تغير المناخأوروبا

جفاف الأنهار الأوروبية.. المسببات والتداعيات الاقتصادية

تواجه القارة الأوروبية حالة من الجفاف غير المسبوق، وخاصة في فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وبريطانيا، ذلك بالإضافة إلى بعض من الولايات الأمريكية، لا سيّما وأن أوروبا تمر بالعديد من الصراعات سواء السياسية أو الاقتصادية نتيجة الحرب الروسية- الأوكرانية، وما تبعها من أزمة في الطاقة والأمن الغذائي. وفى ظل محاولات القارة للسيطرة على الوضع الحالي، لم يترك التغير المناخي لها فرصة وبات يهدد الأنهار الأوروبية، خاصة بعد ارتفاع درجات الحرارة إلى ما فوق 40 درجة مئوية للمرة الأولى.

وتؤثر أزمة المناخ ليس على الأنهار فقط، ولكن على الأشخاص الذين يعتمدون عليها، سواء فيما يتعلق بمياه الشرب أو الحصول على الطاقة أو شحن البضائع، بالإضافة إلى جفاف الأراضي الزراعية، وهو ما ترتب عليه تكبد المزيد من الخسائر الاقتصادية. وتعد حالة الجفاف هي الأسوأ منذ 500 سنة، خاصة مع عدم تسجيل هطول أمطار لمدة شهرين في غرب ووسط وجنوب أوروبا، وأصبح الوضع الحالي أن 47% من القارة الأوروبية باتت مهددة بالجفاف، مع العلم أن 15% من مساحة أوروبا دخلت خلال الشهر الماضي ضمن تصنيف “الجفاف الحاد”.

الوضع الحالي

تعود حالة الجفاف إلى عدة أسباب منها: ارتفاع درجات حرارة الأرض، وتراجع التساقطات الثلجية خلال فصل الشتاء مما أدى إلى تراجع حجم المياه التي تتدفع عادة من الجبال، وارتفاع منسوب استهلاك النباتات للماء لأنها تعاني من الجفاف وتراجع خصوبة الأرض، بالإضافة إلى عودة استخدام الوقود الأحفوري نتيجة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها أوروبا على روسيا، وكذلك قللت الحرارة الشديدة من إمدادات المياه الجوفية. ويرجع السبب وراء ارتفاع درجة الحرارة في أوروبا خلال هذا الصيف ومن ثم موجة الجفاف التي تشهدها القارة حاليًا إلى التغيرات في التيارات الهوائية التي تدفع الهواء الساخن من شمال أفريقيا نحو أوروبا.

وقد واجهت العديد من الدول الأوروبية خلال الشهور الماضية حالات من جفاف الأنهار، مثال ذلك فرنسا التي تواجه أسوأ موجة جفاف في تاريخها منذ 60 عامًا، وأصبحت أكثر من 100 قرية فيها تعاني من غياب تام للمياه الصالحة للشرب، وأفضى هذا الجفاف إلى تضاؤل كميات المياه الجارية في “نهر لوار”، وبدأت المياه تختفي كليا في بعض المناطق مثل البحيرات الإقليمية والخزانات. وعلى الرغم من أن فرنسا كانت من أكثر الدول وفرة في المياه، بدأت تفرض قيودًا على المواطنين في استخدام المياه، فضلًا عن أن درجات الحرارة المرتفعة بالأنهار باتت لا تسمح بتبريد مفاعلات فرنسا النووية بشكل فعال، مما كان له العديد من التداعيات الاقتصادية.

وتواجه ألمانيا كذلك موجة جفاف غير مسبوقة، فأدى انخفاض منسوب مياه “نهر الراين” إلى جعله غير مهيأ لعبور العديد من القوارب، وهو النهر الذي يعد من أهم الأنهار في العالم، وتمر عبره أكبر حركة تجارية في أوروبا، ويربط ألمانيا بالموانئ الكبرى، خصوصًا روتردام في هولندا، والموانئ في بريطانيا، وتراجع مستوى المياه في النهر أدى لتباطؤ حركة السفن فيه، وعادة ما يمتلئ النهر بالسفن التي تنقل المواد الخام والمنتجات من وإلى محطات الطاقة والمصانع على طول الممر المائي، وباتت بعض السفن تستوعب 25% فقط من قدرتها تجنبًا للجنوح في النهر، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الشحن.

وترتب على انخفاض مستويات المياه عودة ظهور “حجارة الجوع” في الأنهار الألمانية والتشيكية، تكون هذه الصخور مرئية فقط عندما تكون مستويات المياه منخفضة للغاية. وعلى مدى قرون، تم تفسير ظهور هذه الأحجار على أنه علامات تحذيرية لفشل وشيك في المحاصيل وحتى مجاعة، وتم كتابتها بالتواريخ أو الأقوال التي تشير إلى الحدث.

ومن المحتمل أن يعود تاريخ بعض هذه النقوش إلى عام 1616، وفي عام 1904، ظهر حجر في نهر سبري بالقرب من قرية تريباتش الألمانية، نقش عليه: “عندما ترى هذا الحجر مرة أخرى، ستبكي، لذلك كانت المياه ضحلة في عام 1417”. وتعتبر أحجار الجوع هذه بمثابة سجل للأرصاد الجوية، من العصر ما قبل ملاحظات الطقس الموحدة، تعود معظم النقوش إلى القرن الخامس عشر وحتى القرن التاسع عشر، حيث سجل أرشيف مدينة بيرنا بألمانيا حجرًا عليه عام 1115، لكن موقعه الدقيق لم يعد معروفًا.

وبدأت بريطانيا فرض قيود على استخدام المياه نتيجة موجة الجفاف الحالية، وبناءً عليه سيتعذر على 15 مليون شخص في العاصمة ري حدائقهم وملء أحواض السباحة التابعة لهم، وهذه المرة الأولى منذ 10 سنوات التي تكون فيها لندن تحت وطأة جفاف شديد، وبناء عليه أعلنت الحكومة البريطانية عن دخول 8 مناطق بالبلاد في حالة “جفاف حاد”، وتم تسجيل هذا الصيف أسخن صيف في تاريخ بريطانيا منذ سنة 1976، بعد أن تجاوزت درجة الحرارة 40 درجة مئوية في بعض المناطق.

وفي إيطاليا، شهد نهر “بو”، أطول نهر في إيطاليا، أسوأ موجة جفاف يمر بها منذ 70 عامًا، تاركة أجزاءً كبيرةً من الممر المائي الشمالي جافة تمامًا، ما يهدد بعدم القدرة على ري الأراضي الزراعية. وكذلك سجلت مياه الأنهار والبحيرات مستويات أقل من المستوى المعتاد بالنسبة إلى هذا الوقت من العام.

وأخيرًا كان للولايات المتحدة الأمريكية كذلك نصيب من حالة “الجفاف الحاد” حيث يواجه “نهر كولورادو” جفافًا شديدًا، وترتب عليه أن ولاية أريزونا الأميركية قررت الالتزام بعدة تدابير بسبب هذا الانخفاض، مع العلم أن تلك الولاية طبقت العديد من الإجراءات على مدار أربعين عامًا، من خلال سن قانون إدارة المياه الجوفية 1980، بالإضافة إلى إجراء خفض تدريجي في كمية المياه التي يستخدمها المواطنون. وانخفضت مستويات المياه في منذ عام 2000 عن هذا العام، مع العلم أن حوالي 40 مليون شخص في سبع ولايات والمكسيك يعتمدون على مياه النهر للشرب والزراعة والكهرباء.

وترتب على حالة الشح المائي أن ولايتين أمريكيتين هما كاليفورنيا وأريزونا أصبحتا ليستا في مأمن من التغييرات المناخية، وأجبر سكان كاليفورنيا على الالتزام بتدابير غير مسبوقة، من خلال الحد من استهلاكهم للمياه حتى 80 جالون للفرد يوميًا، لينخفض الاستخدام العادي بذلك نحو35 %، بالإضافة إلى الحد من استخدام المياه في سقي النباتات، والاكتفاء بيوم واحد في الأسبوع.

ويتضح من ذلك، أن أوروبا تعيش في دائرة مفرغة، وأن موجات الجفاف تسير بوتيرة أسرع مما كنا نتوقع، حيث شهد صيف هذا العام موجات جفاف في أنحاء واسعة من قارة أوروبا واندلاع حرائق غابات وارتفاع درجات الحرارة التي تخطت 40 درجة. ومن المتوقع أن تصبح موجات الحر وتدني مستويات المياه في شكل أخطر ما دام الإسهام في انبعاثات الغازات الدفيئة ما زال مستمرًا، وأشارت تقارير إلى أنه خلال 30 عامًا سيزداد الأمر تفاقمًا، مما يسهم في حدوث انهيار اقتصادي للقارة.

التداعيات الاقتصادية 

بدأت قارة أوروبا الشعور بشكل كبير بتأثير التغييرات المناخية، لأن الأمر لم يقف عند ارتفاع درجات الحرارة أو التأثير على الإنتاج الزراعي، بل أصبح ينذر بخطر الانهيار الاقتصادي، وبدأت مؤشرات فقر الطاقة تزداد مع الحرب الروسية- الأوكرانية، خاصة مع تطبيق العقوبات الخامسة التي فرضتها أوروبا على روسيا، وأدت إلى تراجع إمدادات الغاز الروسية للقارة الأوروبية. 

هذا بالإضافة إلى أن التغيرات المناخية والعودة إلى استخدام الوقود الأحفوري، وتأثير الاحتباس الحراري، جعلت معدلات الجفاف في أوروبا ترتفع هذا العام عن العام الماضي، بالإضافة إلى التراجع الشديد في هطول الأمطار والذي أدى بدوره إلى التراجع الشديد في إنتاج الطاقة من المصادر الهيدروليكية التي تعتمد على انسياب المياه نتيجة هطول الأمطار كما في جنوب أوروبا مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا أو المنحدرة من الجبال مع ذوبان الثلوج على جبال الألب.

شهد بعض أكبر مشغلي الطاقة الكهرومائية في أوروبا، خاصة الذين لديهم مصانع في فرنسا وإيطاليا وأيبيريا انخفاضًا حادًا في الإنتاج في بداية هذا العام بسبب استمرار ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض هطول الأمطار؛ إذ تواجه شركات إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية في أوروبا نقصًا متزايدًا في الإنتاج منذ بداية العام نتيجة انخفاض معدلات هطول الأمطار في الشتاء وارتفاع درجات الحرارة في الصيف.

وكذلك انخفض إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية لدى أكبر الشركات الفرنسية بنسبة 30 % على الأقل في الستة أشهر الأولى من هذا العام، وتراجع إنتاج الطاقة من مصادر هيدروليكية في شركة “إينل” الإيطالية بأكثر من الثلث عمّا كان عليه في العام الماضي 2021، كذلك وصلت مخزونات الطاقة المائية في البرتغال عند أدنى مستوياتها فبلغت الخزانات 29٪ من طاقتها في 31 يوليو، مقارنة بمتوسط ​​63٪ خلال العقد الماضي. وفي إسبانيا، كانت ثلاثة مجمعات مائية كبيرة تعمل بإنتاج محدود في منتصف يوليو بسبب ندرة هطول الأمطار ودرجات حرارة أعلى من المتوسط.

وبدأت بعض شركات الطاقة في مراعاة تلك التغييرات المناخية من خلال تخزين مياه الأمطار في فصل الشتاء وتخزين المياه الناتجة عن ذوبان الجليد على الجبال في فصل الصيف، لكن تلك المخزونات أصبحت أقل ولا تكفي لتشغيل التوربينات بسبب نقص كميات المياه من الأمطار ونقص تراكم الجليد على قمم الجبال.

في الوقت الذي يعمل فيه الأوروبيون نحو تقليل اعتمادهم على مصادر الطاقة من روسيا ضمن العقوبات على موسكو بسبب حرب أوكرانيا، تتفاقم مشكلات توليد الطاقة من مصادر أخرى غير النفط والغاز والفحم، وبعد أن كان إنتاج إحدى أكبر شركات الطاقة الفرنسية في أوروبا من محطات تعمل بالوقود النووي عند نحو 40 جيجاوات في مثل هذا الوقت من العام الماضي، وصل حاليًا إلى نحو 26.9 جيجاوات فقط،  والسبب أن الشركة اضطرت لإيقاف تشغيل بعض المحطات نتيجة ارتفاع درجة حرارة مياه الأنهار التي تستخدم في تبريد المفاعلات النووية للمحطات.

ويتضح من ذلك، أن مشكلة الجفاف أخطر من أزمة الحرب الروسية الأوكرانية والعقوبات المرتبطة بها، وإن كان من الممكن التوصل إلى حل سياسي ينهي الحرب، فإنه لا يمكن التعامل بشكل سريع مع مشكلة الجفاف، خاصة وأن المنتجات النفطية يتم نقلها عبر الأنهار، بالإضافة إلى أن انخفاض مستوى مياه الأنهار والبحيرات يعني أنه سيتم استخدام الغاز لتعويض هذا النقص، وتواجه الدول الأوروبية أزمة كبيرة في توفير الغاز، خاصة مع إقرار الاتحاد الأوروبي بتخفيض استهلاك الغاز من أجل زيادة المخزون قبل دخول فصل الشتاء، ويتوقع مع دخول فصل الشتاء أن يصبح فقر الطاقة في أوروبا أشد وطأة، مع توقعات بارتفاع أسعار الكهرباء بشكل كبير نتيجة نقص الإنتاج.

+ posts

باحثة بالمرصد المصري

منى لطفي

باحثة بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى