أفريقياالأمريكتان

“هاريس” في أفريقيا وإعادة صياغة الصورة الأمريكية

هل تعيد زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس إلى أفريقيا الصورة المرسومة عن استخدام القارة كبيدق في يد الجيوسياسية الأمريكية ضد النفوذ الصيني الروسي المتنامي في القارة؟ وذلك في أعقاب متابعة تنفيذ نتائج القمة الأمريكية الأفريقية المنعقدة نهاية العام الماضي في واشنطن، وفي إطار سلسلة من الزيارات المتتالية رفيعة المستوى لكل من: قرينة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، والسفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة ليندا توماس-جرينفيلد، ووزيرة الخزانة جانيت يلين. لتأتي رحلة “هاريس” التي بدأتها من 26 مارس حتى 2 أبريل لزيارة غانا وتنزانيا وزامبيا لترسم السياسة الخارجية الامريكية مع اقتراب الانتخابات الأمريكية. 

ماذا وراء الزيارة؟

تأتي الزيارة الممتدة من 26 مارس حتى 2 أبريل من أقصى غرب القارة الأفريقية إلى وسط وجنوبها من غانا إلى تنزانيا وزامبيا في ظل الاستراتيجية الأمريكية لأفريقيا جنوب الصحراء، ويمكن تحديد أسباب هذه الزيارة في ثلاثة دوافع رئيسة هي: 

تأطير التنافس الدولي: بدأت الولايات المتحدة في تقديم نفسها كبديل أفضل من الصين وروسيا في ظل الديون التي تعاني منها الدول الأفريقية، بجانب تحقيق الأمن الغذائي الناتج عن آثار التغيرات المناخية والحرب الروسية الأوكرانية. وتأتي زيارة هاريس بصورة “اقتصادية” لتقديم وعود بالإعفاء أو إعادة هيكلة الديون، في ظل كون زامبيا أول دولة أفريقية تتخلف عن سداد ديونها السيادية عقب جائحة كورونا بنحو 17.3 مليار دولار، ثلثها لصالح الجهات الصينية وحدها، وتسعى لتسوية تلك الديون مع الدول الكبرى، بمن فيها الصين التي تم ضمها بجانب فرنسا إلى لجنة الدائنين الرسمية أغسطس 2022 للحصول على تمويل جديد وتقديم ضمانات للحصول على تمويل بشروط ميسرة من البنك الدولي وبنك التنمية الأفريقي. 

وتسعى كذلك غانا إلى إعادة هيكلة ديونها وسط ارتفاع معدلات التضخم بنحو أكثر من 50%. وسبق وأن قامت الحكومة الغانية بإجراء مفاوضات مع الصين للحصول على ضمانات خارجية من أجل تقديم ضمانات للحصول على مساعدات صندوق النقد الدولي. وسبق وأن أنشأت الصين “مجموعة أصدقاء مبادرة التنمية العالمية في إطار الأمم المتحدة لدعم التعافي الاقتصادي للدول النامية بعد جائحة كورونا”، والتي انضمت إليها غانا. وترجع أهمية غانا إلى كونها الرئيس المناوب للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، وتعيينها عضوًا غير دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في الفترة من 2022 إلى 2023. 

وتقدم الصين نفسها كدولة لا تتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتهدف إلى مصالح الدول الأفريقية. وعلى الصعيد العسكري، فغانا هي الدولة التي تجاور غينيا وفي ظل محاولة السيطرة على المحيط الأطلسي في ظل القاعدة العسكرية في غينيا، والتراجع الغربي في دول الساحل القريبة، ومع استمرار النزعات الأفريقية ضد التدخل الأمريكي بالتأكيد على حق الدول الأفريقية كدول ذات سيادة في تشكيل صداقتها الخارجية والتي ظهرت في التصويت على إدانة روسيا بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي تحاول أمريكا تقديم نفسها في شكل “الشراكة” وليس كبديل تنافسي مع الصين أو روسيا، حتى لا تفقد حضورها الأفريقي من خلال إعادة رسم صورتها بالبدء في الاستثمار في مجالات نقل التكنولوجيا وزيادة الاستثمارات. 

تأتي الزيارة لتنفيذ نتائج القمة الأمريكية الأفريقية في الاستثمار في مشروعات البنية التحتية، وذلك لمواجهة التقدم الصيني في هذا المجال. فالصين تزيد من تدفق التعاون التجاري مع زامبيا، وتدخل السوق الصينية، وذلك ضمن مبادرة الحزام والطريق، وفي إطار منتدى التعاون الصيني/الأفريقي. وأقامت الصين محطتين لتوليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائية في زامبيا “كافوي جورج لاور”، على بعد 90 كيلومترًا من العاصمة لوساكا، بإضافة نحو 750 ميجاوات من الكهرباء إلى شبكة كهرباء زامبيا الوطنية. ولكن، تعرضت هذه المحطتان لاتهامات من الولايات المتحدة بأنهما “تدمير صيني للبيئة”. ولهذا، قامت بكين بإدراج ترتيبات لحماية البيئة ضمن إجراءاتها.

التمهيد لولاية ثانية واعتماد أوراق السياسة الخارجية الأمريكية في أفريقيا: تأتي الرحلة التي تقودها هاريس في أفريقيا مع انتقادات حادة نُشرت في كتاب للصحفيين جوناثان مارتن وأليكس بيرنز في “نيويورك تايمز”. كما ترى هاريس أنها تتعرض للتهميش بشكل ما في إدارة بايدن، وأنها يتم إشراكها في البرامج التي تراها مستحيلة مثل أمن الحدود والهجرة غير الشرعية. هذا بالإضافة إلى اتهامات العنصرية الموجهة ضد الدول الأفريقية. وبالتالي، تبدأ هاريس في تشكيل السياسة الخارجية لها تمهيدًا للانتخابات المقررة عام 2024، حيث تسعى لإيجاد دعمٍ في الإدارة الديمقراطية الأمريكية لأجندتها الانتخابية.

تفعيل نتائج القمة الأمريكية الأفريقية:  توصف غانا بأنها الدولة المثالية لتنفيذ السياسة الخارجية الأمريكية المتعلقة بالديمقراطية وحقوق الإنسان والحوكمة الرشيدة بحسب الاستراتيجية الأمريكية المعلنة والتي ظهرت في القمة الأمريكية الأفريقية؛ وذلك بوصف غانا الدولة التي شهدت انتقالًا سلميًا للسلطة عدة مرات، وهو ما ظهر كذلك في اختيار النيجر خلال زيارة أنتوني بلينكن الأخيرة، وبالتالي فتمثل بيئة خصبة لتنفيذ تلك السياسة. فيما عانت تنزانيا في السابق أثناء فترة عهد الرئيس السابق جون ماجوفولي قبل تولي السيدة سامية حسن رئاسة البلاد كأول سيدة تشغل منصب الرئاسة بالبلاد من عزلة دولية، ويُعد لقاء السيدتين “سامية حسن” و”كامالا هاريس” في تغير الصورة النمطية للدولة التنزانية مع تولي الأولى رئاسة البلاد وبروزها في الخريطة العالمية. وفي تنزانيا فكانت هناك قمة افتراضية حول الديمقراطية يستضيفها الرئيس الزامبي هاكايندي هيتشيليما بحضور بايدن قبيل زيارة “هاريس” إلى بلاده.

وتهدف الجولة كذلك إلى استكمال ما تم التعهد خلال القمة الأفريقية-الأمريكية، من خلال الإعلان عن استثمار أمريكي في القارة  بنحو 55 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات في مشروعات: لتطوير البنى التحتية، ودعم قطاعي الطاقة النظيفة والزراعة والاقتصاد الرقمي في الدول الأفريقية، وفي بيان الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أن هناك برنامجًا وخطة خمسية لتطوير الطاقات المتجددة لمكافحة التغير المناخي، بجانب نشر الديمقراطية والحوكمة؛ فجاءت زيارة بلينكن بالتركيز على الناحية الأمنية والمساعدات الإنسانية، فيما تهدف رحلة هاريس إلى معالجة الاستثمار والمساعدات الاقتصادية والتحول الرقمي والإبتكار، هذا بجانب العمل على تأكيد وجود مقعد أفريقي في مجموعة العشرين، ومقعد دائم بمجلس الأمن.

طاولة الزيارة

الديون والتعاون الاستثماري:  شهدت أجندة “هاريس” محاولة لتغيير الصورة النمطية الأمريكية من ملف المساعدات وتعزيز ملف حقوق الإنسان إلى الاستثمار والشراكة الاقتصادية من خلال تلبية احتياجات الشعوب الأفريقية؛ فشهدت الزيارة لقاءات متنوعة مع رؤساء: غانا نانا أكوفو أدو، وتنزانيا سامية حسن، وزامبيا هاكايندي هيشيليما؛ لمناقشة مشروعات النمو الاقتصادي والأمن الغذائي والديمقراطية والديون. بجانب عقد اجتماعات مع رواد الأعمال والتأكيد على دور المرأة لكون التكنولوجيا هي مستقبل الاستراتيجية الأمريكية في أفريقيا، وهو ما يظهر في لقاءات مع رجال الأعمال ومنظمات المجتمع المدني حول التوسع في الأنظمة الرقمية والمالية، في خطوة لإظهار التعاون الاقتصادي بعيدًا عن المساعدات. 

وظهر الدعم الأمريكي في ملف التكنولوجيا والمناخ وأمن وإنتاج الطاقة وتصدير المنتجات التنزانية من خلال الإعلان عن عدد من المبادرات ومذكرات التفاهم بين بنك التصدير والاستيراد الأمريكي وحكومة تنزانيا بتمويل يصل إلى 500 مليون دولار، وبناء شراكة جديدة في تكنولوجيا الجيل الخامس، وإنشاء مصنع معالجة جديد في تنزانيا للمعادن التي تدخل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية.

هذا بجانب مبادرة بمليار دولار في غانا لتعزيز التمكين الاقتصادي للنساء في أفريقيا، في مجالات اقتصادية والنمو المستدام وليس فقط في مسائل متعلقة بحقوق الإنسان. وسبق وأن أعلنت واشنطن عن مساعدات بقيمة 139 مليون دولار واستثمارات بقيمة 100 مليون دولار لمساعدة كل من: بنين، وكوت ديفوار، وغانا، وتوجو، على مكافحة تهديد الجماعات المسلحة بمنطقة الساحل. وفي زامبيا، أعلنت “هاريس” عن توقيع مذكرة تفاهم بشأن التنمية التجارية كمتابعة لالتزامهما بتعزيز المشاركة التجارية، بجانب الترحيب بأجندة الرئيس هاكيندي هيشيليما للإصلاح الاقتصادي، مع التأكيد على تعزيز الديمقراطية في زامبيا من خلال الإعلان عن برامج ديمقراطية جديدة لتعزيز مكافحة الفساد وإصلاحات الحوكمة والشفافية المالية في البلاد لدعم الاقتصاد الزامبي. 

 تعميق الجذور الأفريقية: تعد زيارة نائبة الرئيس الأمريكي كامالا هاريس هي الخامسة لمسؤولي إدارة بايدن إلى أفريقيا منذ القمة الأمريكية-الأفريقية، مع التمهيد لجولة محتملة لبايدن نهاية العام الحالي. وتروج “هاريس” لنفسها بأنها ذات جذور في زامبيا عند زيارتها لجدها الذي عمل هناك، في محاولة لإضفاء قصة إنسانية وتعاون متجذر بينهما. وظهر هذا الجانب أيضًا في زيارة “هاريس” إلى قلعة “كيب كوست” في غانا، وهي إحدى القلاع التي ضمت عددًا من المهاجرين الأفارقة للعمل في الأمريكتين تعود إلى الحقبة الاستعمارية، بجانب خطابها أمام نصب الاستقلال للترويج “بصفتها أول إمرأة سمراء البشرة” في منصب نائب الرئيس الأمريكي. فبالرغم من أصولها الآسيوية، إلا أنها حاولت إعطاء صورة بأن التاريخ من العبودية يمكن التخلي عنه إلى طريق الحرية والتي أعطتها لها الولايات المتحدة.

وبجانب ذلك، كان هناك تذكير بالمشاركات الأمريكية لحماية الدول الأفريقية من الإرهاب والجماعات المتطرفة، لبناء لغة جديدة بعيدة عن الدعم لعسكري المطلق، وأن الدول الأفريقية لم تعانِ وحدها؛ فقامت هاريس بإحياء ذكرى تفجير للسفارة الأمريكية في العاصمة التنزانية دار السلام عام 1998. 

إعادة الصورة الأمريكية

مما سبق وردًا على السؤال الأساسي للمقال هل تعيد الزيارة صورة الولايات المتحدة؟ يمكننا توضيح ذلك من خلال تركيز الزيارة الحالية على الملف “الاقتصادي” عكس زيارة بلينكن التي ركزت على مفهوم الأمن والسلام في النيجر، والتطرق للملفات الاقتصادية من خلال النظر إلى العقوبات والمساعدات، وهو ما يوضح طبيعة الاحتياجات الأفريقية المختلفة، وبالتالي محاولة إعادة الصورة من فرض السيطرة والقرارات على الدول الأفريقية إلى مفهوم “الشراكة” من خلال الاستماع لقادة الدول الأفريقية، مع موازنة اختيار دول تستطيع تنفيذ الخطة الجيوسياسية الأمريكية والحديث عن السبل الديمقراطية كما في غانا وتنزانيا، والاستثمار في مشروعات تخدم الرؤية الأمريكية.

وتعمل زيارة “هاريس” كذلك على التأكيد على أن الصين وروسيا تبنيان من خلال تدخلاتهما في أفريقيا نموذجًا للتبعية لهما، فيما تسعى الولايات المتحدة إلى بناء اقتصادات تعتمد على ذاتها؛ في محاولة لملاءمة رؤية القادة الأفارقة، والتي ظهرت على سبيل المثال في تصريحات رئيس جنوب أفريقيا قبيل القمة الأمريكية الأفريقية بأن الدول الأفريقية لن تقبل شروطًا أمريكية باختيار الدول الصديقة لها. فتحاول “هاريس” التأكيد على أنهم جزء من التاريخ الأفريقي، من خلال بناء قصص إنسانية كمحاولة لإلغاء مفهوم التبعية وإعادة التصور الأمريكي بأنها مكان الحرية والإنسانية والديمقراطية. 

ويضعنا الطرح السابق أمام تشكك في استدامة تنفيذ هذه الاستراتيجية؛ نتيجة تغير الأجندة الأمريكية في حال تغير الإدارات كما حدث أثناء إدارة ترامب. وتحتاج هذه الاستراتيجية إلى صياغة اتفاقات فعلية وبدء تنفيذ الوعود على الأرض الأفريقية من خلال اتفاقيات التجارة الحرة الأفريقية، وبناء مشروعات للتنمية المستدامة، والتي ظهرت في مشروع الحزام والطريق الصيني الذي يعمل على تطوير البنية التحتية الأفريقية. وبالرغم من الخطة الأمريكية للاستثمار في البنية التحتية والاتصالات والابتكار وخلق جيل أفريقي يدين بالولاء للولايات المتحدة، فإن المشروعات المعلنة لم ترتق حتى الآن إلى قوة مشروعات البنية التحتية التي تنفذها الصين، والتي ستحتاج إلى سنوات “مستقرة” من العمل وفق الاستراتيجية الأمريكية لمواجهة النفوذ الصيني والروسي.

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

رحمة حسن

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى