إنذار مبكر: ماذا بعد نشر روسيا للأسلحة النووية التكتيكية في بيلاروسيا؟
لم يكن إعلان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين (9 يونيو الجاري) عن استكمال عملية نشر الأسلحة النووية التكتيكية في بيلاروسيا في غضون الأسبوع الأول من شهر يوليو المقبل مفاجئًا؛ بالنظر إلى تسلسل الخطوات الإجرائية والفنية التي اتخذتها روسيا في هذا الصدد، فقد أعلن في 25 مارس الماضي عن اتفاق مع بيلاروسيا بهذا الشأن، وبعد أقل من أسبوعين على الاتفاق وتحديدًا في 4 أبريل كانت القوة النووية الروسية (الفرقة 12) قد بدأت فعليًا في الانتقال إلى بيلاروسيا، وفي 25 مايو وقع وزراء الدفاع اتفاقًا ينظم وضع القنابل النووية على الأراضي البيلاروسية، وقامت شركة (TNW) الروسية بإدخال التعديلات المطلوبة على الطائرات الناقلة للأسلحة النووية التكتيكية (SU-25/MIG-29/ SU-24M).
رسائل متعددة
من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن خطاب الرئيس الروسي “بوتين” الذي تضمن الإعلان عن موعد الانتشار النووي في بيلاروسيا لم يقتصر على تحديد موعد الانتشار، وإنما يسلط الضوء على عدد من الدوافع بالإضافة إلى رسائل للقوى الداعمة لأوكرانيا في الحرب، ومنها:
● لم تتجاوز روسيا الخطوط الحمراء في نشر أسلحة نووية تكتيكية في بيلاروسيا؛ إذ إنها هي من ستدير هذه العملية في بيلاروسيا دون أي تدخل من الأخيرة، وهو ما لا يشكل مخالفة لاتفاقية حظر الانتشار النووي التي لا تمنع عملية نقل الأسلحة إلى خارج الدولة طالما أنها هي من يسيطر عليها. لكن في الوقت ذاته لا يمكن التقليل من تبعات هذه الخطوة؛ فقد سبق وبررت موسكو إقدامها على نشر أسلحة نووية خارج البلاد للمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة بأن الولايات المتحدة لديها القدرات ذاتها في أوروبا.
وفي أكتوبر 2022، كشفت صحيفة “بوليتيكو” الأمريكية أن واشنطن قامت بتسريع عملية تحديث تلك القدرات لتشمل القنابل (B-61- “B-61-12). وفي حين تشير التقديرات الدولية إلى أن الولايات المتحدة تنشر ما بين 100-200 قنبلة في: (هولندا – بلجيكا – إيطاليا- ألمانيا – تركيا)، فمن المتصور أن روسيا يمكنها نشر هذا العدد في بيلاروسيا إن لم يكن أكثر من ذلك، بالإضافة إلى أن روسيا تنشر أسلحة نووية أيضًا في منطقة كليننجراد وهي نقطة شديد الحساسية الجيوستراتيجية بالنسبة لأوروبا.
● ربط “بوتين” ضمنيًا موعد استكمال العمليات اللوجستية الخاصة بالانتشار النووي التكتيكي في بيلاروسيا بقمة الناتو المقبلة التي ستعقد في ليتوانيا (11-12 يوليو المقبل) ومعها يتجدد النقاش حول طلب أوكرانيا الانضمام إلى حلف الناتو، وهو ما يشكل خطًا أحمر بالنسبة للجانب الروسي، وبالتالي يشكل إعلان موعد الانتشار (7-8 يوليو) رسالة تصعيد في هذا الاتجاه. وفي المقابل، ردت الولايات المتحدة برسالة مباشرة على لسان جوليان سميث المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن بالإشارة إلى أنه من غير المرجح انضمام أوكرانيا للناتو أثناء الصراع، كما أكد مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان على رسالة تحمل نفس المضمون في ذات الوقت، بينما تلح أوكرانيا على إدراج الطلب في القمة المقبلة.
ومع ذلك لا يُعتقد أن قمة الحلف القادمة ستستجيب للطلب الأوكراني، ومن المؤكد أن روسيا تدرك ذلك؛ فجدول أعمال الحلف سينصب على التطورات الميدانية في أوكرانيا والمساعدات الاستراتيجية التي يتعين أن يقدمها الحلف لتعزيز الهجوم المضاد، وتبعات نقل الأسلحة النووية التكتيكية إلى بيلاروسيا، وحل المشكلة العالقة مع تركيا التي تعطل انضمام السويد إلى الحلف، فضلًا عن أن حضور اليابان للقمة قد يشكل بعدًا آخر في تلك الأولويات؛ بالنظر إلى موقف الصين، ومن الواضح أن موسكو وبكين تنسقان معًا للضغط على الحلف من أجل عدم توسيع نفوذه إلى شرق آسيا.
● تطورات الوضع الميداني للحرب في أوكرانيا وروسيا، فقد أعلن “بوتين” بدء عملية الهجوم المضاد من الجانب الأوكراني. وعلى الرغم من نفي كييف، فإن الوضع الميداني يشير إلى بدء الهجوم فعليًا؛ إذ تتحرك القوات الأوكرانية في ثلاثة اتجاهات رئيسة، وهي: (1) محور (باخموت) التي تعمل القوات الأوكرانية على تطويقها وهو ما يشكل هجمة مرتدة بعد إعلان قوات (فاجنر) السيطرة عليها خلال شهر مايو 2023، (2) باتجاه (لوجانسك) وتحديدًا معارك السيطرة على محوري (ليمان و كيريمينا)، (3) وهو المحور الرئيس والمتمثل في تطوير الهجوم على منطقة زابوريجيا، مع الأخذ في الحسبان أن عملية تدمير سد (نوفا كاخوفكا) قلصت مساحة خط المواجهة بين الطرفين.
لكن النقلة النوعية هي تطوير عمليات الهجوم على (بيلجورود) داخل العمق الروسي، وسيطرة الألوية (فيلق الحرية الروسي- لواء المتطوعين) على بعض القرى، وتطوير الهجمات ضد المواقع الاستراتيجية الروسية (القرم- بيلجورود). ومن ثم يُعتقد أن أوكرانيا عملت على نقل الهجمات في العمق الروسي، وتعمل على السيطرة على مواقع يمكن بها المقايضة على مواقع تسيطر عليها روسيا داخل أوكرانيا في المستقبل.
توازن الرعب النووي (التكتيكي)
نظريًا، لا تشكل روسيا انتهاكًا فعليًا لمعاهدة حظر الانتشار (TPNW)، كذلك فإن نشر الأسلحة النووية التكتيكية لا يندرج تحت اتفاقية ((NEW STSRT المعلقة بالأساس ما بين موسكو وواشنطن. لكن من الناحية العملية وفيما يتعلق بنظرية (توازن الرعب النووي)، فإن الخطوط الحمراء هنا تتعلق بالتداعيات الجيوسياسية لعملية الانتشار، بالإضافة إلى احتمالات الاستخدام وهو ما يمكن مناقشته في النقاط التالية:
● من المتصور أن كل تحرك للانتشار النووي التكتيكي سيقابل بتحرك مضاد من الجانب الآخر، فهل ستقدم الولايات المتحدة على اتخاذ خطوة مقابلة لنشر أسلحة نووية تكتيكية إضافية في بولندا والبلطيق، خاصة وأن بولندا هي الأخرى ترى نفسها المتضرر الرئيس من الخطوة الروسية بنشر الأسلحة في بيلاروسيا، وكان هناك احتكاك ما بين بولندا وبيلاروسيا في هذا الشأن، إضافة إلى أن بولندا تنتقد الموقف الأوروبي الذي يقلل بدوره من تداعيات الخطوة الروسية.
● يجب الأخذ في الحسبان مسألة توقف تبادل الإشعارات الخاصة بـ(NEW STSRT)، لاسيما مع إعلان واشنطن هذا الشهر تعليق تبادل إشعارات الانتشار الاستراتيجية. وما يخشى منه في هذا الصدد هو التحركات التي تجري تحت السطح في إطار تحميل كل من روسيا وواشنطن لغواصات تحمل صواريخ نووية.
الإكراه النووي والخطوط الحمراء
العامل الآخر يتعلق باحتمالات الاستخدام، وهي نقطة أخرى محل جدل؛ فهل تسعى روسيا إلى القيام بتوازنات في إطار خريطة الانتشار؟ أم أنها تعمل في الوقت ذاته على الاستعداد لمواجهة خطوة ضم أوكرانيا إلى الناتو التي تشكل الخط الأحمر لموسكو؟ أم أنها أيضًا تخشى من تطورات غير محسوبة لإطلاق أوكرانيا حملة الهجوم المضاد الذي قد تخسر معه روسيا مكاسب ميدانية حققتها بصعوبات وربما لم تكتمل؟
في واقع الأمر، يصعب مناقشة الإجابة عن هذه التساؤلات التي تبدو جميعها محتملة ولا يمكن استبعاد أي منها، لكن الإجابة تتوقف على تفكير وقرار “بوتين” الاستراتيجي في هذا الأمر ، وكما سلفت الإشارة فإن القوة النووية قيد الانتشار في بيلاروسيا تخضع فقط لبوتين، رغم أنها جزء من القوات المسلحة الروسية.
في الأخير؛ من المتصور أن الخطوة التي أقدمت عليها روسيا بإتمام عملية نقل الأسلحة النووية التكتيكية إلى بيلاروسيا هي عملية إنذار مبكر، وأن السيناريو الأسوأ في الحرب الروسية الأوكرانية قد يكون واردًا. ومهما كان استخدام الأسلحة النووية التكتيكية هو السيناريو الأضعاف إلا أنه لا يمكن استبعاده. ومن الصعوبة بمكان تحديد متى يمكن اتخاذ قرار من هذا النوع، وما هي المكابح التي يمكن أن توقف هذا السيناريو، فقبل أن تلقي الولايات المتحدة بالقنابل النووية على هيروشيما وناجازاكي، أبدى بعض الحلفاء الأوروبيين مخاوف من التبعات، وتفعل الصين هذا الأمر مع روسيا في المرحلة الحالية.
وبالتالي تدخل عملية الاستخدام الروسي في دائرة الاحتمالات، لكن ما هو خارج دائرة الاحتمالات ويظل مؤكدًا هو أن دائرة الحرب تتسع، وسيتوقف الأمر على الخطوة التالية، وردود الأفعال المرتقبة في داخل الناتو في قمة ليتوانيا؛ فهل سيعمل الحلف على تبريد مسار التصعيد الروسي أم لا؟ وتبريد المسار يعني عدم المجازفة بتوسيع دائرة التصعيد في العمق الروسي، وليس فقط الهجوم المضاد أو زيادة خريطة الانتشار النووي التكتيكي في الشرق الأوروبي.