أفريقيا

ما بعد التفاوض: تطورات الموقف الدبلوماسي المصري بشأن سد النهضة الإثيوبي

بعد الإعلان المصري عن انتهاء الجولة الرابعة والأخيرة من مفاوضات سدّ النهضة، وهناك حالة من الترقب لما يمكن أن يكون عليه الموقف المصري إزاء التعنت الإثيوبي والمضيّ قدمًا في استكمال السدّ، دون أيّ اعتبار للمسار القانوني والدبلوماسي. 

وجاءت التوترات الإقليمية الأخيرة بين إثيوبيا والصومال، لترسم بعض الملامح للصورة المبهمة حول شكل التفاعلات الإقليمية والتحركات المصرية، حيال الموقف المعقد، الذي بات ينظر إليه وكأن إثيوبيا لا تخشى أية رد فعل، وهو ما تجلى في تصريحاتها الأخيرة التي شككت في التهديدات والتصريحات المصرية. 

نهاية المسار التفاوضي

انتهى رابع اجتماعات سد النهضة بين الدول الثلاث ( مصر، السودان، إثيوبيا) في ديسمبر الماضي دون التوصل إلى نتيجة، رغم ما كان متفق عليه بشأن الوصول إلى اتفاق حول قواعد ملء وتشغيل السد، حينما التقى الرئيس السيسي برئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد على هامش قمة دول الجوار المعنية بالأزمة السودانية في يوليو الماضي؛ بدأت بعدها الدول الثلاث في أغسطس الماضي أربع جولات من التفاوض. 

كما اعتادت إثيوبيا على الشروع في عمليات الملء بالتزامن مع المسار التفاوضي، مثلما حدث في الأعوام 2020، 2021، 2022 على التوالي، شرعت في الملء الرابع خلال شهري يوليو وأغسطس وأوائل سبتمبر 2023، لتخزين 24 مليار متر مكعب، وهي تصرفات تفقد المسار التفاوضي شرعيته لدى المفاوض الذي اتبع سياسة الصبر على مدار عقد؛ مما دفع الخارجية المصرية للتنديد بالموقف الإثيوبي، الذي يعد استمراراً من جانب إثيوبيا في انتهاك إعلان المبادئ الموقع والذي ينص على ضرورة اتفاق الدول الثلاث على قواعد ملء وتشغيل السد الإثيوبي قبل الشروع في عملية الملء.

وللمرة الأولى يأتي الموقف المصري معلنًا صراحة انتهاء المسار التفاوضي وامتلاك مصر حق الرد، رغم التمسك المصري على مدار عشرة أيام بالتفاوض كسبيل للحلو. ووفق ما جاء في بيان وزارة الري المصرية، كان التعنت الإثيوبي هو السبب في عدم التوصل إلى أي من الحلول الفنية أو القانونية الوسط التي من شأنها حماية مصالح الدول الثلاث.

وأضاف البيان أنه بات واضحًا واضحاً عزم الجانب الإثيوبي على الاستمرار في استغلال الغطاء التفاوضي لتكريس الأمر الواقع على الأرض، والتفاوض بغرض استخلاص صك موافقة من دولتي المصب على التحكم الإثيوبي المطلق في النيل الأزرق بمعزل عن القانون الدولي، وأكد البيان أن مصر “سوف تراقب عن كثب عملية ملء وتشغيل سد النهضة، وأن مصر تحتفظ بحقها المكفول بموجب المواثيق الدولية للدفاع عن أمنها المائي والقومي في حالة تعرضه للضرر”.

C:\Users\admin\Desktop\411476381_669784938669781_1896594999935362234_n.jpg

وعلى الجانب الآخر، أصدرت الخارجية الإثيوبية ردًا حينها، أكدت خلاله على التزامها بالتوصل إلى تسوية ودية تراعي مصالح الدول الثلاث، متهمة الجانب المصري بتحريف المواقف الإثيوبية، مؤكدة على استمرارها في استغلال مواردها المائية لتلبية احتياجات الأجيال القادمة. 

ولما بات واضحًا الاستغلال الإثيوبي للغطاء التفاوضي، جاء الموقف المصري متمسكًا برفض العودة للمسار التفاوضي، وهي الدعوة التي كان يطالب بها المتابعين للموقف نظرًا لرؤيتهم أن الانخراط المصري يمنح شرعية للتحركات الإثيوبية. ويقضي هذا الواقع بالتبعية بضرورة البحث عن مسارات بديلة وسياسات جديدة. 

اجتماعات وتصريحات دبلوماسية

اجتمعت لجنة الشؤون الأفريقية بمجلس النواب المصري، يوم الأحد 28 يناير 2023، بحضور السفير محمد جابر أبو الوفا، نائب مساعد وزير الخارجية للمنظمات والتجمعات الأفريقية. الذي قدّم إجابات حول دور الاتحاد الأفريقي في قيادة المسار التفاوضي، تحديدًا خلال رئاسة الكونغو والسنغال، لكنها لم تصل لشئ.

وخلال لقائه بوزير الخارجية السعودي، أوضح وزير الخارجية المصري السفير سامح شكري، الموقف المصري الذي تمسك بسياسة التفاوض من أجل التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم يخدم مصلحة الجميع، وأكدّ شكري على تعنت الموقف الإثيوبي وتراجعه عما أتفق عليه مما لا يخدم الجميع؛ وهو الموقف المصري الثابت، والذي قد أكدّ عليه الرئيس السيسي في 30 أغسطس 2023 خلال لقائه بوفد من الكونجرس الأمريكي، إذ أكد على تبني مصر الموقف التفاوضي لحل أزمة سد النهضة. 

وتزامن ذلك مع التصريحات التي خرج بها المتحدث باسم وزارة الخارجية الإثيوبية، ملس ألم، الذي قال: “إن البيانات التي يصدرها المسؤولون المصريون بشأن الاتفاق الموقع مع إقليم أرض الصومال الانفصالي لن تأتي بشيء جديد”.

وأضاف ملس ألم، “أن مصر أصدرت فيما سبق العديد من البيانات المتشابهة بشأن قضية سد النهضة، إلا أن السد وصل إلى ما وصل إليه الآن، وبشكل مباشر وغير مباشر، هم يعملون على عدم استقرار إثيوبيا”، وقلل “من أهمية البيانات المتكررة الصادرة بشأن الاتفاق مع أرض الصومال”، مشيرا إلى أن “إثيوبيا دولة كبيرة، لذلك بيان جامعة الدول العربية كذلك لن يأتي بشيء”. 

وتزامنت تلك التصريحات مع استقالة وزير الخارجي الإثيوبي دميقي ميكونن، واستقال كذلك من منصبه في حزب الازدهار، بعد أن شغل منصب نائب الرئيس، عدة أعوام، خلفاً لجيدو أندرا جياشو. وتم انتخاب تمسجن طيرونا، المدير العام لوكالة الأمن القومي الإثيوبي، وعضو اللجنة التنفيذية للحزب، نائباً لرئيس حزب الازدهار، خلفاً  لدمقي مكونن.

الانخراط في تحالفات إقليمية

الرئيس السيسي ونظيره الصومالي حسن شيخ محمود

تبدو مصر عازمة على استعادة الدور والنفوذ في منطقة القرن الأفريقي، والعودة إلى الدول الاستراتيجية المهمة والحليفة، وقد بدا ذلك من الموقف المصري الحاسم على أزمة أرض الصومال، التي تبنت خلالها تصريحات دبلوماسية ومواقف واضحة تجلت في تصريح الرئيس السيسي خلال لقائه بالرئيس الصومال حسن شيخ محمود في العشرين من يناير 2024، قائلًا: ” محدش يجرب مصر ويحاول يهدد أشقائها، خاصة لو أشقائها طلبوا الدعم”. 

ويأتي هذا التصريح كثاني موقف دبلوماسي حاسم معلن إزاء المواقف الإثيوبية، بعد تصريح الرئيس السيسي في مارس 2021 خلال مؤتمر صحفي عالمي بمقر الهيئة بمحافظة الإسماعيلية عقد على هامش زيارته هيئة قناة السويس، ” أن أحدًا لا يستطيع أن يحصل على قطرة مياه واحدة من حق مصر في مياه النيل، مؤكدًاعلى أن مصر لا تهدد أحدًا على الإطلاق، ودائمًا ما تكون تصريحاتها رشيدة وصبورة، ولكن لن يستطيع أحد أن يمنع حق مصر في مياه النيل، لأن ذلك سيخلق حالة من عدم الاستقرار في المنطقة لا يتخيلها أحد. وقال “مياه مصر لا مساس بها، والمساس بها خط أحمر، ورد فعلنا في حال المساس بها أمر سيؤثر على استقرار المنطقة”، وأضاف أن الأعمال العدائية قبيحة ولها تأثيرات كبيرة تمتد لسنوات طويلة لا تنساها الشعوب، مبينًا أن مصر بدأت معركة التفاوض، وكل ما تطالب به ضمن القوانين ولمعايير الدولية المعمول بها في قضايا المياه العابرة للحدود .

وجاء اللقاء الرئاسي الأخير الذي جمع الرئيسين المصري والصومالي، بعد بيان الخارجية المصري المندد بالموقف الإثيوبي وبعد زيارة وفد مصري لمقديشيو في السابع من يناير، قدم خلالها الدعوة للرئيس الصومالي لزيارة مصر. وقد سبقها انعقاد مجلس وزراء خارجية جامعة الدول العربية بمشاركة الوزيرسامح شكري، وخرجت الجامعة ببيان مندد بالمواقف المهددة لأمن الصومال باعتباره جزءًا من الأمن العربي. 

وتأتي تلك التحركات مع أخرى تقوم بها مصر مع كلٍ من جيبوتي وإريتريا، الذي توترت علاقته بأبي أحمد بعد اتفاقه بريتوريا مع جبهة التيجري في نوفمبر 2022، مما يوفر الفرصة أمام الدولة المصرية لاستعادة بعض مما فقدته مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي الذي فترت علاقته بمصر حينما تصالح مع النظام الإثيوبي بقيادة أبي أحمد ودخل في تحالفات جديدة لإعادة هندسة منطقة القرن الأفريقي. 

المفارقة الأخرى في المشهد، هي رحيل نظام محمد عبد الله فرماجو في الصومال الذي كان يحظى بعلاقات وطيدة أطراف إقليمية مقابل علاقات متوترة مع مصر، وصلت وقتها إلى أن جيبوتي والصومال كانتا الدولتان العربيتان الرافضتان لقرار الجامعة الذي اعتبر الأمن المائي لكل من مصر والسودان هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي.

دفعت هذه المفارقة، بأن تكون الجامعة العربية الآن هي المنبر الذي من خلاله تدعم مصر أمن واستقرار الصومال، وهي تحركات بالضرورة تنظر إليها إثيوبيا بتوجس وحذر. ويتصل هذا التوجس بشكل رئيسي، بالمخاوف التي باتت تعتري كل من إريتريا وجيبوتي إلى جانب الصومال؛ على نحوٍ دفع البعض بتصور إمكانية تشكيلهم تحالف ثلاثي قد تنضم إليه مصر، مما يحدّ من الخيارات الإثيوبية في المنطقة. أخيرًا، وتأتي تلك التحركات بما يخدم المصلحة المصرية في منطقة القرن الأفريقي، مما يفسر البيان الإثيوبي المهاجم لتصريحات الرئيس السيسي ولموقف الجامعة العربية، إذ يستنكر الموقف الإثيوبي رسائل الردع المصرية، ويتصور افتقادها للفاعلية، خاصة مع اعتياد تحلي السياسة المصرية بالصبر الاستراتيجي في السنوات الماضية مع إثيوبيا، مما يستدعي تغيير الصورة الذهنية بتبني الدولة المصرية بعض السياسات الخشنة التي تؤكد قدرتها واستعدادها لتنفيذ وعيدها.

شيماء البكش

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى