مصر

رؤية واقعية: جودة الخدمة والصيانة بقطارات الدرجة الثالثة الجديدة والمحسنة على خطوط السكك الحديدية

وضعت الدولة المصرية في عام 2014 خطة عشرية (2014-2024م) لتطوير مرفق السكك الحديدية بتكلفة إجمالية تقارب 225 مليار جنيه، ولقد كان للوحدات المتحركة، خاصة عربات الركاب، نصيب كبير من استثمارات تلك الخطة، فعقدت هيئة السكك الحديدية صفقات دولية بقيمة 1.173 مليار يورو مع شركات روسية ومجرية وإسبانية لشراء ما يزيد على 1400 عربة ركاب جديدة. وقامت الدولة كذلك باستغلال وتطويع قدرات كياناتها الصناعية المحلية مثل مصنع سيماف لمهمات السكك الحديدية وورش كوم أبو راضي وغيرها لتطوير وتحسين قرابة 1400 عربة ركاب قديمة كانت عاملة بالخدمة من قبل. 

إلا أن هذه الاستثمارات الوطنية التي ضختها الدولة بهدف شراء عربات الركاب الجديدة أو لتطوير العربات الأخرى القديمة أصبحت الآن تواجه خطرًا داهمًا؛ وذلك لضعف كفاء تشغيل وصيانة وتنظيف تلك الوحدات المتحركة، وهو ما ينعكس بشكل مباشر على جودة الخدمة المقدمة للمواطنين خاصة محدودي الدخل منهم.

ويتناول هذا التقرير نماذج من حالة قطارات الدرجة الثالثة العاملة على خطوط “الطوالي” وخطوط الأقاليم، سواء المستوردة حديثًا بموجب الاتفاق الموقع مع التحالف الروسي المجري ترانماش هولدنج، أو المطورة والمحسنة محليًا بموجب التعاون مع مصنع سيماف التابع للهيئة العربية للتصنيع والورش الإنتاجية التابعة لهيئة السكك الحديدية.

القطارات ذات التهوية الديناميكية “الروسية”

اتفقت هيئة السكك الحديدية المصرية في 2018 مع التحالف الروسي المجري ترانسماش هولدنج على توريد 1300 عربة قطار، ولقد توزعت تلك الصفقة ما بين 500 عربة قطار ذات تهوية ديناميكية لتحل محل قطارات الدرجة الثالثة التقليدية على خطوط “الطوالي”، و500 عربة قطار درجة ثالثة مكيفة وهي خدمة مستحدثة، بالإضافة إلى 180 عربة للدرجة الثانية و90 عربة للدرجة الاولي و30عربة بوفيه.

ووقعت هيئة السكك الحديدية في 12 ديسمبر 2019 اتفاقية التمويل الخاصة بالصفقة مع بنكي الاستيراد والتصدير المجري والاستيراد والتصدير الوطني الروسي المتخصص، بقيمة إجمالية مليار و16 مليون و50 ألف يورو وهو ما جاوزت قيمته بالجنيه المصري في حينها أكثر من 18.2 مليار جنيه مصري.

بدأت مصر في استقبال أولى العربات المتفق عليها من تلك الصفقة في يونيو 2020، وبلغ عدد ما وصل منها حتى أواخر يوليو الماضي 658 عربة، أي أكثر من 50% من حجم الصفقة. ولقد تلاحظ حرص إدارة هيئة السكك الحديدية على دمج تلك العربات الجديدة في تشكيل القطارات العاملة، وذلك بعد إجراء مختلف الاختبارات الفنية عليها.

صورة لمجموعة من العربات الروسية ديناميكية التهوية وقت وصولها بميناء الاسكندرية

وللوقوف على جودة الخدمة المقدمة للجمهور على متن تلك القطارات الحديثة، تم في يوم 16 سبتمبر الفائت إجراء زيارة عشوائية لأحد القطارات ذات التهوية الديناميكية العاملة على خط القاهرة الإسكندرية – القطار رقم 15 -، وذلك لرصد الحالة الداخلية للعربات ومقدار الراحة المتوفرة للركاب أثناء مسير الرحلة.

وتلاحظ أن القطار مكون من عشر عربات جميعها صُنعت بين شهري ديسمبر 2020م وفبراير 2021م، ويُرجح أن تلك العربات وردت إلى مصر فيما بين شهري فبراير 2021م ومايو 2021م، ودخلت الخدمة فعليًا في بعد يونيو 2021م.

وكانت مواعيد انطلاق ووصول رحلة القطار منضبطة كما هو مكتوب على التذكرة، ولقد تلاحظ الاهتمام بإقفال أبواب العربات فور الانطلاق من المحطة وذلك لضمان أمان الركاب أثناء مسير الرحلة، فضلًا عن وجود طفايات الحريق في مواقعها المحددة، ومؤشر صلاحيتها يدل على جاهزيتها للاستخدام حال وقوع أي حالة طوارئ.

إحدى طفايات الحريق بالقطار

لكن وضع النظافة والصيانة العامة للعربات لم يكن بذات الجودة، حيث تلاحظ وجود اتساخات وبقع قديمة بجميع أرضيات عربات القطار، فضلًا عن وجود أتربة على حوائط ونوافذ كل عربة، وتعاني كل المقاعد من وجود اتساخات زيتية وأتربة على جسمها، علاوة على وجود أتربة متراكمة في الفواصل ما بين الكراسي وعلى المقابض الجانية، وتوجد أيضًا بعض الريشات المفقودة من منافذ تهوية السقف في كل عربة.

أحد ريش نظام التهوية المفقود بالسقف

انطلقت الرحلة من محطة قطارات القاهرة على الرغم من وجود عدد من النوافذ ذات الشروخ السرطانية غير المستبدلة –بداية كسر– وهو ما يهدد باحتمالية انكسارها بالكامل في وجه الركاب أثناء الرحلة، مما قد يؤدي إلى إحداث جروح خطيرة أو عاهات مستديمة. وسمح مسؤولو القطار لاحد الركاب بوضع أجولة كبيرة الحجم أمام باب إحدى العربات وهو ما تسبب في إعاقة حركة الركاب داخل القطار بسبب انزلاقها.

الأجولة الموضوعة امام باب عربة القطار   ونموذج للزجاج المشروخ

سوء حالة دورات المياه كان أكثر ما تم ملاحظته أثناء الرحلة؛ فلم يُسجل وجود مرحاض واحد نظيف أو ذي رائحة طبيعية على امتداد القطار، بجانب أن قواعد دورات المياه “الأفرنجي” كانت مهشمه ومتسخة بشكل ظاهر، ولقد تلاحظ أن جميع الصنابير “الاستانلس تيل” على الأحواض كانت قد فُقدت وتم استبدال أخرى بلاستيكية، فيما اختفت الصنابير بشكل كامل من دورات مياه أخرى.

نموذج لأحواض دورات المياه بالقطار

لوحظ كذلك وجود تسريب للمياه في بعض دورات المياه جراء فقدان قطع محابس جانبية، فضلًا عن وجود قطع معدنية مختفيه من جسم دورة المياه، ونشير إلى أن تلك القطع المعدنية عادة ما يتم فكها وتركيبها من قبل الفنيين في الورش للوصول إلى المواسير والوصلات الرئيسية المغذية للحنفيات والمحابس.

صور القطع المعدنية المفكوكة من جسم دورات المياه

لم يكن بجميع دورات المياه أية مناديل ورقية، لكن تلاحظ أثناء تفقُد العربة الأخيرة من القطار أن عُمال القطار كانوا قد وضعوا عبوة بكرات المناديل التي صُرفت لهم قبل الرحلة إلى جانب أمتعتهم الشخصية، ولم يقوموا بتوزيعها على دورات المياه كما تنص لوائح التشغيل، وهنا نشير إلى أن جميع عمال القطار كانوا قد تركوا مواقع خدمتهم بمختلف العربات فور انطلاق الرحلة من محطة القاهرة وتجمعوا بالعربة الأخيرة للدردشة وتبادل الأحاديث. ولم يكن بالقطار “بوفيه”، ولم تكن هناك خدمة بيع للوجبات الخفيفة والمشروبات، هذا ما أوجد فرصة للكثير من الباعة الجائلين داخل القطار.

القطارات المحسنة والمطورة محليا ” قطارات تحيا مصر وقطارات الضواحي “

وضعت هيئة السكك الحديدية منذ 2014 خطة شاملة لتجديد وتطوير وتحسين 1385 عربة ركاب قديمة من الدرجة الثالثة وقطارات الضواحي، ولقد شاركت كل من ورش السكك الحديدية في كوم أبو راضي وأبو زعبل والعباسية والمنيا بالإضافة إلى مصنع سيماف في تنفيذ هذه الخطة، وهو ما ساهم بحلول منتصف العام الحالي 2022 في تأهيل 90% من إجمالي العربات المستهدفة، فيما يتم العمل حاليًا على إنهاء تطوير النسبة الباقية من العربات.

الحفاظ على معدلات إنجاز ثابته فيما يتعلق بملف تطوير عربات الضواحي والدرجة الثالثة، ساعد وزارة النقل على تحقيق التزامها الذي تعهدت به أمام المواطنين، فبنهاية 2021 لم يعد يسير على خطوط السكك الحديدية من جنوب مصر لشمالها سوى عربات جديدة أو مجددة كليًا.

لكن وضع قطارات الدرجة الثالثة وقطارات الضواحي العاملة على الأرض يستدعي أن تعطيه السلطات المختصة قدرًا من الالتفات؛ فبزيارة عدد من تلك القطارات المحسنة بمحطات القاهرة وبنها ودمنهور تبين أن جودة الخدمة العامة عليها متدنية جدًا، ولا تكاد تعكس أي تطوير حاصل عليها.

الشكل الظاهري لكافة القطارات المحسنة وقطارات الضواحي المطورة تدل على أنها لا تحظى بعمليات تنظيف كافية في مغاسل القطارات، بالإضافة إلى ذلك تلاحظ ظهور تشققات على الدهان الخارجي وحتى ظهور صدأ على بدن العربات مما ينذر بوجود عيوب فنية في عمليات عزل وطلاء العربة اثناء مرحلة التطوير.

صور لأجسام العربات من الخارج وتظهر عليها الاتساخات والتشققات والصدأ

الوضع الداخلي لمختلف العربات لم يكن أفضل من الخارجي؛ فأرضية كافة العربات التي تمت زيارتها كانت توصف بأنها شديدة الاتساخ، مع العلم أن هناك فرق نظافة بالمحطة تقوم بكنس القطارات لدي وصولها فقط -بدون استخدام المياه والصابون أو أي مطهرات أخرى-، وتلاحظ ظهور الكثير من التشققات في أرضيات العربات، وهو ما يعيدنا إلى فرضية عدم اعتماد معايير فنية مناسبة أثناء تطوير العربات بالورش، ونشير أيضًا إلى أن المقاعد وحوائط العربات ونوافذها لا يتم الاهتمام بها من ناحية النظافة على الوجه الأمثل شأنها في ذلك شأن أرضية العربات.

صور مختلفة للاتساخات والتشققات على أرضيات العربات

صور لحالة الاتساخ بمقاعد وحوائط ونوافذ العربات المطورة من الدخل

زجاج النوافذ والأبواب بالعربات ظهر أيضًا في بعض الأحيان وهو مهشم، فيما كان زجاج النوافذ في بعض العربات غير موجود من الأساس. أما دورات المياه فكانت في حالة بالغة السوء بكافة العربات، حيث لم يوجد بأي منها صنابير مياه أو إضاءة أو حتى نوافذ زجاجية، وحلًا لتلك المشكلة الأخيرة –عدم وجود نوافذ زجاجية- تم تغطية بعض نوافذ دورات المياه بقطع من الصاج الملحومة.

صور لزجاج العربات المهشم أو غير الموجود بنوافذ وأبواب عربات القطارات


صور لحالة دورات المياه من الداخل صورة لأحد النوافذ المغطاة بقطع الصاج

تعقيب ختامي

عدم الاهتمام الإداري من قبل هيئة السكك الحديدية بعمليات تنظيف وصيانة عربات الركاب الجديدة أو المطورة سيتسبب في تسريع معدلات إهلاك تلك العربات، وهو ما سيؤدي إلى حتمية إجراء عمرات شاملة على بعضها، فيما لن يصلُح البعض الآخر للخدمة، وهو ما يعني تكهين العشرات من تلك العربات، لتتحمل الخزانة العامة فاتورة أخرى بمليارات الجنيهات من أجل شراء قطع غيار وعربات جديدة.

تدهور حالة قطارات الدرجة الثالثة وقطارات الضواحي يتسبب بشكل غير مباشر في خلق فجوة ذات طابع سياسي بين الدولة وطبقات الشعب ذات الدخل المحدود؛ فسوء حالة الخدمة المقدمة بالسكك الحديدية يؤدي إلى تناقص رضا الكثير من الجمهور عن الحكومة. وبملاحظة بسيطة لآراء الركاب على ارض الواقع، وبمتابعتها تعليقاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، نعثر على نبرات التهكم والرفض لما يراه هؤلاء الركاب -إنجازات وهمية تروج لها الدولة- في ملف السكك الحديدية، فالمواطن العادي لا يدرك الجهد الكبير المبذول لتطوير نظم إشارات السكة، وتطوير القوة البشرية العاملة بالمرفق، وخلافه من المشروعات الجارية لتحسين حال السكك الحديدية، لكنه ينتظر فقط أن يجد مقعدًا مريحًا وعربة نظيفة وتوقيتات منضبطة للقطارات، قبل أن يُقر بحدوث أي انجاز في ملف السكك الحديدية.

لذلك لابد من توجيه قيادات وزارة النقل وهيئة السكك الحديدية بتشديد الرقابة على عمليات الصيانة والنظافة لمختلف قطارات الدرجة الثالثة وقطارات الضواحي. ويقترح أيضًا في هذا الصدد أن تقوم وزارة النقل بتكوين فريق عمل تابع لمكتب وزير النقل؛ كي تكون مهمته الرئيسة هي متابعة ومراقبة الانضباط الإداري والعملياتي بهيئة السكك الحديدية، خاصة فيما يتعلق بنواحي جودة الخدمة المقدمة للجمهور.

ولا نلقي بمهمة الحفاظ على الوحدات المتحركة على فرق الصيانة والنظافة والخدمة فقط، بل يجب أن ندفع الركاب للمشاركة في هذا الجهد من خلال تكثيف حملات التوعية للحفاظ على نظافة العربات وسلامتها، فضلًا إنشاء جهات اتصال مع الجمهور المستخدم لخدمات السكك الحديدية، وذلك للإبلاغ عن شكاوى سوء الخدمة، من خلال خط ساخن هاتفي ورقم للرسائل النصية على تطبيق واتس اب، فضلا عن عنوان للبريد الكتروني، بالإضافة إلى الانتباه لما يرد من شكاوى على منظومة الشكاوى الحكومية.

+ posts

باحث ببرنامج السياسات العامة

مصطفى عبد اللاه

باحث ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى