
تعزيز العمل المشترك … ملفات زيارة الرئيس المصري للسعودية
تتسم العلاقات الثنائية بين القاهرة والرياض -خاصة في حقبة ما بعد ثورة 30 يونيو 2013- بالديناميكية السريعة وتفاعلها بشكل آني مع المتغيرات الإقليمية والدولية، من بوابة “التضامن العربي”، والحرص الدائم من جانب القاهرة على تعظيم العمل العربي المشترك؛ من أجل تحقيق حالة من التوافق والعلاقات الطبيعية بين كافة الدول العربية، وتشكيل “منظومة أمان” تحمي الداخل العربي من أية تداعيات سلبية للتقلبات والتحولات الجارية حاليًا في موازين القوة الاقتصادية والسياسية والعسكرية على المستوى الدولي.
من هذا المنطلق يمكن النظر للزيارة التي يقوم بها اليوم الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جدة، والتي تحمل في ثنايا أجندتها مجموعة من الملفات الثنائية والإقليمية والدولية، في نموذج يتم تكريسه سنة بعد أخرى، لكيفية تعاون الدول العربية وتواصلها على كافة المستويات.
توقيت الزيارة بطبيعة الحال يرتبط بشكل أساسي بالتطورات الجارية حاليًا فيما يتعلق بأحد أهم الأزمات العربية التي تكونت في أعقاب عام 2011، ألا وهي الأزمة السورية التي تشهد حاليًا مجموعة من التفاعلات الإيجابية، التي تصب جميعها في خانة الرؤية المصرية المتعلقة بهذا الملف الحيوي على المستوى العربي.
كذلك تتضمن هذه الزيارة بحثًا في ملف آخر مهم على المستوى الإقليمي، ألا وهو ملف العلاقات العربية مع إيران، والذي تحقق فيه اختراق كبير من خلال الاتفاق الأخير الذي تم توقيعه بين الرياض وطهران برعاية صينية. فيما تعد العلاقات الثنائية بين الرياض والقاهرة الملف الثالث الذي يتم بحثه خلال زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى المملكة العربية السعودية، حيث يستهدف كلا البلدين -من كل لقاء ثنائي- إضافة تطور إيجابي على مستوى العلاقات بينهما، التي يمكن اعتبارها مثالًا للعلاقات الإيجابية بين الدول العربية، والتي تتضمن تنسيقًا كاملًا في المواقف والرؤى بشأن الملفات الإقليمية والدولية، ما يسمح بتحقيق أكبر استفادة عربية، دون الدخول في دوائر تضارب المصالح وتناقض الأهداف.
الرياض والقاهرة وتطورات إيجابية في الملف السوري

كانت الأوضاع في عدد من الدول العربية، على رأسها ليبيا والعراق وسوريا، ضيفًا دائمًا على أجندة التواصل بين القاهرة والرياض، خاصة أن الوضع الداخلي في هذه الدول -سواء على المستوى الاقتصادي أو الأمني أو السياسي- يواجه تحديات كبيرة منذ سنوات، وهي تحديات تعاظم تأثيرها بفعل الأزمة الحالية في شرق أوروبا، ما يوجب إدامة التواصل العربي – العربي لإيجاد حلول لهذا الملفات، خاصة بين قوتين مهمتين في المنظومة العربية مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
يشهد الملف السوري حاليًا تطورات إيجابية مهمة، لا تقتصر فقط على الانفتاح السياسي العربي على دمشق في أعقاب كارثة زلزال فبراير الماضي الذي ضرب الشمال السوري والجنوب التركي، بل تتعدى هذا لتصل إلى مرحلة إعادة وصل العلاقات بشكل كامل بين الدولة السورية وعدد من الدول العربية التي قطعت العلاقات بينها وبين دمشق، بعد تجميد الجامعة العربية عضوية الجمهورية السورية في نوفمبر 2011.
مصر من جانبها كانت دومًا صاحبة مقاربة خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي العربي، صبغت بشكل واضح التعامل المصري مع الملفات العربية الساخنة، سواء فيما يتعلق بالأداء المحلي على مستوى المواقف السياسية والتصريحات، أو ما يرتبط بالأداء الدبلوماسي المصري في المحافل الإقليمية أو الدولية.
ولو اتخذنا الملف السوري كمثال على ذلك، فإن القيادة المصرية منذ عام 2014 أعلنت بشكل واضح سعيها لتحقيق تسوية سلمية للأزمة السورية، وأوضح الرئيس المصري في مناسبات عدة، دعم مصر للجيوش الوطنية العربية، ومنها الجيش العربي السوري، وذلك خلال حوار تلفزيوني أجرته معه قناة “أر تي بي” البلغارية في نوفمبر 2016، حين قال “من المفضل أن تكون الجيوش الوطنية للدول هي من يقوم بالحفاظ على الأمن والاستقرار في هذه الأحوال حتى لا تكون هناك حساسيات من وجود قوات أخرى تعمل لإنجاز هذه المهمة، الأَوْلَى لنا أن ندعم الجيش الوطني، على سبيل المثال، في ليبيا لفرض السيطرة على الأراضي الليبية والتعامل مع على العناصر المتطرفة وإحداث الاستقرار المطلوب، ونفس الكلام ينطبق في سوريا والعراق”.
هذا الموقف المصري يعكس أحد ثوابت النظرة المصرية للأمن القومي العربي، ويتفق أيضًا مع نهج الدبلوماسية المصرية بشكل عام، وهي بهذا الموقف أكدت على الثوابت التي تؤمن بها وتعد من ركائز الأمن القومي العربي، وعلى رأسها الحفاظ على أمن وسيادة واستقرار الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
ظلت القاهرة -من هذا المنطلق- محافظة على استمرارية العلاقة مع دمشق، سواء عبر إبقاء السفارة المصرية في دمشق مفتوحة بشكل دائم طيلة الفترة الماضية، وعبر استمرارية التواصل الأمني بين الجانبين فيما يخص مكافحة الإرهاب، أو تدخل القاهرة في عدة مناسبات للوساطة بين الحكومة السورية وفصائل مسلحة معارضة لإبرام اتفاقات وقف لإطلاق النار، وصولًا إلى الدور الإغاثي المصري المستمر في سوريا، والذي تم تعزيزه بشكل كبير من خلال تدفق المساعدات المصرية إلى الموانئ والمطارات السورية بعد كارثة الزلزال الأخير.
في ظل واقع العلاقات بين القاهرة ودمشق، واستمرار التواصل بينهما، كان من اليسير على الجانبين توسيع قاعدة التواصل السياسي بينهما خلال الفترة الأخيرة، عبر عدة قنوات، منها الزيارة الأولى منذ نحو عقد لوزير خارجية مصري إلى سوريا في فبراير الماضي، والتواصل الهاتفي بين الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والرئيس السوري بشار الأسد، وصولًا إلى الزيارة التي قام بها وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى القاهرة يوم ١ أبريل ٢٠٢٣، والتي تم فيها إطلاع القاهرة على آخر مستجدات التفاعلات الحالية في الأزمة السورية، والبحث في وضع خطوات تنفيذية لعودة العلاقات السورية مع الدول العربية التى كانت تقاطعها.
أهمية هذا الملف بالنسبة لمصر والمملكة العربية السعودية تبقى واضحة بالنظر إلى ما سبق من خلفيات، وإلى حقيقة أن الرياض قد بدأت الشهر الماضي محادثات مع سوريا لإعادة تقديم الخدمات القنصلية بين البلدين، وسط أحاديث عربية رسمية حول عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، وهو ما تم تأكيده اليوم عبر حديث مصادر سعودية لوكالة “رويترز” للأنباء حول زيارة قريبة لوزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، إلى دمشق، لتسليم الرئيس بشار الأسد دعوة رسمية لحضور القمة العربية، المقرر انعقادها بالرياض في التاسع عشر من شهر مايو المقبل.
لذا كان من الضروري مناقشة تفاصيل هذا المشهد بشكل معمق بين الرياض والقاهرة خلال زيارة الرئيس السيسي اليوم للمملكة العربية السعودية، خاصة وأن دمشق على موعد مع استحقاق إقليمي مهم يتمثل في الاجتماع الذي ستستضيفه روسيا غدا على مستوى نواب وزراء خارجية كل من تركيا وإيران وسوريا وروسيا، من أجل بحث التقارب السوري التركي، وهو التقارب الذي تضع له دمشق شروطًا أساسية، أهمها انسحاب القوات التركية من الأراضي السورية، وهي النقطة التي شددت عليها القاهرة دومًا عبر إدانتها التدخلات العسكرية التركية في سوريا والعراق.
الملف الإيراني وتطبيع العلاقات السعودية مع طهران

من التطورات الإقليمية المهمة التي حازت على جانب من المباحثات التي يجريها الرئيس السيسي اليوم في جدة ملف تطبيع العلاقات بين الرياض وطهران. فقد عبرت القاهرة سابقًا عن تقديرها لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران، وثمنت التوجه الذي انتهجته المملكة العربية السعودية في هذا الصدد، من أجل إزالة مواضع التوتر في العلاقات على المستوى الإقليمي، وتأكيد ارتكازها على مبادئ ومقاصد ميثاق الأمم المتحدة من حيث احترام سيادة الدول، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وترسيخ مفاهيم حُسن الجوار وتعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
بطبيعة الحال سيكون لهذا التطور الإقليمي المهم تداعيات ونتائج مفصلية يجب البحث فيها بين الرياض والقاهرة بشكل معمق، خاصة المقاربة الحالية للرياض تجاه التعامل مع طهران، باتت مختلفة عن مقاربتها للتعامل معها خلال السنوات الماضية، وأصبحت مشابهة إلى حد كبير للرؤية المصرية لكيفية التعامل مع “الحالة الإيرانية”، وهي رؤية تتلخص في ضرورة العمل على محورين، المحور الأول هو تحصين الشارع العربي والجبهات الداخلية العربية من التدخلات السياسية والاقتصادية الخارجية سواء من إيران أو من أية دولة أخرى، لأن معاناة الشارع العربي من مشاكل مزمنة على المستويات كافة، بجانب غياب الوعي السياسي والديني، كلها عوامل تفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية، خاصة في المجتمعات الخليجية. المحور الثاني هو محور إدارة الأزمة مع إيران، فرؤية القاهرة الثابتة هي ضرورة إيجاد مقاربات سياسية للتعامل مع طهران.
من هذا المنطلق، كانت مصر مرحبة بشكل دائم بجولات التواصل والحوار بين الرياض وطهران، في كل من سلطنة عمان والعراق، ومؤخرًا في الصين، وهي الجولات التي أفضت إلى توقيع اتفاق شامل لتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإيران، سيتم تفعيله بشكل أكبر خلال اللقاء المشترك الذي تم الاتفاق حول عقده قريبًا خلال المحادثة الهاتفية التي تمت اليوم بين وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، ونظيره السعودي فيصل بن فرحان.
الأكيد أن مصر -من منطلق مقاربتها الحالية للعلاقات مع القوى الإقليمية- ترحب بأي تحسن في العلاقات بين الدول والحكومات في منطقة الشرق الأوسط، وسبق وأعلنت على لسان وزير خارجيتها في عام ٢٠١٦ بأن عودة العلاقات مع طهران مشروطة “بوجود تغيير في المنهج والسياسة إزاء المنطقة، السعي إلى بناء علاقات على أسس من التعاون والاحترام المتبادل والتكافؤ في المصالح، واحترام استقلال الدول العربيّة وسيادتها على أراضيها وعدم التدخّل فيها، والكفّ عن السعي إلى فرض النفوذ”.
ملفات سياسية واقتصادية مشتركة بين الجانبين

يضاف إلى الملفين السابقين، ملفات أخرى محل بحث خلال زيارة الرئيس السيسي إلى جدة، منها ما يتعلق بالملفات العربية الإقليمية الأخرى، مثل التطورات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية، والحراك المتزايد في الملف الليبي، وكذا سبل تعزيز وقف إطلاق النار في اليمن، وهو ملف مهم وله تشعبات كبيرة تطال الأمن القومي العربي ومستوى العلاقات مع إيران.
الموقف الحالي في اليمن ربما يحتاج إلى تعزيز الجانب السياسي المتعلق به، وقد دعمت القاهرة في السابق الجهود الدبلوماسية الدولية وجهود سلطنة عمان لبدء مسار سياسي لحل هذه الأزمة، مع التأكيد الدائم على أمن وسلامة دول الخليج العربي كافة، وبالتالي تبدو الحاجة ماسة -في ضوء التطورات الأخيرة في العلاقات مع إيران- إلى بحث مآلات الوضع القائم حاليًا في اليمن.
على مستوى العلاقات الثنائية بين القاهرة والرياض، شهدت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين تحسنًا مطردًا خلال السنوات الأخيرة، في انعكاس للحالة الإيجابية التي تمتعت بهذا علاقاتهما السياسية، وهذا تمثل في تزايد حجم التبادل التجاري بين الجانبين، من 5.5 مليار دولار عام 2020 إلى نحو 7.5 مليار دولار حاليًا، فيما تأتي المملكة العربية السعودية كثاني أكبر مستثمر في مصر باستثمارات تجاوزت 30 مليار دولار موزعة على نحو 3000 مشروع، في حين بلغ حجم الاستثمارات المصرية في المملكة 2.5 مليار دولار بإجمالي 1300 مشروع في مجالات مختلفة.
التعاون بين الجانبين في مجال المشاريع المشتركة يعتبر مثال يحتذى به على المستوى العربي، ويبرز في هذا الصدد مشروع الربط الكهربائي بين البلدين، الذي تم توقيع عقوده في أكتوبر 2021، وبدأت خطوات التأسيس له عمليًا بعد أن انتهت الشركات المصرية مؤخرًا من تجارب التشغيل لجميع الأبراج الخاصة بالمشروع، والتى يبلغ عددها ما يقرب من 130 برجًا، حيث يتم البدء في تركيب أبراج النقل خلال يونيو المقبل، وبدأت بالفعل عمليات تشييد محطات المحولات الخاصة بهذا المشروع، في حين تم البدء فى تركيب الأبراج التابعة لخط الربط الخاص بهذا المشروع على الأراضي السعودية، علمأ أنه من المقرر بدء المرحلة الأولى لهذا المشروع في أكتوبر 2024، لنقل نحو 1500 ميجاوات من الكهرباء، سترتفع بعد ذلك لتصل إلى ثلاث آلاف ميجاوات.
هذا النمط من المشروعات يعد أستثماراً عربياً في التجربة المصرية الرائدة في مجال إدارة وتوليد الطاقة الكهربائية، ونموذج بدأت القاهرة في تعميمه عربياً عبر توقيعها عقوداً للربط الكهربائي مع عدة دول عربية.
باحث أول بالمرصد المصري