الجانبين كان آخرها في 2021، حيث وقع الجانبان اتفاقية دفاعية يوفر الأردن من خلالها أماكن حصرية للقوات الأمريكية تشمل 15 موقعًا، وهذه الأماكن يتحكم الجانب الأمريكي بالدخول إليها، ويجوز لهذه القوات حيازة وحمل الأسلحة في الأراضي الأردنية أثناء تأديتها مهامها الرسمية، ويسهم هذا الحضور في مواجهة الإرهاب وعمليات التهريب.
صور لقمر اصطناعي تظهر الموقع العسكري المعروف باسم “البرج 22”. نقلاً عن رويترز
2- تأكيد أردني على كون العملية خارج أراضيه: أكدت الحكومة الأردنية أن الهجوم الأخير وقع خارج أراضيها ، وقال الناطق الرسمي باسم الحكومة الأردنية، مهند مبيضين، في تصريحات نقلتها قناة “المملكة” الرسمية الأردنية: “القاعدة الأمريكية التي تم استهدافها تقع خارج الحدود الأردنية”، وهي رواية معاكسة لكافة التقديرات التي ذكرتها الرواية الرسمية الأمريكية، التي أكدت أن الهجوم وقع في شمال شرق الأردن.
وبإسقاط الرواية الأردنية على الواقع الجغرافي في المثلث الحدودي للبلاد، فإن الهجوم وقع في نقطة الالتقاء بين الحدود الأردنية والسورية، ويدعم هذه الرواية ما أكده عديد من التقارير الأمريكية من أن هذا الهجوم استهدف قاعدة التنف، أيضًا فإن عدم إصابة أي من أفراد سلاح حرس الحدود الأردني نتيجة هذا الهجوم، قد دفع بعض التقديرات الأولية إلى ترجيح منطقية وواقعية السردية الأردنية بهذا الخصوص.
3- مسؤولية الفصائل الموالية لإيران عن الهجوم: أعلنت كتائب “المقاومة الإسلامية في العراق” عن تبينها للهجوم الأخير، وقالت في بيان لها إنها استهدفت بطائراتها المسيرة أربع قواعد خارجية، ثلاث منها في سوريا، وهن (قاعدة الشدادي، قاعدة الركبان، وقاعدة التنف)، والرابعة داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة وهي منشأة زفولون البحرية، وفي بيان المجموعة المسلحة، أشارت إلى أن هذه العمليات تأتي كرد على استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، جنبًا إلى جنب مع كونها تأتي في إطار المواجهة مع القوات الأمريكية المنتشرة في العراق وسوريا.
الجدير بالذكر أنه على خلفية عملية “طوفان الأقصى” وما تلاها من الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، بدأ اسم “المقاومة الإسلامية في العراق” يتصاعد كثيرًا وذلك على خلفية الهجمات المتكررة التي نفذها هذا التنظيم ضد العديد من الأهداف الأمريكية كجزء من حالة التضامن والإسناد مع الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، وقد ركزت هذه العمليات على بعض القواعد العسكرية بالعراق مثل: عين الأسد، وقاعدة حرير الجوية بإقليم كردستان، بالإضافة لبعض القواعد بسوريا مثل: التنف، وكونوكو.
وبشكل عام، توجد حالة من الضبابية التي تخيم على ماهية التنظيم وهيكله وعلاقات التبيعة التي يرتبط بها، إلا أن بعض التقديرات الأمريكية ومنها ما طرحه معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى ترى أن هذا التنظيم يتم رعايته وتوجيهه بشكل مباشر من قبل “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني، وأنها عبارة عن تحالف بين ميليشيات “كتائب حزب الله”، و”عصائب أهل الحق”، و”كتائب سيد الشهداء”، وأن اختيار هذا المسمى كشعار للتحالف بين هذه الميليشيات جاء للتعتيم على الهجمات التي تقوم بتنفيذها.
4- عملية نوعية كبيرة الأهداف: تُشير التقديرات الأمريكية حتى اللحظة إلى أن الهجوم خلف 3 قتلى بالإضافة لـ 34 مصابًا، بعضهم مصاب بجروح خطيرة، وهو مؤشر على حجم الدقة الذي اتسمت به العملية. وعلى الأرجح فقد استهدفت الطائرة المسيرة أماكن المعيشة داخل القاعدة العسكرية، والتي كان يوجد بها عشرات الجنود وقت تنفيذ الهجوم، الأمر الذي أدى إلى زيادة حجم وعدد الخسائر، بالإضافة إلى تنوع الإصابات بين الجروح والكدمات وإصابات الدماغ، وهو ما أكدته بعض التقارير الأمريكية.
كذلك فقد لوحظ أن الدفاعات الجوية الموجودة داخل القاعدة الأمريكية المُستهدفة فشلت في رصد المسيرة وإسقاطها، الأمر الذي يعد فشلًا عسكريًا أمريكيًا كبيرًا، فضلًا عن كونه يُعبر عن احتمالية أكبر لتنفيذ العملية من ناحية العراق على اعتبار أن الفصائل العراقية الموالية لإيران تملك قدرات تسليحية أكبر وأكثر تطورًا من تلك الموجودة لدى نظائرها في سوريا.
5- استمرار الضغط على الوجود العسكري الأمريكي: بعيدًا عن الارتباط المباشر بين الهجوم واستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية على قطاع غزة، إلا أنه يأتي أيضًا في سياق يشهد تنامي الضغوط على الحضور العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط، وهو الضغط الذي تجسد في تنامي معدلات استهداف هذه القوات، جنبًا إلى جنب مع تنامي المطالبات برحيل القوات العسكرية الأمريكية من المنطقة.
وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الخارجية العراقية في 25 يناير الجاري التوصل لاتفاق مع أمريكا على ضرورة تقييم اللجنة العسكرية العُليا تهديد تنظيم “داعش” وتحديد المتطلبات الظرفية والعملياتية لمواجهته وتعزيز قدرات القوات الأمنية العراقية في سبيل وضع جدول زمني لمباشرة الخفض التدريجي لوجود مستشاري التحالف ضد داعش في الأراضي العراقية.
وجنبًا إلى جنب مع الوجود الأمريكي في العراق، أشارت مجلة “فورين بوليسي” في تقرير لها مؤخرًا إلى أن واشنطن وعلى الرغم من عدم اتخاذها قرارًا نهائيًا إلا أن فكرة الانسحاب العسكري الأمريكي من سوريا بدأت تلوح في الأفق، على الرغم من أن تفاصيل كيف ومتى وتحت أي ظروف لا تزال قيد التداول، ويشمل ذلك تحديد المتطلبات الأساسية لخروج آمن ومنظم لا يخلق فراغًا في السلطة يمكن استغلاله من قبل كيانات معادية.
ثانيًا– تداعيات الهجوم والرد الأمريكي المحتمل
تدفع العملية الأخيرة باتجاه العديد من التداعيات السلبية، التي ترتبط بشكل رئيس بحدود الرد الأمريكي، خصوصًا وأن واشنطن حتى اللحظة تتبنى مقاربة تجاه التصعيد الذي تواجهه المنطقة، تمثل في حد ذاتها إشكالًا كبيرًا؛ إذ تسعى واشنطن إلى فصل التصعيد بالمنطقة عن حرب غزة، والتعامل مع كل ملف بشكل منفصل، دونما إدراك أن نقطة الانطلاق لتحقيق استقرار إقليمي نسبي تبدأ من إنهاء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وفي هذا السياق، يمكن رصد التداعيات المحتملة للعملية الأخيرة ضد القاعدة الأمريكية، وذلك على النحو التالي:
تصعيد أمريكي نوعي ردًا على العملية: كما سبق الإشارة فقد كان نمط الاستهداف الأخير لهذه القاعدة الأمريكية نمطًا غير تقليدي، سواءً على مستوى طبيعة المُستهدف أو على مستوى حجم الخسائر، الأمر الذي يقتضي من واشنطن ردًا غير تقليدي على هذه العملية، خصوصًا وأن الجمهوريين سوف يسعون إلى توظيف هذا الهجوم ضد الإدارة الديمقراطية بقيادة “بايدن”، في إطار السباق الانتخابي الجاري.
وفي هذا السياق أشارت مجلة “بوليتيكو” الأمريكية إلى أن البيت الأبيض والبنتاجون يدرسون حاليًا آليات وطبيعة الرد على هذه العملية، ويبدو أن الولايات المتحدة سوف تلجأ في مواجهة هذا التصعيد النوعي إلى الاعتماد على سياسة الضربات النوعية الدقيقة الموجهة ضد أهداف مهمة للفصائل العراقية الموالية لإيران، فضلًا عن مناطق إطلاق النار من الناحية السورية، كذلك يُحتمل أن تلجأ واشنطن إلى الاستهداف المباشر لأهداف تابعة للحرس الثوري الإيراني في العراق وسوريا.
جغرافيا جديدة للمواجهة: أخطر ما في العملية الأخيرة التي استهدفت القاعدة الأمريكية، أنها تُضيف جغرافيا جديدة لنطاق المواجهة والحرب بالوكالة بين إيران والولايات المتحدة في المنطقة، على اعتبار أن هذه العملية قد تدفع باتجاه اشتعال المواجهات في منطقة الشمال الشرقي الأردني، أو في المثلث الحدودي الأردني السوري العراقي، الأمر الذي يستدعي المزيد من اليقظة والاستنفار الأمني بالنسبة للمملكة الهاشمية الأردنية، على اعتبار أن الهجوم يبعث برسالة مفادها أن نطاق استهداف القوات الأمريكية لم يعد مقتصرًا على سوريا والعراق.
إجمالًا، يمكن القول إن الاستهداف الأخير للقاعدة العسكرية الأمريكية الواقعة في المثلث الحدود الأردني السوري يمثل نقطة تحول نوعية في مسار التصعيد الذي تشهده المنطقة على خلفية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة بين الفصائل الموالية لإيران من جانب والولايات المتحدة وإسرائيل من جانب آخر، وذلك في ضوء كونه الاستهداف المباشر الأكبر للقوات الأمريكية منذ بدء التصعيد، جنبًا إلى جنب مع كونه يدفع باتجاه اتساع النطاق الجغرافي لهذا الصراع.