مصر

مشروعات البنية التحتية اللوجستية.. قوة دفع للاستثمار في الفترة الرئاسية الجديدة

انتبهت القيادة السياسية منذ توليها لمقاليد الأمور في مصر لأهمية وضرورة إحداث طفرة حقيقية بمختلف القطاعات الخدمية واللوجستية؛ فقد أدى الوضع السيئ الذي عانت منه شبكات المرافق والبنى التحتية في حدوث تراجع حاد لتصنيف مصر الدولي بمؤشر التنافسية العالمية، فخلال الفترة من 2009 إلى 2013 شهد مركز مصر انحدارًا بمعدل 37 نقطة لتصل إلى المركز 107 من أصل 144 دولة داخل التصنيف.

ولقد كان لهذا التراجع أثره الملحوظ على حركة الاقتصاد المصري، حيث تقلصت الاستثمارات الأجنبية بما قيمته خمسة مليارات من الدولارات في عام 2012 وحده، فيما انحدرت معدلات النمو إلى أقل من 2.5% عام 2013، وذلك بعد أن فاقت 7% في عام 2008. ولم يكن هذا التراجع الشامل بمعزل عن حالة التوتر السياسي والأمني التي عايشتها الدولة، والتي عطلت بدورها مشروعات تطوير البنية التحتية، سواء التي تم البدء في تنفيذها قبل عام 2011، أو التي خُططت وبقيت حبيسة الأدراج لأجل غير محدد.

من هذا المنطلق، سارت الدولة المصرية في عدد من المسارات المتوازية للحاق بقطار التطوير الذي تأخرت البلاد عن ركبه، لذلك دشنت مجموعة من المشروعات المتزامنة لتطوير ركائز البنية التحتية اللوجستية التي تمثل عمادًا لأي اقتصاد قوي، والتي تسهم أيضًا في ترقية وتحسين مستويات جودة الحياة المتوفرة للمواطنين، ويذكر التقرير فيما يلي مجموعة من أبرز نماذج تلك المشروعات.

أولًا: الموانئ البحرية

شهدت البلاد طفرة في ملف تطوير وتشييد الموانئ البحرية والبِنَى التحتية التابعة لها، حيث دشنت منذ 2015 مشروعًا متكاملًا لتطوير 12 ميناءً تجاريًّا من أصل 15 موزعة على سواحل البحرين الأحمر والمتوسط، لتسجل أربعة من بين تلك الموانئ الاثنا عشر وهي الإسكندرية، والدخيلة، ودمياط، وشرق بورسعيد تنفيذ مشروعات استثمارية تتجاوز 41 مليار جنيه في عام 2019.

ويعد مشروع تطوير ميناء دمياط أحد أهم نماذج تطوير الموانئ المصرية، فتبلغ تكلفة مشروعاته حوالي 1,9 مليار جنيه. حيث وضع تصور لأن يتم تحويله إلى مركز تجاري عالمي لحاويات الترانزيت في البحر الأبيض المتوسط، وليتبعه إنشاء ممرات لوجستية تصل إلى مناطق التصنيع المختلفة في مصر عن طريق شبكة من السكك الحديدية.

ويعد إنشاء المحطة متعددة الأغراض ذات الرصيف البالغ طوله 681 مترًا وعمق 17 مترًا، واحدًا من أهم المشروعات التي جرى تنفيذها بميناء دمياط، فضلًا عن تعميق الممر الملاحي وحوض الدوران إلى 16 مترًا، فيما تنفذ الدولة حاليا مشروعات بإجمالي تكلفة 9,4 مليارات جنيه داخل الميناء، ومنها إنشاء محطة الحاويات الثانية، وبناء وتوريد 4 قاطرات بقوة شد 60 طن، وتعديل وتطوير حواجز الأمواج الحامية للميناء بأطوال أجمالية تفوق 5160 متر.

إضافة إلى ذلك، تقوم الدولة بإنشاء محطة الحاويات “تحيا مصر1″؛ لخدمة حركة الصادرات المصرية؛ وذلك لمواكبة الزيادة في حركة الحاويات المتداولة بالموانئ المصرية نتيجة المشروعات التنموية الضخمة في البلاد والتي ستحول ميناء دمياط إلى مركز لحاويات الترانزيت في البحر المتوسط.

ومن المتوقع أن تبدأ المحطة 2 الجديدة في ميناء دمياط عملياتها خلال العام الحالي 2024، وستبلغ طاقتها التشغيلية الإجمالية النهائية 3.3 ملايين حاوية نمطية، ولتكون بمثابة مركز نقل استراتيجي مخصصًا لشركة Hapag-Lloyd في شرق البحر المتوسط.

كما تم تطبيق نظام التراكي الآني (JIT) Just In Time وأيضًا المنظومة الآلية باستخدام كروت RFID لتسجيل خروج الشاحنات من بوابات الهيئة على الشركات التابعة لها آليًا وتم إلغاء البوليصة الورقية لزيادة المراقبة والحصر داخل الميناء. علاوة على ذلك تم تفعيل المنظومة الآلية لعمل المخازن التابعة لهيئة موانئ دمياط والتي تدير مخزونات قطع غيار ومخازن الخدمات البحرية ومخازن المعدات البرية.

زادت الدولة أيضًا من عدد المعامل الخاصة بالفحص في ميناء دمياط إلى 13 معملًا، وذلك بالتوازي مع أعمال تطوير المعامل المركزية بالموانئ المصرية وتشمل: القاهرة، وبورسعيد، والدخيلة، ودمياط، والإسكندرية، وفق استراتيجية أعدتها هيئة الرقابة على الصادرات والواردات في 2018، فيما من المخطط أن يكون هناك عدد 7 معامل مركزية جديدة لتسهم بدورها في تسريع إجراءات الفحص والإفراج، وتفادي نقل العينات للفحص خارج الموانئ. ولقد بدأت خطط التطوير فعليًا في إثبات نفسها، بعدما فازت هيئة ميناء دمياط بجائزة أفضل ميناء تجاري في مجال التحول الرقمي لعام 2020، وذلك خلال احتفالية اليوم البحري العالمي 2020 التي أقيمت تحت شعار نقل بحري مستدام لكوكب مستدام.

ثانيًا: شبكة الطرق البرية

سعت الدولة المصرية منذ عام 2014 إلى إحداث نقلة في ملف النقل البري في عموم البلاد، لذلك أطلقت خطة شاملة لتطوير الشبكة القومية للطرق، حيث كان مستهدفًا إنشاء أو تطوير قرابة 75 طريقًا بأطوال 7000 كم من الإنشاءات الجديدة تمامًا، علاوة على تطوير وازدواج 10000 كم طرق أخرى وذلك حتى نهاية عام 2024. 

ولقد تم بالفعل إنهاء أكثر من 50 مشروعًا، فيما يتوقع أن يتم الانتهاء من باقي المشروعات خلال الأشهر القريبة القادمة. ولقد قامت جميع مشروعات الطرق تلك على فلسفة هادفة إلى تحقيق الربط الكامل بين مختلف أقاليم البلاد، وهو ما يسهم بدوره في ربط مناطق الإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي في الداخل المصري بالموانئ البحرية والجوية والبرية، ليسهم ذلك في تسهيل وانسياب حركة نقل البضائع والمنتجات، لتتحول مصر بذلك إلى مركز عالمي للتجارة والتداول واللوجستيات.

وتسهم شبكة الطرق القومية المحدثة كذلك في تيسير تنقل الأفراد، وهو ما يساعد على إنجاح الجهود التنموية التي بُذلت خلال التسعة سنوات الماضية بمختلف أنحاء المعمورة؛ فقد سعت الدولة خلال تلك الفترة إلى تشييد نحو 25 مجتمعًا عمرانيًا جديدًا، بالإضافة إلى إدخال تطويرات على المدن القائمة سواء كانت قديمة في الوادي والدلتا، أو جديدة على حواف الصحراء، وهو ما أدى إلى ارتفاع نسبة المساحة المأهولة في مصر من نحو 7.8% في منتصف عام 2014 إلى نحو 10.5% في منتصف عام 2022.

ومن أبرز مشروعات الطرق التي نفذتها مصر خلال الفترة الماضية نجد مشروع محور 30 يونيو الذي بلغ طوله الكلى 10 كم، وتكلف أكثر من 8.5 مليارات جنيه. ولقد شُيد هذا المحور بالأساس لربط أربعة من أهم الأقاليم التنموية في مصر وهي: إقليم قناة السويس، وإقليم الدلتا، وإقليم القاهرة، وإقليم البحر الأحمر. ومن المتوقع أن يسهم المحور بشكل مباشر وغير مباشر في زيادة المعمور المصري، بما يخلقه من فرص تنموية جديدة. ويُتوقع أن يسهل عملية إعادة التوزيع السكاني في تلك الأقاليم الأربعة بشكل متوازن، فضلًا عن دوره الأصيل في ربط عدد من المشروعات القومية الكبرى كالعاصمة الإدارية ومحور تنمية قناة السويس ومشروع التنمية الشاملة لسيناء. 

نجد أيضًا من مشروعات الطرق المهمة مشروع تطوير طريق القاهرة- أسوان الصحراوي الغربي، الذي بدأت أعمال المرحلة الأولى لتطويره في 2014؛ إذ سيربط الطريق ما بين القاهرة ومعبر أرقين عند خط الحدود الدولية مع السودان بإجمالي طول 1155كم، ومن المخطط أن يتكلف 26 مليار جنيه، وسيكون بمثابة قناة ربط سريعة ما بين كافة محافظات الصعيد والقاهرة، فزمن الرحلة المقطوعة بالسيارة على هذا الطريق بين مدينة أسوان والقاهرة لا تتجاوز عشرة ساعات، في حين أنها قد تستغرق ضعف الوقت عن طريق القاهرة أسوان الزراعي القديم. وأسهم هذا المشروع كذلك في تحقيق التعهد المصري بالمشاركة في تنفيذ المشروع القاري المأمول والمعروف باسم طريق القاهرة-كيب تاون، والذي يتوقع أن يجتاز القارة الأفريقية من شمالها إلى جنوبها بطول إجمالي يفوق التسعة آلاف كيلو متر.

ولم تغفل الدولة المصري أهمية تنفيذ شبكة من المحاور العرضية على مجرى نهر النيل، وذلك لتقليص المسافات البينية بين نقاط العبور إلى 25 كيلومترًا؛ وذلك لتقليل زمن مسير السيارات لحين الوصول لأقرب نقطة عبور، ولتسهيل حركة النقل بما يخدم المشروعات التنموية في ربوع البلاد.

وحرصت الدولة على أن تكون تلك المحاور العرضية متكاملة مع شبكة الطرق القومية بشرق وغرب النيل، وهو ما يساعد على الحصول على أكبر قدر من الاستفادة منها، لذلك تم التخطيط لإنشاء 21 محورًا جديدًا على النيل، منها: محور تحيا مصر بنطاق القاهرة الكبرى، ومحور طلخا الجديد بمحافظة الدقهلية، ومحور بني مزار بمحافظة بني سويف، ومحور قوص بمحافظة قنا، ومحور كلابشة بأسوان.

ثالثًا: شبكة القطارات السريعة

وضعت الدولة خطة لتشييد شبكة جديدة من السكك الحديدية السريعة، والتي ستبلغ عند الانتهاء من تشييدها ما إجماليه 1825كم من السكك، وتستهدف الدولة المصرية من تنفيذ هذا المشروع الطموح عددًا من الفوائد؛ فالخط الأول الذي سيمتد من ميناء السخنة إلى العلمين الجديدة سيمثل محور ربط بين البحرين الأحمر والمتوسط، وهو ما سيعزز من فاعلية حركة التجارة العالمية المارة بقناة السويس، وسيمثل أيضًا داعمًا لها وقت الأزمات. وسيسهم القطار السريع كذلك في تخفيض زمن الرحلة بين السخنة والعلمين من خمس ساعات بالسيارة إلى حوالي ساعة ونصف فقط، فضلًا عن دوره في غير المباشر في تنمية العاصمة الإدارية الجديدة ومدينة العالمين الجديدة.

وسيساعد الخط الثاني من مشروع القطار السريع، والذي سيمتد بين مدينة السادس من أكتوبر شمالاً إلى أسوان جنوبًا بطول 925 كم، في خلق محور نقل جديد غرب النيل مار بأغلب المدن الجديدة بصعيد مصر، وهو ما سيسهم في زيادة اتصالها بمحافظتها الأم من جهة وبالقاهرة من جهة أخرى، مما سيساعد علي زيادة تعميرها. وإلى جانب كل هذا، سيساعد الخط الثاني من شبكة القطارات السريعة على دعم حركة السياحة الثقافية في مصر، وذلك عن تسهيل التواصل بين المواقع السياحية المختلفة على امتداد محافظات وادي النيل.

وينتظر أن يساعد الخط الثالث، وهو آخر مراحل شبكة القطارات السريعة حتى الآن، في تسهيل التواصل بين منطقة غرب النيل عند الأقصر مرورًا بمدينة قنا وصولًا إلى الغردقة عاصمة السياحة بالبحر الأحمر؛ وهو ما سيسهل على المواطنين في تلك المناطق السفر بشكل آمن، بعيدًا عن استخدام الطرق الجبلية الوعرة التي أدت لوقوع المئات من الحوادث الدامية.

وسيسهم هذا الخط في تعزيز حركة التجارة والصناعة بجنوب البلاد؛ إذ سيسهل القطار السريع حركة الاستيراد والتصدير بين موانئ البحر الأحمر من جهة ومحافظات الصعيد من جهة أخرى، فيما سيؤدي إنشاء الخط الثالث إلى إحداث حالة من التكامل بين نمطي السياحة الشاطئية والثقافية عن طريق ربط الأقصر وأسوان بمدن محافظات البحر الأحمر المختلفة.

تنامي معدلات الاستثمار الخاص

شهدت الاستثمارات الخاصة على مدى العشرين عامًا الماضية حالة من الصعود والهبوط المتكرر؛ فمع اهتمام الدولة المصرية بتحفيز دخول القطاع الخاص بقوة إلى الأسواق في منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة، استطاعت الاستثمارات الخاصة بحلول عام 2005 أن تكون هي رائدة الحركة في الاقتصاد الوطني. لكن فترة التوترات السياسية والأمنية التي شهدتها الدولة المصرية بعد 2011 كانت سببًا في حدوث تراجع بمعدلات تطوير البنية التحتية وتنامي الاستثمار الخاص.

مع حلول عام 2016، تبنت الدولة برنامجًا قوميًا شاملًا لتحسين حالة الاقتصاد الوطني، هذا ما دفعها إلى ضخ مئات المليارات من الجنيهات بالمشروعات العامة، وهو ما أدى إلى تقدم استثمارات القطاع العام على القطاع الخاص لأول مرة منذ عشر سنوات، لكن القطاع الخاص عاد خلال 2018 ليتصدر المشهد؛ وذلك لثقة المستثمرين الأجانب في عملية نمو الاقتصاد المصري.

ذلك حتى ضربت جائحة كورونا مختلف دول العالم في 2020، وهو ما تسبب في هبوط الاستثمار الخاص الأجنبي، لكن استثمارات القطاع الخاص أخذت في العودة الهادئة مرة أخرى خلال 2021. وتبين الإحصاءات الرسمية صورة ذلك؛ فارتفع عدد شركات القطاع الخاص الجديدة في مصر خلال العام الفائت ليصل إلى أكثر من 28 ألف شركة برأس مال إجمالي قارب 84 مليار جنيه مصري.

ولقد كان ملاحظًا خلال الفترة الأخيرة أن القطاعات التي تمكنت من جذب المستثمرين الأجانب والمحليين على حد سواء هي: السياحة والفنادق، وتجارة التجزئة، والعقارات، واستخراج الغاز الطبيعي؛ وذلك لاعتماد نجاح تلك القطاعات على البنية التحتية الحديثة التي نفذتها الدولة خلال السنوات الماضية، هذا ما ساعد على رفع نسبة مساهمة استثمارات القطاع الخاص بالناتج المحلي الإجمالي لتبلغ 73.3%.

ختامًا، يمكن الإيجاز بالقول إن مشروعات البنية التحتية اللوجستية كانت ضرورة استراتيجية لدفع عجلة الاستثمار الذي لم تتح له فرصة الحضور في بلد يعاني من الكثير من المعوقات التي عرقلت عمله، وفي مقدمتها هشاشة وتقادم بنيته التحتية اللوجستية، لذلك عزمت الدولة المصرية منذ 2014 على تنفيذ مشروع غير مسبوق لتطوير كافة المرافق المرتبطة بحركة النقل وتداول البضائع، وهو ما كان له مردود إيجابي واضح على حركة الاستثمار الخاص. ويُنتظر أن تشهد البلاد تضاعفًا في حجم هذا المردود خلال الأعوام الست القادمة، لتبدأ مصر بذلك في حصاد ثمار النجاح بعد سنوات من الجهد والبذل والبناء.

مصطفى عبد اللاه

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى