
أثار التقرير الصادر عن القناة الأمريكية ” CNN” خلال أغسطس 2022، الجدل حول التورط الروسي ومن ورائه نشاط الشركة العسكرية الروسية “فاجنر” في تهريب ذهب السودان إلى روسيا، فضلًا عن الربط بين نشاط فاجنر في دارفور وتصاعد عدم الاستقرار في السودان؛ على نحو محفز للدفع بالخرطوم إلى دائرة الاستقطاب والتنافس الروسي الغربي في إفريقيا.
وبعيدًا عن صراع النفوذ، لا يمكن إنكار الجوانب السلبية للنشاط الذي تقوم به فاجنر في السودان ودول جوارها الإقليمي، على نحو يراكم مداخل عدم الاستقرار واستنزاف الموارد لقاء توفير الأمن للحكومات. ووفقًا لبعض التقديرات تنتشر فاجنر في 18 دولة إفريقية، ويلقي هذا التقرير الضوء على نماذج دول الجوار للسودان في كل من إفريقيا الوسطى وتشاد وأخيرًا ليبيا.
تحدي عزلة السودان
تزامن بداية نشاط فاجنر في إفريقيا عام 2017 مع بدء نشاطها في السودان في ذات العام، وذلك بعد اجتماع وقتها جمع الرئيس السوداني السابق عمر البشير مع الرئيس الروسي في منتجع سوتشي الساحلي، مع تنامي مخاوف البشير من فقدان قبضته الأمنية على البلاد. ووفقًا للأخبار المتداولة عن اللقاء؛ اقترح البشير حينها على الرئيس فلاديمير بوتين، أن يكون السودان مفتاح روسيا لإفريقيا لقاء المساعدات في ظل عزلته الدولية. وخلال اللقاء وقعا على اتفاقات بشأن التنقيب عن الذهب وبناء قاعدة بحرية على البحر الأحمر. ومن المفترض أن فاجنر نشرت 500 فرد لإخماد انتفاضة ضد البشير خلال عام 2017، مقابل الحصول على تراخيص الذهب.
خلال العام الماضي، اشتكى عمال المناجم الحرفية في المناطق الحدودية الخارجة عن القانون والمليئة بالثغرات بين السودان وإفريقيا الوسطى في منطقة أم داغا الشمالية الشرقية والحدود، من سلسلة من الهجمات المتتالية للمرتزقة الروس لنهب تجارة الذهب، إذ لقي العشرات من العمال حتفهم في ثلاث هجمات كبرى على مدار العام الماضي في 13 مارس و15 إبريل و24 مايو، من خلال هجوم المرتزقة على مخيمات العمال الذين سرقت معداتهم ودمرت أبنيتهم، في مناطق متعددة بما في ذلك منطقة جبل النار على بعد 50 ميلًا غرب الحدود مع إفريقيا الوسطى. وأكد كافة الشهود عن قيام جنود روس قادمين من جهة إفريقيا الوسطى بهذه الهجمات، التي اعتبرت هجمات للنهب وليست جهودًا لتأمين واستخراج المعادن.
ورغم الشكوك التي تثيرها التقارير الدولية حول حصول الشركة على امتيازات للتعدين على الذهب والماس، وما كشفته عدد من الصحف الأمريكية عن نفوذ فاجنر في السودان ونشاطها في تهريب الذهب، إلا أن السلطات السودانية نفت في مارس 2022، أي ارتباط لأفرادها بفاجنر أو وجود أي نشاط لهم على الأراضي السودانية.
وقد وجهت المنسقة العامة للنازحين واللاجئين السودانيين، اتهامات لقوات الدعم السريع ومرتزقة فاجنر بممارسة أنشطة التعدين عن الذهب في مناطق النزوح بدارفور، وأدت في نهاية الأمر لفرار النازحين إلى معسكر طور بزالنجي في وسط دارفور.
توظيف عدم استقرار إفريقيا الوسطى
وصلت فاجنر إلى إفريقيا الوسطى عام 2017 وفقًا لطلب الرئيس فوستين أرشانج تواديرا الدعم في مواجهة المتمردين، إذ تم استقبال 400 مدرب من فاجنر في بداية الأمر إلى أن وصل عددهم قبل الحرب الروسية حوالي 3000 فرد وفقًا لبعض التقديرات، إذ تعزز الحضور الروسي في البلاد في أعقاب رفع الحظر عن الأسلحة عن إفريقيا الوسطى عام 2018.
وقد تزامن وصول فاجنر إلى إفريقيا الوسطى، مع حصول شركة مرتبطة برجل أعمال روسي “يفغيني بريغوزين” المقرب من الرئيس الروسي على تراخيص للتعدين والذهب. ويواجه انتشار فاجنر في البلاد حالة من الجدل بين قادة الجيش، ما بين من يرى أهميتها لتقديم الدعم والتدريب، ومن ينظر لها بشكل سلبي كمزعزع للاستقرار، فضلًا عن تحكمها في القرار السياسي في البلاد.
وتقوم القوات المرتزقة بممارسات عنيفة تجاه السكان المحليين، إذ تقوم بابتزازهم للاستفادة من صناعة الماس، فضلًا عن جرائم الانتهاكات الإنسانية التي تشمل الاغتصاب والقتل الجماعي. ومثلما يحدث في السودان، تقوم القوات المرتزقة بمهاجمة السكان المحليين في مناطق تعدين الذهب بالقرب من الحدود مع السودان.
استغلال الانتقال المرتبك في تشاد
على خلاف الترحاب بالتعاون مع فاجنر من قبل القادة في عدد من الدول الإفريقية، لا تزال الحكومة الانتقالية في تشاد تنظر إلى نشاط فاجنر باعتباره مهددًا للأمن والاستقرار الإقليمي، فضلًا عن الربط بين نشاط فاجنر في الجنوب الليبي الذي ساعد القوات التشادية المتمردة التي اغتالت الرئيس الراحل إدريس ديبي. ومن هذا التصور فكانت تشاد واحدة من دول الساحل الرافضة للتعاون المالي مع فاجنر على حساب الحضور الفرنسي.
وعلى هامش لقاءات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2021، حذّر وزير خارجية تشاد شريف محمد زين، من وجود المرتزقة الروس في كل من ليبيا وإفريقيا الوسطى، مضيفًا اتخاذ تشاد كافة الوسائل اللازمة لحماية أمنها، وكشف زين حينها عن تلقي القوات المتمردة التي قتلت الرئيس ديبي تدريبًا على أيدي القوات المرتزقة. وفي يناير 2023، أعاد وزير التخطيط العمراني التشادي محمد السليك حلاتة، التأكيد على التهديد الذي يمثله وجود المرتزقة الروس في كل من إفريقيا الوسطى وليبيا
وهناك تقارير تفيد برصد اتصال هاتفي بين رئيس “اتحاد قوى المقاومة” تيمان أرديمي ومسؤول في إفريقيا الوسطى، لطلب دعم فاجنر في إسقاط حكومة تشاد، وفي هذا السياق، كشفت صحيفة وول ستريت الأمريكية في 23 يناير 2023، تسريبات مفادها أن وكالة المخابرات الأمريكية أخبرت الرئيس التشادي الانتقالي محمد إدريس ديبي، بمحاولات الإطاحة بحكمه من جهات معارضة وإقليمية مستهدفة حكمه ومدعومة من قوات فاجنر بإفريقيا الوسطى. وفي يناير الماضي، أبلغ السفير الأمريكي في أنجامينا ديبي، بالخطر المحيط به والدعم المعروض على المسلحين التشاديين من قبل عناصر فاجنر المتواجدين بإفريقيا الوسطى.
تعميق الانقسام في ليبيا
وفي ليبيا تفيد التقارير، بمساهمة نشاط فاجنر في تعميق الانقسام والاقتتال بين الأطراف المتناحرة على نحو يؤرق جهود الوساطة الدولية، حيث بات خروج فاجنر من المشهد واحدًا من الأهداف التي تسعى القوى الغربية إلى دمجها في جهود تسوية الأزمة.
وتشير التقارير إلى تضمن المحادثات الأخيرة التي أجراها مدير وكالة المخابرات المركزية وليام بيرنز، نشاط فاجنر في ليبيا. وفي ذات السياق، دعا عبد الله باتيلي الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، كل من السودان وتشاد النجير لدعم بعثة الأمم المتحدة واللجنة العسكرية المشتركة (5+5) في ليبيا، من أجل تنفيذ خطة العمل المتعلقة بانسحاب المقاتلين والمرتزقة المنتمين لتلك البلدان، وهو الأمر الذي يتضمن بالطبع مواجهة أي نشاط أو سياق يسمح باستمرار نشاط فاجنر في المنطقة.
وهناك أخبار عن اتصالات غربية وخاصة إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، بعدد من الدول الإقليمية المهتمة بالملف الليبي للتباحث حول نشاط فاجنر في ليبيا، باعتباره معرقل لمساعي السلام وجهود توحيد الجيش في ليبيا؛ إذ اعتمدت الفصائل المتصارعة في شرق البلاد وغربها في صراعها الممتد ما بين عامي 2014 و2020، على مقاتلين من دول إفريقية مجاورة وعناصر من مرتزقة فاجنر، ولا تزال الشواهد تفيد باستمرارهم بما يخالف اتفاق وقف إطلاق النار 2020، وما ترتب عليه من تشكيل لجنة عسكرية مشتركة (5+5).
مواجهة نشاط فاجنر بإفريقيا
تفيد التقارير وشهود عيان بنشر الولايات المتحدة لجنود من القوات الخاصة في بانجي، عاصمة إفريقيا الوسطى لطرد قوات فاجنر. وقد عرضت واشنطن على بانغي تدريب جيشها وزيادة المساعدات الإنسانية مقابل طرد المرتزقة الروس، ضمن مبادرة استراتيجية أمريكية لإخلاء إفريقيا من المرتزقة الروس التي كشفت عنها في يناير الماضي. وهناك تقارير تفيد بإرسال الإدارة الأمريكية في منتصف ديسمبر 2022، مذكرة لرئيس إفريقيا الوسطى تشرح له الفوائد المفترض أن تحل على بلاده من إنهاء التعاون مع الجماعة شبه العسكرية الروسية مقابل الحصول على الدعم الأمريكي. وقد تحرك الاتحاد الأوروبي على نحوٍ مماثل لمحاضرة النفوذ الروسي في إفريقيا، من خلال فرض عقوبات على فاجنر وأشخاص تابعين لها، نظرًا لأنشطتهم المزعزعة للاستقرار، خاصة وأن الاستراتيجية الأخيرة للناتو اعتبرت النشاط الروسي في إفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقي أحد مهددات الأمن للجنوب الأوروبي.
وعلى النطاق الإقليمي، هناك مساعٍ سودانية تشادية لضبط الحدود فيما بينهما، فخلال زيارته لتشاد في 30 يناير 2023، بحث رئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان مع الرئيس الانتقالي لتشاد، المخاوف بشأن نشاط قوات فاجنر من خلال الاتفاق على تكثيف الجهود على حدود البلدين مع إفريقيا الوسطى، عبر تفعيل القوات المشتركة الحدودية بين الدول الثلاث. وترتبط هذه المساعي بالضغط الغربي على القادة الأفارقة لإنهاء التعاون مع عناصر فاجنر.
ورغم ما يمثله نشاط فاجنر من تهديد للأمن الإقليمي، فإن القادة الأفارقة ينظرون إلى فاجنر ومن ورائها الحضور الروسي في إفريقيا، بديلًا مقبولًا عن فشل المقاربات الغربية لإحلال السلام في بلدانهم التي تعاني من الصراعات المسلحة وتنامي التهديدات الإرهابية.
ويعد الانسحاب التدريجي لوحدات حفظ السلام الدولية، إشارة إلى فشل المنظومة الأممية في إرساء السلام في القارة، على نحو دفع عدد من القادة الأفارقة للترحيب بالبديل الروسي للمساعدة في إحلال الأمن، وقد اتضح هذا جليًا في نموذج مالي الذي بدأ في الانفتاح على التعاون الأمني مع روسيا في أواخر عام 2021 ومطالبة فرنسا بالانسحاب، مما فتح الباب أمام تخفيض مشاركة القوات الدولية في البعثة الأممية الموجودة بالبلاد.
وقد تكرر النموذج السابق مع بوركينافاسو مؤخرًا، ومن قبلهما إفريقيا الوسطى التي اعتمد رئيسها في تثبيت أركان حكمه على الدعم المقدم من عناصر فاجنر، في الوقت الذي تفشل فيه – تقريبًا- كافة التدخلات الغربية والدولية في إحلال السلام، والتي غالبًا ما يؤثر في أدائها تضارب المصالح للدول الشريكة في تكوين هيكل القوة، إلى جانب عوامل أخرى متعددة؛ من بينها الجهل بمحركات الصراع المحلي وتوازنات القوى المجتمعية، على نحو يقوض من جهود السلام، بل يدفع بالقوات الدولية في مرمى الصرع؛ إما منحازة لطرف على آخر أو عرضة هي الأخرى لاستهداف جنودها من الأطراف الرافضة لوجودها، مما يجعل الفشل حليفها في نهاية الأمر.
وإذا كانت الجهود الغربية لمواجهة تحدي الانتشار العسكري للشركات الخاصة والمقاتلين الأجانب تتخذ بعدًا من أبعاد التنافس الدولي، بغض الطرف عن البعد الأمني المتمثل في التحدي الأمني للدول الإفريقية، فلا يجب إغفال الجهود الإفريقية لمواجهة مثل هذه التحديات.
ولعل المساعي الإقليمية لدول جوار ليبيا في إخراج المقاتلين الأجانب، ترتبط بدور إفريقي أكبر في مواجهة تلك الظاهرة وتداعياتها على الأمن والسلم الإفريقي. وقد حازت هذه القضية على اهتمام قمة الاتحاد الإفريقي للعام الماضي 2022، الذي ناقش جدول أعماله ظاهرة الشركات العسكرية الخاصة والمقاتلين الأجانب، فضلًا عن إفراد قمة استثنائية للاتحاد في مايو من نفس العام في مالابو، سلطت الضوء على الجهود الإفريقية في مواجهة تنامي ظاهرة التغييرات غير الدستورية، وما يرتبط بها من ظواهر عدم الاستقرار الأمني والمقاتلين الأجانب.
باحثة ببرنامج العلاقات الدولية