ليبيا

انفراجة نوعية: الحراك العسكري في ليبيا كقوة دفع للمسار السياسي

تعكس عدة اجتماعات عسكرية ليبية للجنة العسكرية المشتركة (5+5)، ورئاسات أركان القيادة العامة وحكومة الوحدة الوطنية، وبمشاركة البعثة الأممية لدى ليبيا، بدأت بلقاء القاهرة ( 7فبراير ) الماضي، الذي يمكن اعتباره بمثابة لقاء وضع حجر الأساس لهذا التطور، تلاه لقاء تونس منتصف مارس الجاري، ثم لقاء طرابلس الأسبوع الجاري، والتي ستتوج بلقاء شامل في سرت، حراكًا غير مسبوق في المسار العسكري، فمشهد الاجتماعات والمخرجات الصادرة عنها تشكل خطوة رئيسة في توحيد المؤسسة العسكرية، وبالتبعية سيكون لها تداعياتها كقوة دفع للمسار السياسي، حيث تصب كافة المخرجات في تهيئة الأجواء للعملية السياسية الخاصة بالانتخابات، وفي المقدمة منها إنهاء حالة الانقسام السياسي وتوحيد السلطة التنفيذية. 

على هذا النحو، يمكن القول إن المسار العسكري في ليبيا بات يسبق المسار السياسي بعدة خطوات، وهو ما يمكن اعتباره تصحيحًا للأوضاع السابقة التي كان يتقدم فيها المسار السياسي وسرعان ما يتراجع على وقع عدم التقدم في المسار العسكري، إذ إن اتفاق وقف إطلاق النار (أكتوبر 2020) أدى إلى إطلاق مرحلة انتقال سياسي جديدة في ليبيا، كانت تحمل البشائر في طي صفحة مراحل الانتقال السياسي الفاشلة، وفيما صمد اتفاق وقف إطلاق النار، إلا أن عدم تنفيذ مخرجاته بالكامل  لاسيما: وقف نقل وتجنيد مرتزقة، ووقف عمليات نقل السلاح، ، وبرامج التدريب العسكري، وبقاء القوات الأجنبية في ليبيا، كان كفيلًا بتقويض إنجاح العملية السياسية وفشل إجراء الانتخابات التي كانت مقررة في 24 سبتمبر 2022، ومن هنا تأتي أهمية مخرجات الحوارات العسكرية الأخيرة في نزع مسببات الفشل.

كذلك يمكن النظر إلى أن ردود الأفعال السياسية الداخلية والخارجية المرحبة بالتطورات العسكرية الأخيرة، من حيث الإجماع الوطني على أنها تكسر حالة الانسداد السياسي، وتعيد الاعتبار لمشروع استعادة السيادة وإعادة بناء الدولة. لكن قد يكون الأهم من ذلك هو أن توحيد الجيش الليبي قد يعيد تقويم مسار الأجندة السياسية المعلنة لخريطة الطريق مؤخرًا، صحيح أن الطرح الأخير لخريطة الطريق السياسية جاء من البعثة الأممية التي تشارك في المسار العسكري القائم، إلا أن ما تم إعلانه يظل أقل من تشكيل خريطة طريق متكاملة، وربما لا يزيد عن كونه مجرد مبادئ للعملية السياسية، والتأكيد على أولوية إجراء الانتخابات في العام الجاري 2023، إلا أن قراءة النتائج الأولية للاجتماعات العسكرية، تشير إلى رغبة ليبية في استعادة زمام المبادرة، فكثيرًا ما وضعت خرائط طريق أممية لكنها تعثرت بسبب عدم توافر الإرادة السياسية لليبيين. 

تتضمن مخرجات الاجتماعات العسكرية عدة ملفات ومنها على سبيل المثال:

  •  تشكيل قوة عسكرية مشتركة لتأمين الانتخابات في البلاد.
  •  تشكيل قوة عسكرية لتأمين الحدود الجنوبية.
  • الخطة التنفيذية الخاصة بإنهاء وجود المرتزقة والتواجد العسكري الأجنبي في البلاد.
  • التعامل مع ملف اللاجئين.
  • دفع ملف المصالحة الوطنية.

وفي هذا الإطار يمكن ترجمة خطة العمل وفق إعلان سرت المرتقب سياسيًا وعسكريًا، على النحو التالي:

أولاً: عسكريًا: من المتصور أن الطرح الحالي الذي يأتي تحت عنوان “توحيد المؤسسة العسكرية”، قد يعني في المقام الأول عملية هيكلة على مستوى القيادة العسكرية في إطار تشكيل قيادة عسكرية مشتركة، وهي أقرب إلى مسألة الاندماج الهيكلي، فالقيادة العامة لديها هيكل واضح، بينما رئاسة أركان غرب ليبيا قطعت شوطًا في إطار لجنة (5+5) في عملية الإصلاح الهيكلي الخاصة بتكوينها، بينما عملية التوحيد المتعارف عليها في إطار البرامج الدولية تتطلب عملية تسريح وإعادة الدمج ممن يصلحون للخدمة العسكرية ووفق التأهيل العسكري، ومن ثم فإن المظاهر المعلن عنها حتي الأن تشير إلى أولًا: انهاء مظاهر الانقسام العسكري، وثانيًا: إلى عملية إصلاح هيكلي، وثالثًا: إلى إنهاء مظاهر الميلشياوية القائمة التي تهدف إلى احتكار المؤسسة العسكرية لمظاهر القوة والسلاح، وتوجيه فائض قوة العسكرة التي كانت شائعة في البلاد نحو هدف أساسي وهو ضبط الحدود السائلة التي جعلت البلاد مرتعًا للجريمة المنظمة العابرة للحدود.  ورابعًا: إنهاء مظاهر الوجود الأجنبي الذي يشكل معضلة بحكم حالة الاستقطاب التي تشكلت في ظل وجود هذا التواجد. 

ثانيًا: سياسيًا:  ناشدت رئاسات الأركان العسكرية في أكثر من مناسبة ضرورة تخلي النخبة السياسية الليبية عن المصالح الذاتية والارتقاء بالعملية السياسية نحو الأهداف الوطنية، ومع ذلك لم تأتي تلك المناشدات بمفعول سياسي على أرض الواقع، طالما أنه لم يتم معالجة حالة الانقسام السياسي، بل عززت من خريطة مراكز القوى الحاكمة لمشهد الأزمة، فينظر إلى حكومة غرب ليبيا (الوحدة الوطنية) على أنها تستند إلى رئاسة الأركان التابعة لها في دعم استمرارها بعد انتهاء فترتها الزمنية، بينما تستند حكومة شرق ليبيا المشكلة من البرلمان إلى وجودها في بنغازي تحت مظلة القيادة العامة، وبصرف النظر عن واقعية هذا المنظور، فإن توحيد ميزان القوة العسكرية في ليبيا كفيل بتقويض مظاهر الانقسام السياسي. 

ستحسب هذه التطورات لصالح العسكريين الأكثر نضوجًا في المشهد الراهن، ولكن لاستكمال هذه الخطوات سيتعين على مجلسي النواب والدولة الاستفادة من الحراك العسكري الراهن في إنهاء حالة التعثر الخاصة بإنتاج القوانين الانتخابية في غضون الأسابيع المقبلة، ومع ذلك لم تظهر مؤشرات حتى الأن تدل على إمكانية تجاوز التباين ما بين المجلسين حول ما هو مطلوب، وفي هذا السياق هدد المبعوث الأممي عبد الله باتيلي الطرفين بتجاوزهما حال عدم التوافق في فترة مناسبة، وإن لم يكشف عن السقف الزمني لتلك الفترة، لكن يعتقد أنها ستكون الخطوة التالية ما بعد إعلان سرت، وقد يبادر إلى تشكيل اللجنة التوجيهية التي سبق وأعلن عنها في إحاطته أمام مجلس الأمن، وهو ما سيشكل تحدي أمام العملية السياسية في المستقبل إن جرت بمبادرة أممية على النحو المبيت له من جانب البعثة، وفي ضوء ما تحظى به مبادرة باتيلي من دعم دولي وأمريكي في المقام الأول. 

إجمالًا، إنقاذ الوضع الليبي المتعثر يتطلب سياق مدني – عسكري مشترك لإنهاء إشكالية الفشل المتكرر في عملية الانتقال السياسي الليبي، وكقاعدة عامة لا يمكن لأي منهما العمل بشكل مستقل عن الأخر، فكلاهما يصب في بوتقة مشهد لا يمكن تجزئته، ولا يمكن التقدم في مسار بوتيرة متسارعة بينما يتراجع أو يتعثر الأخر، كذلك لا يمكن تنحية عواقب عدم استدراك طبيعة اللحظة الراهنة، فعلى قدر التفاؤل الوارد في سياق التطور العسكري، تظل هناك حاجة إلى تطور سياسي مكافئ لاستقرار المعادلة. ويؤخذ في الاعتبار أيضًا أن التوافق في المسار السياسي سيعزز نقطة البداية نحو مسار الاستقرار، لكن التوافق العسكري سيظل هو الضامن لهذا الاستقرار، لا سيما في مرحلة ما بعد العملية الانتخابية التي لا يمكن اعتبارها سوى مجرد حجر أساس في خروج ليبيا من دوامة الأزمة التي علقت فيها لأكثر من عقد من الزمن. 

+ posts

رئيس وحدة التسلح

أحمد عليبة

رئيس وحدة التسلح

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى