مكافحة الإرهاب

استغلال الأزمات: كيف عمل تنظيم داعش على الاستفادة من زلزال سوريا؟

سعى تنظيم داعش -وفي إطار ما يوصف لدى بعض الدوائر بـ “فقه استغلال الأزمات”- إلى توظيف الزلزال المروع الذي ضرب الأراضي السورية إلى جانب تركيا بما يخدم مساعيه الرامية إلى استعادة نفوذه ونشاطه في الجغرافيا السورية. وقد تعددت أنماط تعاطي التنظيم مع تداعيات الحادث، بين الترويج لسردياته المتطرفة في قراءته للزلزال، مرورًا بتعزيز المعدل العملياتي الخاص به، ووصولًا إلى السعي إلى تفعيل “استراتيجية كسر الأسوار” وتحرك بعض عناصره من أجل الفرار من السجون، مستغلًا في ذلك التداعيات الكارثية للزلزال، وحالة الاضطراب التي سادت الأراضي السورية عقب الحادث، ويعد هذا النمط سمة رئيسة من سمات التنظيم الذي نشأ بالأساس على واقع استغلال أزمات بنيوية عميقة عانت منها بعض الدول العربية في السنوات الماضية، خصوصًا في مرحلة ما بعد ما عُرف بـ “الربيع العربي”.

الترويج لسرديات التنظيم المتطرفة  

كان الترويج لسرديات التنظيم المتطرفة على رأس الآليات التي تعامل بها داعش مع حادث الزلزال الأخير، فقد خصص التنظيم المقال الافتتاحي للعدد 377 من صحيفته الأسبوعية النبأ لهذا الهدف، وعنون المقال بـ “وما نُرسل بالآيات إلا تخويفًا”، وادعى التنظيم أن “هذا الزلزال يمثل عقابًا إلهيًا للناس في سوريا، لإعراضهم عنه”.

ويغلب على تعاطي تنظيم داعش مع كافة الوقائع والأحداث المهمة الجمع بين محاولة الترويج لسرديات متطرفة تحاول “شرعنة” نهجه، وترجمة هذه السرديات إلى واقع حركي، وفي هذا السياق لا تخرج القراءة الداعشية لحادث الزلزال عن إطار الأفكار السلفية الجهادية المؤسسة له، وهي الأفكار التي تربط النكبات والأزمات التي تتعرض لها الشعوب العربية والإسلامية بما في ذلك الكوارث الطبيعية بما يُعرف في قاموس الحركات المتطرفة بـ “جاهلية المجتمعات”، و”الفريضة الغائبة”، في إشارة إلى “ردة” هذه المجتمعات وابتعادها عن تبني العنف المسلح كأداة للتغيير وتحقيق “الحاكمية”، وهو ما تجسد في ادعاء التنظيم بأن الزلزال الأخير يمثل “عقابًا إلهيًا”. وبشكل عام لا تخرج مقاربات التنظيم وقراءاته النظرية للأحداث عن محاولاته لـ “شرعنة التوحش” وتغليف أعماله الإرهابية بإطار شرعي وفقهي.

سعي إلى تعزيز المعدل العملياتي

كان للزلزال الأخير ارتدادات عنيفة على الجغرافيا السورية، فقد سادت حالة من الاضطراب زادت من معدلات الهشاشة الأمنية، إلى الحد الذي دفع بعض الدوائر البحثية إلى اعتبار أن الزلزال سيمثل نقطة تحول في المشهد الأمني السوري، ويمكن بيان أوجه استغلال تنظيم داعش للزلزال على المستوى العملياتي على النحو التالي:

1- مجزرة مروعة في ريف حمص: ارتكب تنظيم داعش مجزرة مروعة في ريف حمص الشرقي يوم 12 فبراير الجاري، بقتله عشرات السوريين من جامعي نبات “الكمأة” الذي يعد من الأدوات الاقتصادية المهمة التي يعتمد عليها السوريون، مستغلًا انشغال السلطات بآثار الزلزال. ووفقًا لتقديرات المرصد السوري لحقوق الإنسان، فإن الهجوم الداعشي أدى إلى مقتل 53 شخصًا، من بينهم 46 مواطنًا و7 عناصر من قوات الجيش السوري أحدهم ضابط، فضلًا عن إصابة العديد من الأشخاص جراء الهجوم، وقام التنظيم كذلك بحرق سيارات السوريين الذين كانوا في موقع الحادث.

2- إعدام بعض المخطوفين: في 15 فبراير الجاري، أعلن المرصد السوري لحقوق الإنسان أن تنظيم داعش أعدم 12 شخصًا في بادية تدمر، وذكر المرصد أن هؤلاء الأشخاص كانوا من بين عشرات اختطفهم التنظيم من ريف حمص، في تعبير واضح عن سعي التنظيم إلى تنويع أنماط “ترهيبه” بين شن عمليات منظمة وعمليات اختطاف وإعدام لرهائن، وهي العمليات التي تستهدف بث الرعب بين المواطنين غير المنحازين للتنظيم، وكذا قوات الجيش السوري والقوى والميليشيات المسلحة المناهضة لداعش.

ويُلاحظ في هذه العملية الأخيرة لتنظيم داعش أنها كانت بعيدة إلى حد ما عن المناطق المنكوبة، وهو أمر يمكن فهمه في ضوء اعتبارين: الأول هو أن التنظيم يقوم بمناورة سياسية؛ إذ لا يريد أن يظهر أمام المواطنين في المناطق المنكوبة على أنه أحد مواضع الضغط عليهم ويستثمر في أزماتهم، والثاني يرتبط بطبيعة المناطق التي ضربها الزلزال وتوازنات القوى العسكرية فيها؛ فالمناطق الأكثر تضررًا من الزلزال كانت مناطق شمال غرب سوريا وخصوصًا إدلب وريف حلب، وهي المناطق التي تقع تحت سيطرة العديد من التنظيمات الإرهابية والجماعات المسلحة، خصوصًا هيئة تحرير الشام وبعض المجموعات الموالية لتنظيم القاعدة وأبرزها تنظيم حراس الدين، لكن ومع هذه الاعتبارات لا يُستبعد أن يسعى التنظيم إلى استغلال الواقع الأمني الحالي المضطرب في هذه المناطق من أجل تنفيذ عمليات ضد خصومه فيها.

3- إحياء استراتيجية “كسر الأسوار”: تُطلق استراتيجية “كسر الأسوار” من قبل الدوائر البحثية في إشارة إلى سعي تنظيمات العنف والإرهاب تحرير عناصرها وقياداتها المحتجزة في السجون، وقد تصاعد الحديث عن هذه الاستراتيجية العملياتية عقب خطاب للزعيم السابق لتنظيم داعش أبي بكر البغدادي في 22 يوليو 2012 وجهه إلى ما يُعرف بـ “مجلس شورى المجاهدين”، ودعاهم فيه إلى “هدم الأسوار على المدى المنظور القريب لإخلاء القيادات على وجه الخصوص المعتقلين في السجون العراقية”.

وقد بدأ اعتماد التنظيم على هذه الاستراتيجية فعليًا منذ يوليو 2013، أي بعد هذا الخطاب بعام تقريبًا، عندما هاجم إرهابيون تابعون للتنظيم سجني “أبو غريب” غرب العاصمة العراقية بغداد و”التاجي” شمال العاصمة، في عملية كبيرة أدت إلى تهريب نحو 500 عنصر متطرف.

في هذا السياق ومع الخسائر الكبيرة التي تعرض لها التنظيم في السنوات الأخيرة، خصوصًا منذ الإعلان عن هزيمته عسكريًا في العراق في 2017، وفي سوريا في 2019، زادت معدلات تعويل التنظيم على أي سياقات قد يستغلها في إطار مقاربته العملياتية الجديدة في مرحلة ما بعد انتهاء “التمكين”.

ويُتيح الزلزال الأخير وما ترتب عليه من تداعيات كارثية، بما في ذلك زيادة معدلات الهشاشة الأمنية، سياقًا مناسبًا بالنسبة للتنظيم لإعادة إحياء وتفعيل استراتيجية “كسر الأسوار” التي باتت أحد الاستراتيجيات الرئيسة التي يعتمد عليها التنظيم مؤخرًا، ومن هنا يمكن قراءة الأنباء الأخيرة التي أفادت بتنفيذ سجناء ينتمون للتنظيم في سجن راجو شمال غرب سوريا لعصيان كبير عقب الزلزال المدمر مباشرةً، مما أدى إلى فرار نحو 20 منهم على الأقل، بعد سيطرتهم على أقسام السجن الواقع في بلدة راجو قرب الحدود التركية، وهو السجن الذي يضم نحو 1300 شخص غالبيتهم من تنظيم داعش.

4- مغازلة مواطني المناطق المنكوبة: في تجسيد للارتدادات السياسية التي أعقبت زلزال السادس من فبراير، تصاعدت حدة الانتقادات الموجهة من جانب إلى النظام السوري بمنع وصول المساعدات الإنسانية والإغاثية إلى المناطق المتضررة، والتي تقع تحت سيطرة فصائل مسلحة معارضة ومتطرفة، ومن جانب آخر إلى ميليشيات مسلحة وعلى رأسها هيئة تحرير الشام التي تسيطر على إدلب التي اتُهمت بـ “التركيز على جمع الأموال عبر السيطرة على المعابر الحدودية مع مناطق شمال شرق سوريا ومع تركيا في مقابل عدم تقديم خدمات بالمناطق المسيطر عليها من قبل الهيئة ما أفرغ إدلب وريفها من المعدات والأدوات الخاصة بعمليات الإنقاذ”.

وفي هذا السياق، سعى التنظيم إلى توظيف ذلك وما صاحب الزلزال من ارتدادات سياسية، ودعا المواطنين في المناطق المنكوبة في شمال غرب سوريا عبر منصاته الإعلامية إلى الانتقال لمناطق ارتكاز التنظيم والانضمام إليه، مع التأكيد على خلو مناطق “البادية” -وهي إحدى أهم مناطق ارتكاز التنظيم في سوريا- من أضرار الزلزال وتوابعه. وقد تزامن ذلك مع تصاعد الحديث من قبل العديد من الدوائر عن احتمالية تنامي معدلات النزوح من المناطق الأكثر تضررًا إلى مناطق أخرى آمنة، قد يكون من بينها مناطق تموضع تنظيم داعش في سوريا، خصوصًا في البادية ومناطق شرق تدمر والقلمون الشرقي.

وفي الختام، يمكن القول إن تنظيم داعش كغيره من تنظيمات التطرف والعنف تنشأ بالأساس من رحم واقع مأزوم، وتعمل على استغلاله كضمان لاستمراريتها وتعزيز نفوذها، ومن هنا كان تعامل التنظيم مع حادث الزلزال لا يختلف كثيرًا عن تعامل أقرانه مع الحادث، كهيئة تحرير الشام، وهو التعامل الذي غلب عليه الجمع ما بين السعي إلى الترويج لسرديات متطرفة، والتسويق والتوظيف السياسي للحادث، فضلًا عن استغلال التداعيات الأمنية المصاحبة له من أجل تعزيز النهج العملياتي.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى