ليبيا

ورقة ضغط: كيف تستثمر الأطراف الدولية المنخرطة في ليبيا “حراك يوليو”؟

تقاربت مواقف عدد من الأطراف الخارجية المنخرطة في الملف الليبي إزاء الحراك الليبي، فالولايات المتحدة والبعثة الأممية ومستشارة الأمين العام للأمم المتحدة ستيفاني ويليامز والعديد من الحكومات الأوروبية أكدوا على حق الليبيين في التعبير عن آرائهم بحرية، وضرورة أن يصغي الساسة الليبيون إلى صوت الشعب الذي ملّ من الانسداد السياسي الذي تعاني منه البلاد منذ أكثر من أحد عشر عامًا، فضلًا عن ضرورة ضبط النفس وتجنب اللجوء إلى العنف كالذي حدث مع اقتحام مقر مجلس النواب في طبرق وإحراقه.

وبالنظر إلى السياقات التي سبقت وصاحبت خروج هذه المظاهرات في الأقاليم الليبية المختلفة، نجد أن طرفين دوليين أساسيين هما الأكثر انخراطًا في تفاصيل الأزمة الليبية خلال الفترة الأخيرة، الأول هو المستشارة الأممية ويليامز التي قادت على مدار الأشهر الفائتة جهودًا للتقريب بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة للتوافق على القاعدة الدستورية خلال الاجتماعات الثلاث التي انعقدت في القاهرة ثم الاجتماعات التي انعقدت في جنيف. 

وبالتالي تسعى إلى الاستمرار في إنقاذ خطة الأمم المتحدة في الضغط على أطراف العملية السياسية، ومن ثم استثمار الحراك كورقة ضغط في هذا الاتجاه، وبالنظر إلى أن الأمم المتحدة كطرف لم تكن محل انتقاد في قائمة مطالب ودوافع المتظاهرين، بل من المتصور أنها قد تكون في خلفية الآليات التي يسعى الحراك إلى الإبقاء على دورها كمحرك باتجاه تلبية مطلب الإسراع في تنفيذ عملية الانتخابات.

أما الطرف الثاني فهو الولايات المتحدة التي كان سفيرها طرفًا أساسيًا سعي إلى إظهار نفسه كوسيط في مختلف تفاصيل الأزمة، وخاصة ملفي النفط والانتخابات. فقد أشار نورلاند عقب اتصال مع رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي إلى أنه لا يوجد كيان سياسي واحد يتمتع بالسيطرة المشروعة في جميع أنحاء البلاد، وأي جهد لفرض حل أحادي سيؤدي إلى العنف، مرحبًا بصوت المجلس الرئاسي في الدعوة إلى التسوية، وداعيًا القادة الليبيين إلى اغتنام الفرصة لاستعادة ثقة المواطنين في مستقبل البلاد. بما يعني أنه يمرر رسالة بهذا المضمون تعزز خطة عمل المستشارة الأممية في الضغط على أطراف العملية السياسية، وعدم الاعتراف بأي منهم كممثل شرعي بعد انتهاء المرحلة الانتقالية. 

أما الأوروبيون فعبّروا من خلال سفير الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا ومبعوثي إيطاليا وألمانيا عن أن المظاهرات هي دعوة لليقظة، وأن الناس يريدون التغيير عبر الانتخابات، مع التشديد على رفض العنف. وفى السياق ذاته جرى لقاء إيطالي تركي لتنسيق المواقف على الساحة الليبية.

وعليه من المتصور أن القوى الأوروبية رغم انشغالها بتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، لا تزال تمنح الملف الليبي أولوية. وكاتجاه رئيس، تسعي هذه الأطراف إلى احتواء الأزمة خاصة عدم اللجوء إلى التصعيد أو انهيار العملية السياسية في ليبيا وانزلاق البلاد إلى الفوضى، الأمر الذي قد يشكل عبئًا جديد على عاتق هذه الأطراف، وهو ما تسعى إلى تفاديه في المرحلة الحالية. 

انعكاسات الحراك على الخطط الدولية

تبدو القوى الدولية المعنية بالأزمة الليبية طرفاً مستفيدًا -من الناحية النظرية- من الحراك الشعبي الذي بدأ في مطلع يوليو الجاري؛ لكون هذا الحراك قد يمثل ضغطًا إضافيًا على الأجسام السياسية الليبية ويدفعها نحو تقديم تنازلات للوصول إلى اتفاق على القاعدة الدستورية ثم إجراء الانتخابات. لكن من الناحية العملية، يمثل هذا الحراك الشعبي برهانًا على فشل كافة الخطط التي طرحها المجتمع الدولي طيلة السنوات الماضية للتوصل إلى تسوية سياسية للأزمة التي تزداد اليوم انقسامًا وعادت إلى مشهد عام 2014 بوجود حكومتين تتنازعان الشرعية. وبناء على هذا الفشل، من المحتمل أن ترتسم ملامح التعاطي الدولي مع المشهد الليبي ما بعد الاحتجاجات على النحو التالي:

 1 – الإصرار على الانتخابات كخيار رئيس

شابت تعقيدات قانونية وسياسية مسألة إجراء الانتخابات، مع انتهاء مهلة خارطة الطريق التي طرحتها البعثة الأممية ووضعها ملتقى الحوار السياسي وكان من المفترض أن تنتهي بإجراء الانتخابات في 24 ديسمبر 2021، ثم مُددت ستة أشهر انتهت في يونيو الماضي، ما يعني أن حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة قد انتهت ولايتها. ذلك فضلًا عن انتهاء اجتماعات المسار الدستوري في القاهرة وجنيف دون الاتفاق على كامل مواد مسودة الدستور الذي من المفترض أن تجرى في إطاره الانتخابات.

ولكن على الرغم من ذلك، لا تزال القوى الدولية تؤكد على مقاربة أن الانتخابات هي الحل للأزمة الليبية المعقدة، وهي المقاربة التي طرحها المتظاهرون في حراكهم. وتشير تصريحات سفير الولايات المتحدة لدى ليبيا ريتشارد نورلاند بأنه لا يمكن إجراء الانتخابات في ليبيا تحت قيادة سلطة موحدة قريبًا وأنه من الممكن إجراء انتخابات عامة في ليبيا دون شرط حل الأزمة بين الحكومتين المتنافستين إلى أن هدف تحقيق الانتخابات مقدم على كل ما سواه، وأن آفاق حل التأزم السياسي الحالي في ظل وجود حكومتين تبدو صعبة للغاية، ما يعني بقاءها أمرًا واقعًا، وسعي أطراف خارجية إلى إقناع قوى الحراك بذلك واللجوء إلى القبول بهذا الخيار الذي لاقى اعتراضًا واسعًا من عدد كبير من القوى السياسية الليبية.

2 – طرح مبادرات جديدة 

قد تعمد القوى الدولية وتحديدًا الولايات المتحدة والقوى الأوروبية إلى طرح مبادرات جديدة لحلحلة الأزمة في ليبيا، سواء بما يتجاوز إطار مجلسي النواب والدولة أو ببقائهما ضمن المعادلة، للاستفادة من الضغوط التي يشكلها الحراك الذي سعت الأطراف الليبية إلى مباركته لتجاوز آثاره. ويبرز في هذا الإطار النشاط اللافت مؤخرًا للمجلس الرئاسي بقيادة محمد المنفي، وتواصله مع عدد من الأطراف الدولية والإقليمية، فضلًا عن طرحه “خطة عمل تعالج الانسداد السياسي في البلاد”.

وعلى الرغم من أن البنود التي تضمنتها هذه الخطة أقرب ما يكون إلى العمومية، فإن المشاورات الدولية الأخيرة مع المنفي قد تسهم في تبني بعض القوى لخطة مفصلة يضعها المجلس الرئاسي بالتشاور مع بقية الأطراف السياسية مثلما أكد في بيانه. وبالتوازي مع ذلك، قد تلجأ قوى دولية وخاصة أوروبية إلى خفض دعمها المبدئي واعترافها بحكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة، لدفعها نحو اللجوء إلى الحوار.

إلا أن المبادرة التي طرحها السفير الأمريكي بشأن إجراء الانتخابات في ظل وجود حكومتين، وقبلها مبادرة استئناف إنتاج النفط واقتسام الموارد بين الحكومتين؛ تدحض بشكل كبير في إمكانية الدفع الدولي باتجاه التسوية القائمة على الحوار للوصول إلى سلطة موحدة، لصالح مبادرة قد تُطرح بشكل أكثر منهجية في المستقبل المنظور قائمة على اللامركزية والحكم الفيدرالي، مع التركيز بشكل أكبر على كيفية استئناف الصادرات النفطية الليبية والتوافق على آلية توزيع عوائدها، في ضوء الحاجة الأمريكية والأوروبية إلى إيجاد بدائل للنفط الروسي وتعزيز الإنتاج العالمي لخفض الأسعار. إلا أن هذا الطرح الأمريكي قد قوبل برفض كبير داخل ليبيا، ما يجعل من الصعب أن يقبل الليبيون بهذه المبادرة إن طُرحت، ويفرض على واشنطن إعادة هندسة موقفها وخياراتها داخل ليبيا بما يسمح لها بحيازة قبول أكبر لدى الليبيين.

3 – تغير البعثة الأممية

أصبحت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا -في ضوء الإخفاقات المتوالية وفشل خططها الرامية إلى تسوية الأزمة- في وضع صعب يتطلب إجراء تغيير في هيكلها يبدأ بتعيين مبعوث جديد للأمين العام للأمم المتحدة إلى ليبيا، في ظل شغور المنصب منذ استقالة يان كوبيش في نوفمبر من العام الماضي. ويشير تمديد مهمة المستشارة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا ستيفاني ويليامز لمدة شهر واحد فقط ينتهي بنهاية الشهر الجاري بدلًا من التمديد لثلاثة أشهر كما كان يجري في السابق إلى أن الأمم المتحدة تضع في مقدمة أولوياتها اختيار مبعوث جديد إلى ليبيا يتولى قيادة ملف تسوية الأزمة في الفترة المقبلة، للتخلص من حالة الضعف التي تعتري عمل البعثة مؤخرًا، وهو الأمر الذي يواجه -ومن المحتمل أن يظل يواجه- عوائق تتعلق بالخلاف القائم داخل مجلس الأمن الدولي بين المعسكر الغربي وروسيا بوجه عام وفي الملف الليبي على وجه الخصوص.

إجمالًا، اتجهت القوى الدولية المنخرطة في الأزمة الليبية إلى عدم التعاطي بشكل قوي مع الحراك الشعبي الليبي الأخير، والتعامل معه في إطار المواقف الدبلوماسية فقط في الوقت الراهن؛ بهدف انتظار اتضاح معالم خطواته المستقبلية واحتمالات استمراره من عدمها بهدف البناء عليه في تحقيق أهدافها. ومن المحتمل أن تشهد الفترة المقبلة تفاعلًا دوليًا أكبر مع المشهد الليبي؛ الأمر الذي يمثل في حد ذاته أحد مسببات بقاء الأزمة على وضعها الراهن منذ 2011، ما يرجح أن يستمر الوضع الراهن على المدى القصير، والدفع الغربي المكثف باتجاه إيجاد حلول لمسألة إنتاج وتصدير النفط، وعدم تحقق المطالب شبه المستحيلة لليبيين بإنهاء كافة الأجسام السياسية.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى