مصر

الكشف الأهم في 2023.. سقارة تعاود اختطاف أنظار العالم

في مؤتمر دولي حضره العديد من الشخصيات الرسمية والأكاديمية المرموقة ومتابعة العشرات من الوكالات الإخبارية الدولية والمحلية، أعلنت وزارة السياحة والآثار المصرية أمس السبت 27 مايو 2023، عن اكتشاف أكبر وأكمل ورشتين مخصصتين للتحنيط الآدمي والحيواني بجبانة البوباسيطون بمنطقة أثار سقارة، بالإضافة إلى الكشف عن مقبرتين للدفن، ومجموعة من المومياوات المحفوظة داخل توابيت مزينة وعدد من التماثيل الخشبية والبرونزية.

ويأتي الكشف الجديد ضمن سلسلة من الاكتشافات الأثرية المتعاقبة في تلك المنطقة، والتي كان من بينها اكتشاف مائة تابوت خشبي مغلق بحالتهم الأولى، يعود تاريخهم جميعًا إلى العصر المتأخر بالدولة المصرية القديمة، بالإضافة أربعين تمثالًا لإله جبانة سقارة بتاح-سوكر، وعشرين صندوق خشبي للإله حورس، وتم الإعلان عنه في 11 نوفمبر 2020.

جبانة عريقة

ينُظر إلى منطقة سقارة على أنها جزء مكمل لمدينة منف التاريخية الواقعة حاليًا حول قرية ميت رهينة بمحافظة الجيزة، تلك المدينة التي اتُخذت كعاصمة للدولة المصرية خلال العهد المبكر وعصر الدولة القديمة بين عامي 3100-2121 ق.م تقريبًا، وكذلك اعتبرت منف على مدار ثلاثة ألاف عام تالية واحدة من أهم المدن المصرية، حيث كانت مركزًا لعبادة الإله بتاح الذي أشُتق من اسم معبده بمنف والمعروف ب “حت كا بتاح” لفظة أجيبتوس Αίγυπτος باليونانية القديمة، والتي تغيرت لاحقًا إلى اسم مصر الحالي بعدد من اللغات الأوروبية مثل Egypt بالإنجليزية و Egitto بالإيطالية و Ägypten بالألمانية.

من هنا جاءت أهمية جبانة منف التي كانت سقارة جزء رئيس منها، فدائمًا ما اقترنت تلك الجبانة بعمليات دفن الملوك وكبار رجال الدولة، خاصة في العهدين القديم والمتأخر من حضارة مصر القديمة، وانعكس طول عمر المدينة على حجم الجبانة ذاتها وعدد المقابر الموجودة فيها، فجبانة منف تمتد جغرافيًا على مسافة 40 كيلو متر من أبو رواش شمالًا إلى دهشور جنوبًا، مرورًا بعدد من المواقع الجنائزية في هضبة الجيزة وزاوية العريان وأبو غراب وأبو صير وسقارة وميت رهينة.

وتعد جبانة سقارة منفردة أحد أميز المتاحف المفتوحة في مصر، فهي تحتوي على نماذج رائعة من مقابر للملوك ولكبار موظفي الأسرتين الأولى والثانية، بالإضافة إلى هرم زوسر المدرج الذي يوصف بأنه البناء الحجري الأقدم والأضخم في عصره، وينتشر في نطاقها أيضًا عدد من المجموعات الهرمية المنتمية لأهم ملوك الأسرتين الخامسة والسادسة، مثل مجموعة الملك أوناس ومجموعة الملك تتي، بالإضافة إلى عدد كبير من مقابر الأفراد على اختلاف طبقاتهم، من عصر الانتقال الأول، وعهد الدولة الوسطى، وعهد الدولة الحديثة. 

وتعتبر مقبرة العجل المقدس أبيس والمعروف بالسرابيوم واحدة من أبرز أثار جبانة سقارة، حيث استخدمت خلال عهد الدولة الحديثة ثم فترة الانتقال الثالثة والفترة المتأخرة وصولًا لعهد البطالمة، ولقد أتت أهمية هذا الأثر من العجل أبيس ذاته والذي أُعتبر بمثابة تمثيل للمعبود بتاح، فحينما كان العجل يموت كان يتم دفنه في احتفالية ضخمة، وهكذا الحال مع ما يخلفه من العجول.

إلى جانب الأثار المصرية القديمة، تضم سقارة عددًا من الأثار القبطية، ومنها دير الأنبا إرميا الواقع إلى الجنوب الشرقي من مجموعة الملك زوسر الهرمية، والذي تذكر المصادر أنه ظل قيد الاستخدام حتى القرن الثامن الميلادي تقريبًا، وهو ما دفع منظمة اليونيسكو في 1979 إلى إدراج سقارة وباقي مناطق جبانة منف على قائمتها للتراث العالمي، كذلك شجع الحكومة المصرية في عام 2006 على افتتاح متحف إيمحوتب، الذي يضم العديد من الأثار التي كان يتم الكشف عنها تباعًا بمنطقة سقارة. 

اهتمام أثري متصاعد

بدأت عمليات البحث الأثري في أغلب مواقع جبانة سقارة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وكان ذلك مرتبطًا بازدهار حركة علوم المصريات التي أهتم بها العلماء والمستشرقون الأوربيون، ونذكر مثالًا من تلك المجهودات ما قام به عالم المصريات الإيطالي أليساندرو بارسانتي Alessandro Barsanti، الذي سعى خلال الفترة 1899-1901م إلى الكشف عن خبايا المجموعة الهرمية للملك أوناس آخر ملوك الأسرة الخامسة، وهو ما أدى إلى اكتشاف عدد من المقابر البئرية التي ترجع للأسرتين السادسة والعشرين والسابعة والعشرين، كما كشف عن مقبرة الملك حتب سخموي مؤسس الأسرة الثانية أسفل المعبد الجنائزي لمجموعة أوناس.

ولحقه في محاولات الكشف عن أسرار جبانة سقارة على مدار القرن العشرين، عشرات العلماء المرموقين في مجال المصريات، سواء كانوا من المحليين أو الأجانب مثل الإنجليزي سيسل ملابي، والفرنسي جون بول لاور، والمصريين سليم حسن ومحمد غنيم، وأحمد موسى وسليمة إكرام، وهو ما ساهم في إنجاح المئات من العمليات الكشفية التي أفضت إلى اكتشاف وترميم العديد من المواقع الأثرية المميزة بالمنطقة، مثل هرم الملك ايبي، ومقبرة الوزير مريروكا، والحوائط الحامية لمجمع هرم زوسر الجنائزي.

شهدت السنوات الأخيرة نشاطًا غير مسبوق على مستوى العمليات الكشفية بمنطقة جبانة سقارة، ففي عام 2018 نجح فريق كشفي مصري ألماني في العثور على قناع نادر للموتى لم يعثر على مثيل له منذ عام 1939، وكذلك عثر فريق بولندي من جامعة وارسو على خبيئة تضم أكثر من عشر مومياوات في حالة جيدة من الحفظ بالقرب من هرم زوسر، بالإضافة إلى عشرات المقابر المملوكة لنبلاء مصر القديمة والمئات من مقابر المواطنين فقراء، كما قامت إحدى البعثات العلمية المصرية باكتشاف العشرات من المقابر المخصصة لمومياوات أدمية وحيوانية، أبرزها مقبرة الكاهن واحتي من زمن الأسرة الخامسة.

استمرت الاكتشافات في التوالي عام 2019 حيث أزيح الستار عن 30 تابوتًا كانوا مخبئين في سقارة بالإضافة إلى عدد من المقابر، لكن عام 2020 كان العام الأكثر تميزًا في تاريخ الجبانة حيث سارعت الأجهزة المختصة خطواتها لإنهاء مشروع ترميم هرم زوسر وتطوير منطقته المحيطة، وهو المشروع الذي بدأ في عام 2006 وتوقف عام 2011 وتم استئنافه عام 2013، وتميز هذا العام بالإعلان عن أكبر كشف بسقارة في أشهر أغسطس ونوفمبر من عام 2020، إذ عثرت البعثة المصرية على١٠٠ تابوت خشبي مغلق بحالتهم الأصلية، بالإضافة إلى عشرات التماثيل للإله بتاح سوكر، وعدد كبير من الصناديق الخشبية وتماثيل الأوشباتي والتمائم وأقنعة الكارتوناچ المذهب.  

أما عام 2021، فقد حمل الكثير من الاكتشافات التي أكدت أن الأسرات الحاكمة بالدولة الحديثة استخدمت منطقة سقارة للدفن الجنائزي شأنها شأن باقي الأسرات الملكية الأقدم، أبرزها 50 تابوتًا خشبيًا، وأعداد كبيرة من تماثيل الأوشباتي، وتماثيل على هيئة المعبودات أوزير وبتاح وسوكر، كما تم الكشف عن مقبرة تعود إلى شخص يدعى بتاح م ويا من عهد الأسرة التاسعة عشرة، وافتتحت في ذات العام المقبرة الجنوبية للملك زوسر بسقارة، وذلك بعد نهاية مشروع ترميمي استمر لمدة 15 عامًا. 

تكللت جهود العام التالي 2022، بعدد من النجاحات من بينها الكشف عن ٥ مقابر منقوشة من عصري الدولة القديمة والانتقال الأول بداخلها العديد من اللقى الأثرية ، كذلك عثر في منتصف العام على أول وأكبر خبيئة بالموقع تعود إلى العصر المتأخر، والتي ضمت 150 تمثالًا من البرونز مختلف الأحجام لعدد من المعبودات المصرية القديمة، و 250 تابوتًا خشبيًا مغلقًا وبداخلها مومياوات بحالة جيدة من الحفظ، بالإضافة إلى مجموعة من التمائم والتماثيل الخشبية بعضها مذهب الوجه وصناديق خشبية ملونة، فيما بدأ العام الحالي 2023 بالإعلان عن العثور على ست مقابر تنتمي إلى عصور مختلفة، انتهاءً بالإعلان عن الاكتشاف الأخير. 

وفي الختام، يمكن القول إن حركة الاكتشافات التي تدعمها الدولة المصرية في سقارة وفي كل موقع أثري مصري، تعد عاملًا أصيلًا في حفظ وصيانة التراث الأثري المصري سواء المكتشف منه أو الجاري اكتشافه حاليًا، فضلًا عن كونها سببًا في إثراء الحياة العلمية بالمزيد من الحقائق التاريخية التي من شأنها إعادة رسم خريطة الحضارة المصرية القديمة، بالإضافة إلى أنها تمثل عاملًا محفزًا على جذب المزيد من المهتمين والشغوفين بتاريخ مصر القديمة إلى المقصد المصري، وهو ما ينمي بدوره النشاط السياحي الوطني ويدعم مدخلاته بالمليارات من الدولارات سنويًا.  

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

مصطفى عبد اللاه

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى