
كيف ساهم الاحتلال الأمريكي للعراق في تطور الظاهرة الإرهابية؟
حلت منذ أيام الذكرى العشرين للاحتلال الأمريكي للعراق، حيث شنت الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس الأسبق جورج بوش وبريطانيا، بالتعاون مع عدة دول شكلت ما يسمى آنذاك بالتحالف الدولي، حرباً ضد العراق في 20 مارس 2003، سعياً للإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين، تحت مبررات امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وقد شكل هذا الحدث المهم نقطة تحول لافتة على مستوى تطور الظاهرة الإرهابية، خصوصاً فيما يتعلق بتدعيم سردية “ضرورة مواجهة الهجمات الاستعمارية التي تطال الدول العربية والإسلامية”، في إطار صعود مبادئ وأفكار “الجهاد التضامني” و”العدو البعيد”، الذي نظر له العديد من قادة تنظيم القاعدة، معتبرين أن “الدفاع عن البلدان الإسلامية التي تتعرض لعدوان خارجي أصبح فريضة واجبة”، وهو مبدأ تصاعد حضوره لدى التنظيمات الإرهابية في مرحلة ما بعد الحرب الأفغانية عام 1979، ووجدت هذه التنظيمات في الاحتلال الأمريكي للعراق فرصة سانحة للترويج له بشكل واسع.
تحولات مهمة للأيديولوجيا السلفية الجهادية
شهدت الفترة التي أعقبت الحرب الأفغانية التي اندلعت في 1979، وصولاً إلى الاحتلال الأمريكي للعراق في 20 مارس 2003، العديد من المسارات المهمة على مستوى تطور الفكر والعمل الإرهابي، وذلك على النحو التالي:
– مرحلة الحرب الأفغانية (1979 – 1989): مثلت الحرب الأفغانية التي اندلعت في عام 1979 منطلقاً لموجة جديدة ومختلفة من الإرهاب، حيث فُتح الباب في هذه الحرب – بدعم ورعاية أمريكية – أمام استقطاب ما عُرف وقتها بالمجاهدين العرب، وتنامت الفتاوى الدينية التي تدعو إلى ما عُرف بـ “الجهاد التضامني” في إشارة إلى ضرورة دعم المسلمين الأفغان في مواجهة القوات الروسية، وباتت أفغانستان بيئة خصبة تواجد فيها كافة منظري وقادة السلفية الجهادية العالمية من أمثال: عبد الله عزام – أسامة بن لادن – أيمن الظواهري – أبو محمد المقدسي – أبو قتادة الفلسطيني – أبو مصعب الزرقاوي – أبو مصعب السوري – وعبد القادر بن عبد العزيز.
والملاحظ في هذا الحراك الذي شهدته الأراضي الأفغانية أنه شهد تشكل أنماط جديدة من الفكر والعمل الإرهابي، وذلك مع التداخل الكبير الذي حدث بين الفكر الإخواني القطبي، ونظيره السلفي الجهادي، لكن المتغير الأهم الذي حملته هذه الحرب في ثناياها تمثل في كونها البيئة التي تشكل في كنفها التنظيم الإرهابي الأشهر حتى اللحظة وهو تنظيم القاعدة، والذي بدأت مظاهر تشكله في العام 1986، مع إنشاء أسامة بن لادن لجبهة خاصة بالمقاتلين العرب في منطقة “جاجي” بولاية بكتيا القريبة من الحدود الباكستانية، وقد كان “بن لادن” حريصاً في السنوات الأولى من عمر تنظيمه الوليد على إبقاء عمل التنظيم في إطار أفغانستان، مراعياً لمبدأ “الجهاد التضامني”، ومتحفظاً إلى حد كبير على أفكار “العدو القريب” و”عولمة الجهاد”، وهو تحفظ ورؤية يمكن فهمها في ضوء اعتبارين، الأول يرتبط بطبيعة العلاقات الجيدة التي كانت تربط “بن لادن” في ذلك الوقت بالدولة السعودية، والثاني مرتبط بالحرب الأهلية التي اندلعت في أفغانستان عقب جلاء القوات السوفييتية، ما كان يقتضي التركيز على دعم حركة طالبان، بمعنى أن هذه الرؤية كانت مرتبطة في تلك الفترة بحسابات وتقديرات سياسية لبن لادن، أكثر من كونها مبنية على رؤى فقهية وشرعية، وما يؤكد ذلك أن المنظر القاعدي البارز “أبو محمد المقدسي” كان قد أصدر في العام 1989، كتاباً بعنوان “الكواشف الجلية في كفر الدولة السعودية” ما عبر بشكل واضح عن موقف القاعدة من الدول العربية والإسلامية.
– الاحتلال العراقي للكويت (أغسطس 1990): كان قرار الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في أغسطس 1990 بغزو الكويت، نقطة تحول لافتة على مستوى الفكر السلفي الجهادي، وذلك في ضوء ما ترتب على هذه الخطوة من تداعيات جيوسياسية، على رأسها قرار المملكة العربية السعودية استدعاء قوات أمريكية على أراضيها لمواجهة حملة صدام حسين، الأمر الذي شن تنظيم القاعدة على إثره هجوماً حاداً على المملكة، بالتعاون مع ما عُرف بتيار الصحوة في السعودية، خصوصاً وأن “بن لادن” كان قد عرض على المملكة الاستعانة بمجموعات قتالية من تنظيم القاعدة لتحرير الكويت، الأمر الذي رفضته السعودية، ما أدى إلى حدوث صدام بين الجانبين بدأ في العام 1992 مع قرار السلطات السعودية بتجميد كافة الحسابات البنكية الخاصة بأسامة بن لادن، وصولاً إلى تجريده من الجنسية السعودية بقرار ملكي في مارس 1994، ليُعلن بن لادن بعدها عن رفضه لهذا القرار وتأسيس ما وصفه بـ “هيئة النصيحة والدفاع عن الحقوق الشرعية”.
وقد شكل هذا المنعطف التاريخي تحولاً مهماً على مستوى الفكر السلفي الجهادي، إذ أنه ساهم في علو أصوات منظري القاعدة الذين ينادون بأفكار مواجهة “العدو القريب” في إشارة إلى النظم السياسية التي تحكم الدول العربية والإسلامية وكذا المجموعات المتحالفة مع هذه النظم، بالتزامن مع “العدو البعيد” في إشارة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل والقوى الغربية، وتقليل الرهان في المقابل على فكرة “الجهاد التضامني” كما حدث في أفغانستان والبوسنة وغيرها، وعلى رأس هؤلاء المنظرين أبو محمد المقدسي، وأبو قتادة الفلسطيني، ومن هنا بدأ تنظيم القاعدة في العمل على بناء تشكيلات وهياكل خاصة به في العديد من الدول، كجزء من التحولات التي طرأت عليه في هذه الفترة.
– الاحتلال الأمريكي للعراق (مارس 2003): في أعقاب الغزو العراقي للكويت، وما حدث من استدعاء لقوات أمريكية في الجزيرة العربية، واستمرار هذه القوات في البقاء في مرحلة ما بعد تحرير الكويت، تحت ذريعة مراقبة النظام العراقي، إلى تصاعد منطقية الفرضية القائلة في ذلك الوقت بأن الولايات المتحدة تسعى إلى استغلال الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه انهيار الاتحاد السوفييتي، من أجل فرض واقع دولي جديد، يجعل منها القوة الإمبراطورية المهيمنة على المنظومة الدولية، وقد عبرت نظريات فرانسيس فوكوياما وصامويل هنتنغتون في ذلك الوقت عن هذه الرؤية بشكل واضح، كما أكد الاحتلال الأمريكي للعراق هذا التوجه الأمريكي.
في ثنايا ذلك بدأ تنظيم القاعدة في تبني تغييرات مهمة على مستوى أفكاره واستراتيجياته إذ بات الخطاب الأيديولوجي له موجهاً نحو مناهضة العولمة، والتحركات العملياتية له تقوم على فلسفة جهاد النكاية ضد العولمة العسكرية الأمريكية، وهو ما تجسد بشكل واضح في حالة العراق، حيث أصدر أسامة بن لادن في 11 فبراير 2003، أي قبل الاحتلال بنحو شهر، شريطاً مصوراً بعنوان “إلى أهل العراق بخاصة والمسلمين بعامة”، قال فيه إن “الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيين يسعون عبر العملية العسكرية المزمع تنفيذها في العراق إلى نهب ثروات المسلمين، وتنصيب حكومة عميلة تتبع واشنطن وتل أبيب”، وفي 16 فبراير 2003، نشر فيديو آخر تحت عنوان “إلى الأمة الإسلامية”، هاجم فيه الحكومات العربية واتهمها بالردة والتواطؤ مع الغرب، وعقب الاحتلال الأمريكي للعراق اعتبر أسامة بن لادن في ذلك الوقت أن “احتلال العراق جزء من حرب دينية اقتصادية يشنها الغرب للسيطرة على دول الخليج”، وحذر بن لادن من أن “سقوط العاصمة العراقية بغداد قد يكون توطئة لاحتلال القوات الأمريكية للسعودية أو لدول خليجية عربية أخرى”، داعياً المسلمين إلى “مواصلة الجهاد لصد المؤامرات الغربية التي تحاك ضدهم”.
ويعبر ما سبق بشكل واضح عن أن الاحتلال الأمريكي للعراق ساهم في تحول أيديولوجيا السلفية الجهادية العالمية نحو ضرورة دمج الأبعاد المحلية والعالمية في تحركاتهم العملياتية، لتُصبح تنظيمات وتشكيلات السلفية الجهادية تناهض الغرب والولايات المتحدة وإسرائيل، والأنظمة العربية والإسلامية، بل والمجموعات الموالية لهذه الأنظمة، عبر مجموعات إرهابية متمركزة في عدد من البلدان والمناطق.
تغزية الصراعات الهوياتية في العراق
منذ الإعلان في 9 أبريل 2003 عن احتلال بغداد وإسقاط الولايات المتحدة للرئيس الأسبق صدام حسين، عمدت واشنطن إلى بناء العملية السياسية الجديدة في العراق على أسس هوياتية وطائفية، حيث مكنت الولايات المتحدة الأكراد من إدارة إقليم شبه مستقل، ودعمت تعزيز النفوذ السياسي والاقتصادي والميداني للشيعة، بعد دعم مرجعياتهم الدينية للحملة الأمريكية، في مقابل تهميش السنة والتنكيل بهم، رداً على انخراطهم في نظام صدام حسين، ورفضهم الحملة الأمريكية، بمعنى أن النهج الأمريكي في مرحلة ما بعد السيطرة على بغداد كرس لأزمة طائفية ممتدة يعاني منها العراق حتى اللحظة الراهنة.
وكان من البديهي أن تدفع هذه المتغيرات باتجاه تمزق النسيج الوطني العراقي وصعود الصراعات الطائفية، خصوصاً مع تجريد الطائفة السنية من قوتها مع تحول السلطة في النظام الجديد نحو الشيعة برعاية ونفوذ إيراني، الأمر الذي غذى إحساس المجموعات السنية بالمظلومية والسخط على الولايات المتحدة وكذا النظام السياسي الجديد في العراق، وهي بيئة وفرت حاضنة أيديولوجية ونفسية مهمة استغلتها تنظيمات التطرف والعنف ذات الخلفية السنية، بدءاً من داعش، مروراً بالنسخة الأولى من تنظيم داعش والتي عُرفت وقتها بـ “الدولة الإسلامية”، وصولاً إلى النسخة الأكثر وحشية متمثلةً في داعش.
كان القيادي السلفي الجهادي الأبرز في ذلك الوقت المتواجد في العراق هو أبو مصعب الزرقاوي (من الأردن وينتمي إلى قبيلة بني حسين)، وبدأ “الزرقاوي” الذي لم يكن منضماً إلى تنظيم القاعدة في ذلك الوقت، في العمل على تشكيل شبكات ومجموعات مسلحة قوامها من السنة، ليُعلن في سبتمبر 2003 عن تأسيس تنظيم “التوحيد والجهاد”، وكان هذا التنظيم يركز على أولوية مواجهة المجموعات وفرق الموت الشيعية التي كانت تستهدف السنة، لكن “الزرقاوي” أعلن في 8 أكتوبر 2004 عن مبايعة أسامة بن لادن، ليتحول تنظيمه إلى “قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين”، وبعدها بعام واحد وبالتحديد في أكتوبر 2005، تم الإعلان عن تأسيس “مجلس شورى المجاهدين” وكان يقوده “الزرقاوي” وكان أحد التشكيلات المحسوبة على القاعدة، وعقب مقتل “الزرقاوي” في 7 يونيو 2006، تم الإعلان في 15 أكتوبر 2006 عن تأسيس “دولة العراق الإسلامية” بقيادة أبي عمر البغدادي، وعقب مقتل الأخير في 19 أبريل 2010 ومعه وزير الحرب في التنظيم أبو حمزة المهاجر، تولى أبو بكر البغدادي قيادة التنظيم، ليُعلن لاحقاً عقب السيطرة على الموصل في 10 يونيو 2014، عن قيام الخلافة المزعومة التي عُرفت بتنظيم داعش أو الدولة الإسلامية في العراق والشام.
والملاحظ للخطاب الدعائي والإعلامي لقادة السلفية الجهادية يجد أنهم لعبوا على الوتر الطائفي بشكل كبير، فعلى سبيل المثال كان أبو بكر البغدادي يصور نفسه في خطاباته على أنه “المدافع الوحيد عن أهل السنة، وصوت السنة العرب المستضعفين والمقهورين”، وهو الأمر الذي جعل العديد من القطاعات والمجموعات السنية التي تعاني بالفعل من وطأة التهميش والتنكيل، تنضم إلى تنظيم داعش على الرغم من أن الكثيرين منهم لا يعتنقون تحديداً نفس الأيديولوجيا المتطرفة، حتى أن بعض الدراسات والتقارير تحدثت عن أن بعض العشائر السنية كانوا عاملاً مهماً ورئيسياً في احتلال داعش للمثلث السني في العراق.
والحاصل أن الغزو الأمريكي للعراق، وما كرسه من سياسات طائفية وواقع هوياتي معقد وممتد، أدى إلى تشكل مجموعة من التنظيمات المسلحة العنيفة ذات الخلفية السنية، التي نتجت بشكل رئيسي كرد على سياسات التنكيل التي مورست بحق الطائفة السنية، وسعياً لمواجهة الإمبريالية الأمريكية بتجلياتها العسكرية.
هدم الدولة الوطنية العراقية
أحد الفرضيات الرئيسية التي باتت تعتمد عليها دراسات الإرهاب فيما يتعلق بفهم وتفسير نشوء وتشكل وانتشار تنظيمات العنف، تتمثل في الربط بين هذا التشكل والانتشار وبين غياب مفهوم الدولة الوطنية وما يقتضيه من وجود مؤسسات متماسكة وقوية، تفرض سلطتها على كافة المناطق الخاضعة لسلطات الحكومة، فكلما تصاعد حضور مفهوم الدولة الوطنية، كلما وفر ذلك مناعة ضد حضور وانتشار تنظيمات العنف والإرهاب.
في هذا السياق كان تفكيك مؤسسات الدولة العراقية، وحدوث انقسامات في الجيش العراقي، مع فرار بعض المجموعات والضباط وانضمامهم لتنظيمات إرهابية أو تشكيلات مسلحة شيعية، فضلاً عن الأزمات البنيوية التي عاشتها المؤسسة الأمنية العراقية، كان كل ذلك أحد الارتدادات الأساسية للغزو الأمريكي للعراق، وتُشير كافة المعطيات إلى أن حكومة نور المالكي التي تولت مقاليد الحكم من مايو 2006 وحتى سبتمبر 2014، فشلت إلى حد كبير في إعادة بناء مؤسسات الدولة، وتحسين الظروف والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، ومواجهة الفساد، وبناء هوية وطنية جامعة، في مواجهة تصاعد الهويات الطائفية الضيقة، بل إن هذه الحكومة التي كانت مدعومة بشكل كبير من إيران، ساهمت عبر سياساتها ونهجها الطائفي في دعم تطرف المجموعات الشيعية، الأمر الذي دعم حضور تنظيمات العنف ذات الخلفية الإسلامية السنية.
وقد دعمت هذه السياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية مشروع تنظيمات التطرف والإرهاب في العراق، خصوصاً مع توفر حواضن اجتماعية ملائمة لاستقطاب وتجنيد عناصر جديدة، من الفئات المهمشة سياسياً واقتصادياً، أو تلك التي تعاني من وطأة الحسابات الطائفية الجديدة في العراق في مرحلة ما بعد الغزو، الأمر الذي دفع تنظيم داعش على سبيل المثال إلى تقديم نفسه على أنه دولة بديلة للدولة العراقية التي عانت من فشل كبير على كافة المستويات، ومن هنا يمكن فهم حرص التنظيم في مرحلة سيطرته على مساحات واسعة من العراق وسوريا، على تأسيس بناء هيكلي وجهاز بيروقراطي متماسك، كجزء من مساعيه تغيير الصورة الذهنية عنه من “تنظيم راديكالي مسلح” إلى “دولة”.
في الختام
يمكن القول إن الاحتلال الأمريكي للعراق، بما حمله من تداعيات على مستوى التأكيد على فكرة “الإمبريالية العسكرية الأمريكية”، ودعم وتغذية الصراعات الهوياتية والعرقية، وهدمه لمفهوم الدولة الوطنية، ساهم بشكل كبير في تطور السلفية الجهادية على المستوى الفكري والأيديولوجي والحركي، إلى الحد الذي تمخض عنه النسخة الأكثر وحشية من هذا الفكر متمثلةً في تنظيم داعش، الأمر الذي يزيد من الحاجة إلى الوقوف على حدود وطبيعة الدور الذي تلعبه سياسات القوى الكبرى، والمتغيرات الدولية المهمة، في تشكيل وتطوير ظاهرة الإرهاب، خصوصاً في ظل الطابع “المعولم” الذي باتت تتمتع به ظاهرة الإرهاب.