
مراكز الإصلاح والتأهيل: تخلٍ عن فكر العقاب وتبنٍ لفلسفة التقويم
أعلنت وزارة الداخلية المصرية في يوم 21 مارس الجاري عن افتتاح المرحلة الثانية من منظومة مراكز الإصلاح والتأهيل، والتي تضمنت بدء الأعمال بثلاثة مراكز جديدة، وهي مركز العاشر من رمضان ومركز 15 مايو ومركز إخميم الجديدة، ويأتي هذا الإعلان بعد مرور أقل من خمسة عشر شهرًا على افتتاح المرحلة الأولى من المنظومة والتي شملت مركزي الإصلاح والتأهيل بوادي النطرون وبدر، وهو ما يعيد التأكيد على إصرار وعزم الدولة المصرية على إصلاح المنظومة العقابية، بما يتماشى مع ما تنص عليه القوانين المحلية والدولية المهتمة بحفظ حقوق المذنبين أيًا كانت آثامهم، أملًا في تهذيب وإصلاح سلوكهم وسعيًا لإعادة تأهيلهم وتطوير قدراتهم، حتى يعودوا إلى مجتمعاتهم المحلية كأعضاء فاعلين ومنتجين لا مخربين ومجرمين.
تشريعات مُلزمة
نصت المادة 51 من الدستور المصري الصادر في عام 2014 والمعدل في عام 2019، على حق كل إنسان في الكرامة التي لا يجوز المساس بها، كذلك ألزمت الدولة المصرية نفسها باحترامها وحمايتها، فيما أشارت المادة 55 من الدستور بشكل واضح ومباشر إلى حق كل شخص تُقيد حريته في الحصول على المعاملة التي تحفظ كرامته، ومنعت ذات المادة كافة أشكال التعذيب والترهيب والإيذاء ضده، وأشارت إلى ضرورة احتجازه في الأماكن اللائقة إنسانيًا وصحيًا، ولقد تبعت المادتان السابقتان مادة أخرى تحمل رقم 56، وهي التي حددت دور السجون على أنها دور للإصلاح والتأهيل، والتي يحظر فيها كل عمل ينافي كرامة الإنسان أو يعرض صحته للخطر.
ولقد جاءت القوانين العامة لتطبق ما نصت عليه مواد الدستور السالف ذكرها، ومنها على سبيل المثال القانون رقم 14 لسنة 2022، والذي حمل تعديلات على بعض أحكام القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون، حيث ألزم القانون رقم 14 في المادة الأولى منه جهات الحكومة المصرية بتنفيذ العقوبات المقيدة للحرية في مراكز الإصلاح والتأهيل، وذلك لكي تقوم تلك الأخيرة برعاية وتأهيل المحكوم عليهم اجتماعيًا وثقافيًا، ونصت المادة 31 من ذات القانون على دور مراكز الإصلاح والتأهيل في تشجيع نزلائها على الاطلاع والتعلم والاستذكار، فيما أبقى المشرع على العديد من المواد القديمة التي صدرت ضمن قانون 396، والتي ضمنت لنزلاء المؤسسات الإصلاحية حقوقهم في العلاج، والعبادة، والتواصل مع العالم الخارجي، والتقدم بالشكاوى للجهات الرسمية، والحصول على الإفراج المشروط.
وحرصت الدولة المصرية أيضًا على أن تتماشى مختلف التشريعات والقوانين المحلية الصادرة في شأن رعاية الأشخاص المُقيدة حريتهم مع القواعد الدينية للعقائد السماوية، وأيضًا القوانين والأعراف الدولية المتبعة في ملفي حقوق الإنسان وحقوق السجناء، ومنها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر عام 1948، وقواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء للعام 1955، أو المعروفة مجازًا باسم قواعد نيلسون مانديلا، وذلك لضمان أكبر قدرًا من الحقوق لنزلاء المؤسسات الإصلاحية، وهو ما سيسهم بدوره في تسريع عملية تطويرهم نفسيًا وعقليًا وجسديًا، كذلك سعت أجهزة الدولة المصرية إلى وضع عملية تطوير حقوق الأشخاص المُقيدة حريتهم على قائمة أولوياتها، وذلك من خلال إدراجها كبند من البنود السبعة والعشرين للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان.
مؤسسات عقابية متقادمة
تبنت الدولة المصرية خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر، سياسة تطويرية هدفها إنشاء مؤسسات عقابية على النمط الحديث، أسوة بما كان معمولًا به في دول الغرب وفي مقدمتها المملكة المتحدة، لهذا شيدت خلال الفترة من عام 1890 وحتى عام 1930 حوالي 20 سجنًا – أنظر الجدول التالي- وكانت هذه السجون موزعة على أغلب مديريات القطر المصري، وكان يراعي اختيار مواقع تلك السجون الجديدة بالمناطق المفتوحة والبعيدة نسبيًا عن العمران سواء كانت صحراوية أو زراعية، وذلك لضمان دخول الهواء النقي وأشعة الشمس إلى الزنزانات، فضلًا عن تقليل فرص إصابة المسجونين بالأوبئة والأمراض المعدية، التي كانت كثيرًا ما تنتشر بين سكان المدن والريف في هذا الزمان، كذلك حرصت الأجهزة المختصة على تدعيم تلك السجون بكافة المرافق اللوجيستية اللازمة لإعاشة ورعاية وعلاج المسجونين، كالمطابخ ومغاسل الملابس والمستشفيات الصغيرة والورش الإنتاجية ودورات المياه، مما جعل من هذه السجون نموذجًا إقليميًا يحتذى به في العمل العقابي.
أبرز السجون العمومية التاريخية في مصر وتاريخ تشييدها
اسم السجن | تاريخ الإنشاء |
ليمان طرة | 1896 |
ليمان ابي زعبل | 1896 |
سجن الاستئناف | 1901 |
سجن القاهرة العمومي ” قرة ميدان “ | 1901 |
سجن طنطا العمومي | 1901 |
سجن الإسكندرية العمومي | 1901 |
سجن الرجال بالقناطر | 1901 |
سجن أسيوط العمومي | 1901 |
سجن قنا العمومي | 1901 |
سجن دمنهور العمومي | 1908 |
سجن بنها العمومي | 1910 |
سجن المنيا العمومي | 1912 |
سجن شبين الكوم العمومي | 1926 |
سجن المزرعة بطره | 1928 |
سجن الزقازيق العمومي | غير محدد |
لكن الأمر لم يستمر على ذات المنوال خلال العقود اللاحقة، حيث بدأت الكثير من التحديات في إحاطة تلك المؤسسات العقابية التاريخية، فمساحة السجون ظلت ثابتة ولم تتوسع على الرغم من زيادة التعداد العام للمواطنين وما تبعه من ارتفاع طبيعي في أعداد الجرائم والمدانين، هذا ما أدى إلى وجود حالات من التكدس الداخلي بكل سجن عمومي أو ليمان، وكذلك تسبب الزحف العمراني العشوائي حول السجون العمومية في حرمان تلك المؤسسات العقابية من ميزاتها الصحية، والمتمثلة في تردد تيارات الهواء النقي ودخول أشعة الشمس، علاوة على إحداث خروقات أمنية خطيرة عائدة إلى ملاصقة المباني السكنية للسجون القديمة، إذ تكررت حالات الهروب بين المسجونين بمختلف السجون العمومية تقريبًا، والتي كان من بينها حادث الهروب الشهير لثلاثة من المحكوم عليهم بالإعدام من سجن طنطا العمومي في يناير من عام 2021، وذلك بعد هربهم من أعلى سور السجن باتجاه إحدى الحارات السكنية المجاورة.
الحكومات المتعاقبة حاولت تدارك أزمات السجون المصرية، لكن تحركاتها كانت دائمًا ما تتأخر بخطوات عن الاحتياج الفعلي، فعدد قليل من السجون التاريخية هي ما تم التخلي عنها مثل سجن القاهرة العمومي – قرة ميدان – في حين أبقت الجهات المختصة على باقي السجون العمومية والليمانات القديمة، التي لم تعد تتماشى إمكاناتها مع التطورات المستمرة في مجال العمل العقابي، وتم تشييد عدد آخر من السجون العمومية أو أضيفت عنابر جديدة للسجون القائمة على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، بهدف استيعاب الزيادات في أعداد المسجونين، لكن تلك الجهود لم تؤد إلى استقرار وهدوء أزمة السجون، وهو ما دفع الحكومة المصرية إلى وضع خطة في مطلع التسعينيات لتشييد مجموعة من السجون الجديدة، سعيًا لتخفيف وطأة تلك الأزمة، ومنها على سبيل المثال سجن القطا، وسجن طرة شديد الحراسة، وليمان 440 بوادي النطرون، وسجن الفيوم – دمو –، وسجن برج العرب، وهو ما رفع إجمالي عدد السجون العمومية لأكثر من أربعين سجنًا وليمانًأ.
منظومة من المؤسسات الإصلاحية
ارتأت الدولة المصرية منذ عام 2014 ضرورة إحداث تغير شامل للمنظومة العقابية القديمة القائمة على السجون العمومية والليمانات، لذلك وضعت الأجهزة المختصة خطة متكاملة لإغلاق السجون التاريخية غير صالحة للعمل العقابي، واستبدالها بمراكز إصلاح وتأهيل متطورة، فضلًا عن الارتقاء بمستوى السجون العمومية المنشأة حديثًا، ودعمها بالمزيد من المرافق الخدمية والإنتاجية، حتى تتناسب مع فلسفة تقويم المذنبين التي بدأت الأجهزة المختصة في تبنيها منذ عام 2021، ولقد كانت البداية بتدشين أعمال مركزي الإصلاح والتأهيل بمنطقة وادي النطرون ومدينة بدر في شهر أكتوبر 2021، وتبعها المراكز الثلاث الجديدة بإخميم الجديدة والعاشر من رمضان و15 مايو.
واشتملت تصميمات تلك المراكز على عنابر الإيواء التي تم إنشاؤها وفق اشتراطات هندسية تتماثل مع ما هو متبع في الدول المتقدمة، بالإضافة إلى مراكز طبية متطورة تضم مختلف التخصصات العلاجية، ومراكز للعلاج والرعاية النفسية وعلاج الإدمان، ومراكز للتدريب المهني، ومناطق صناعية متكاملة تحتوي على مجموعة من المصانع والورش الإنتاجية، ومناطق للزراعة وتربية الماشية والدواجن، ومحطات لتنقية المياه ومعالجة الصرف، بالإضافة إلى مكتبات للقراءة والاضطلاع، وفصول وقاعات لدراسة والمذاكرة، ومساجد وكنائس للعبادة، وملاعب لممارسة الرياضة، علاوة على دور الحضانة المتطورة والتي تتمثل مهمتها في رعاية أطفال النزيلات الحاضنات.
ولضبط المنظومة بشكل متكامل، قامت الحكومة المصرية ممثلة في وزارة العدل بتشييد عدد من المحاكم ومقار النيابات بالقرب من هذه المراكز الإصلاحية، وذلك لتسهيل عملية انتقال المحتجزين على ذمة القضايا أو المدانين، وقام مجلس النواب في مارس من العام الماضي بإقرار عدد من التعديلات على قانون السجون رقم 396 لسنة 1956، وذلك لتأصيل فلسفة التقويم لدي مؤسسات الإصلاح العاملة حاليًا أو المتوقع تشييدها مستقبلًا، في إطار المرحلة الثالثة المنتظر تدشين أعمالها ضمن منظومة مؤسسات الإصلاح والتأهيل الجديدة.
تطويرات مطروحة
لا تزل التجربة المصرية في مجال الإصلاح والتأهيل في مراحلها الأولى، وهو ما يفتح الباب أمام المزيد من التعديلات والإضافات على منظومة عمل المؤسسات العقابية، فمثلًا قد يكون من المفيد أن ينخرط قطاع الحماية المجتمعية التابع لوزارة الداخلية، في مشروعات مشتركة مع مؤسسات الدولة المصرية سواء الحكومية أو مؤسسات العمل الأهلي، بهدف إطلاق حملات توعية لتغيير الصورة الذهنية النمطية عن خريجي مراكز الإصلاح والتأهيل، فهم ليسوا – رد سجون – وفق ما تعارف المجتمع على تسميتهم، لكنهم تحولوا أثناء تواجدهم في تلك المراكز إلى مواطنين صالحين ومنتجين ومتعلمين.
كذلك يمكن للحكومة المصرية، أن تعيد إطلاق التقارير السنوية المنشورة عن المؤسسات الإصلاحية بعموم الجمهورية، والتي توقف إصدارها أواخر سبعينيات القرن الماضي، حيث يمكن لمثل هذه التقارير أن تساهم في توضيح حجم النجاح الذي تحققه مراكز الإصلاح والتأهيل في تعديل سلوك نزلائها وإصلاحهم وما يتبع ذلك على مستوى المجتمع ككل، وهو ما يعزز من ثقة الرأي العام المصري في منظومة مراكز الإصلاح والتأهيل، ويساهم أيضًا في توعية المؤسسات الحقوقية المحلية والدولية بحجم المجهودات التي تبذلها الدولة المصرية لضمان كرامة وحق النزلاء.
وقد يكون من المفيد أن تقوم الأجهزة المختصة بعقد شراكات مع عدد من الجهات المحلية والدولية، بهدف الاستفادة من خبراتهم في تحويل مراكز الإصلاح والتأهيل إلى كيانات تسعى لتطبيق أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أطلقتها الأمم المتحدة عام 2015، بالإضافة إلى المشاركة في صيانة وتنمية البيئة المحيطة من خلال استخدام مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة، وتدوير المخلفات الناتجة عن كل مؤسسة إصلاحية، وهو ما يقلل الأثر الكربوني لها إلى حدوده الدنيا.
وفي الختام يمكننا الإجمال، أن الدولة المصرية تسير بخطوات ثابتة لتحويل أزمة المؤسسات العقابية إلى فرصة لإصلاح وتقويم المذنبين على اختلاف آثامهم، وهو ما سينعكس على حالة الأمن العام للدولة المصرية على المديين المتوسط والطويل، لتكون مصر بذلك من الدول السباقة في المنطقة، التي تتبنى فلسفة التقويم عوضًا عن سياسات العقاب المجحفة التي تضر بالمجتمع -وإن كان بشكل غير مباشر- أكثر من أن تفيده.
قائمة المراجع المستخدمة:
- الدستور المصري لعام 2014 والمعدل عام 2019.
- القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون.
- القانون رقم 14 لسنة 2022، الصادر لتعديل بعض أحكام القانون رقم 396 لسنة 1956 في شأن تنظيم السجون.
- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لعام 1948.
- قواعد الأمم المتحدة النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء لعام 1955 “قواعد نيلسون مانديلا”.
- حقوق وواجبات السجناء والمعتقلين في المواثيق الدولية والاتفاقات الدولية المماثلة، باهي شريف أبو حصوة، مجلة البحوث القانونية والاقتصادية، الجزء الأول، العدد 51، كلية الحقوق، جامعة المنوفية، مايو 2020.
- نظام السجون في مصر وحقوق المسجونين على ضوء قوانين ولوائح السجون والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، عبد الله خليل، جهة النشر غير معلومة، القاهرة، 2005.