
عودة القيادة.. كيف تسعى واشنطن إلى تعزيز نفوذها في آسيا؟
“الكثير من مستقبل العالم سيكتب هنا في المحيطين الهندي والهادئ على مدى العقود القليلة المقبلة”. هذا ما قاله الرئيس الأمريكي، جو بايدن، أثناء إعلانه اتفاقيات تجارية مع دول منطقتي المحيط الهندي والهادئ. وهو ما يشير إلى حقيقة أنه على الرغم من التركيز الحالي على التطورات في أوكرانيا، تظل آسيا منطقة ذات أولوية في السياسة الخارجية للولايات المتحدة. ويكمن في ذلك الاعتراف أنه في حين أن تحدي العدوان الروسي هو الأولوية العاجلة، فإن التركيز الاستراتيجي طويل الأجل ينصب على تحدي طموحات الصين الحازمة والتوسعية، بما في ذلك ردع ظهور نظام إقليمي وعالمي يتمحور حول الصين.
لم يكن تعزيز الردع ضد كوريا الشمالية والصين وروسيا، والاستفادة من الطموحات الاستراتيجية المتنامية للحلفاء الديمقراطيين الآسيويين من خلال الاجتماعات الثنائية والإقليمية الهدفين الوحيدين لجولة بايدن الأولى إلى آسيا. فقد استهدفت الجولة إحياء القيادة الاقتصادية الأمريكية على الصعيد العالمي، من خلال الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ (IPEF) لتشكيل قواعد التكامل الاقتصادي للمنطقة الأكثر ديناميكية في العالم. وإظهار مدى قدرة الولايات المتحدة على تقديم حلول عملية للمشاكل الحرجة، مثل: اختناقات سلاسل الإمداد والتوريد، والبنى التحتية الخضراء، ونشر التقنيات الرقمية.
مثلت الجولة الآسيوية معلمًا مهمًا لتقييم اتجاه وفاعلية السياسة الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وهي منطقة حددتها الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة على أنها مفتاح الأمن والازدهار الأمريكي، وعززت مصالح كوريا الجنوبية واليابان بتوسيع آفاقهما الاستراتيجية بطرق تكمل المصالح الأمريكية في المنطقة، وتبني دور إقليمي وعالمي أوسع لكوريا الجنوبية في التكنولوجيا وسلاسل التوريد والمناخ والأمن الصحي وغيرها من المجالات. بالإضافة إلى طمأنة المنطقة بأن الولايات المتحدة ستظل ملتزمة بشراكتها مع المحيطين الهندي والهادئ، حتى في الوقت الذي تتغلب فيه على أسوأ أزمة عانت منها أوروبا منذ سبعة عقود في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا.
يُنظر إلى الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ IPEF على أنه جزء من جهود إدارة بايدن لمواجهة نفوذ الصين المتزايد في المنطقة، بعد أن سحب الرئيس السابق دونالد ترامب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP) في عام 2017. وبعد تولي بايدن، أصدر البيت الأبيض بيانًا في 27 أكتوبر 2021 قدم قراءة لمشاركة الرئيس في قمة شرق آسيا السنوية، وتضمن الفقرة التالية: “أعلن الرئيس بايدن أن الولايات المتحدة ستستكشف مع الشركاء تطوير إطار اقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ يحدد أهدافنا المشتركة حول تسهيل التجارة، ومعايير الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا، ومرونة سلاسل الإمداد، وإزالة الكربون والطاقة النظيفة، والبنية التحتية، وغيرها من المجالات ذات الاهتمام المشترك”.
وأعلن بايدن رسميًا خلال زيارته إلى بكين إطلاق إطار العمل الجديد الذي يشمل 13 دولة تضم الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية واليابان وأستراليا ونيوزيلندا والهند وسبع دول من أصل 10 أعضاء في رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) وهي بروناي وإندونيسيا وماليزيا والفلبين وسنغافورة وتايلاند وفيتنام.
وسيغطي الإطار أربعة مجالات رئيسة وهي التجارة العادلة، ومرونة سلسلة التوريد، والبنية التحتية والتكنولوجيا الخضراء، والضرائب ومكافحة الفساد، على الرغم من أنه لن يشمل أي إلغاء للتعريفات أو زيادة الوصول إلى الأسواق لأنه ليس اتفاقية تجارة حرة تقليدية. وتمثل الدول المشاركة معا نحو 40% من الاقتصاد العالمي، وأي اتفاقات محددة تنبثق عن التجمع يمكن أن تقطع شوطًا طويلًا نحو وضع معايير تتجاوز عضويته.
والحاجة إلى مثل هذه الاستراتيجية ملحة؛ فلدى الولايات المتحدة مصالح عميقة وثابتة في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادي الأسرع نموًا، فهي تمثل 60% من الاقتصاد العالمي، وموطنًا لأكثر من نصف سكان العالم وسبعة من أكبر 15 نظامًا اقتصاديًا، وتضم أكثر من 3000 لغة، والعديد من الأديان، التي تمتد عبر محيطين وثلاث قارات.
وحاليًا، يقع نصف أكبر الشركاء التجاريين للولايات المتحدة في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ. فضلًا عن أنها الوجهة لما يقرب من ثلث الصادرات الأمريكية، ومصدر لما يبلغ من 900 مليار دولار من الاستثمار الأجنبي المباشر في الولايات المتحدة. وهذا يخلق ملايين الوظائف المنتشرة في جميع الولايات الخمسين. فضلًا عن تمركز المزيد من أفراد الجيش الأمريكي في المنطقة أكثر من أي مكان آخر.
وتأتي مبادرة بايدن الجديدة بعد أقل من خمسة أشهر من دخول الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة التي تقودها الصين حيز التنفيذ رسميًا، والتي تربط 15 اقتصادًا في آسيا والمحيط الهادئ في أكبر كتلة تجارية في العالم. معظم الدول التي وقع عليها بايدن في إطاره تنتمي بالفعل إلى الكتلة مع الصين.
وسيكون الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ IPEF أيضًا منصة تعاون اقتصادي إقليمي أوسع نطاقًا من الاتفاقية الشاملة والمتقدمة للشراكة عبر المحيط الهادئ (CPTPP). وتشمل اتفاقية CPTPP ما يصل إلى 11 دولة، بما في ذلك اليابان وكندا وسنغافورة وأستراليا ونيوزيلندا والمكسيك وفيتنام. وأظهرت البيانات أن إجمالي عدد سكان الدول الأعضاء بلغ 510 ملايين، وكان ناتجها المحلي الإجمالي 10.8 تريليونات وون. وتعمل كوريا الجنوبية والصين على الانضمام إلى الاتفاقية.
الاستراتيجية الأمريكية في منطقة آسيا والمحيطين الهندي والهادئ
ترى إدارة الرئيس بايدن منطقة آسيا والمحيط الهادئ والتحدي الذي يمثله صعود الصين قضيتها الاستراتيجية الأولى. واتخذت في سبيل ذلك سلسلة من الخطوات لتعزيز علاقاتها مع الحلفاء والشركاء في المنطقة شملت: طرح مبادرة منافسة لمشروع “الحزام والطريق” الصيني للاستثمار في البنى التحتية، وتمتين العلاقات بين الولايات المتحدة ومجموعة آسيان، وإعاد إحياء الحوار الأمني الرباعي المكون من الهند واليابان وأستراليا بعد عشر سنوات من الاجتماعات على مستوى الوزراء.
وشارك بايدن في اجتماعات قمة ذات مستوى قيادي وهيئات إقليمية رئيسة: مثل منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، ومؤتمرات قمة الولايات المتحدة ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان). واتخذت واشنطن خطوات تاريخية لاستعادة الريادة الأمريكية في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ، وكذلك تكييف دورها مع القرن الحادي والعشرين.
وقامت بتحديث تحالفاتها طويلة الأمد، وعززت الشراكات الناشئة، وأقامت روابط مبتكرة فيما بينها لمواجهة التحديات الملحة، من المنافسة مع الصين إلى تغيير المناخ والوباء. ويعكس هذا التقارب حقيقة لا يمكن إنكارها هي أن منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ هي الأكثر حيوية في العالم، وإن مستقبلها يؤثر على الشعوب في كل مكان.
النهج الاستراتيجي للاهتمام بمنطقة المحيطين الهندي والهادئ بدأ مع الرئيس الأسبق باراك أوباما، وامتد إلى عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، ثم الرئيس بايدن الذي صنف آسيا كأولوية جيواستراتيجية قصوى لبلاده. وتحدد هذه الاستراتيجية رؤية الرئيس بايدن لترسيخ الولايات المتحدة بقوة أكبر في المنطقة. وينصب تركيزها الرئيس على التعاون المستمر مع الحلفاء والشركاء، وكذلك المؤسسات داخل المنطقة وخارجها. وتشير الاستراتيجية الإقليمية الأولى التي تصدرها إدارة بايدن، إلى “التحديات المتزايدة” التي يشكلها صعود الصين كمحرك رئيس “للتركيز الأمريكي المكثف” على منطقة المحيطين الهندي والهادي.
تم الكشف عن الاستراتيجية في فبراير الماضي بينما كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في المحيط الهادئ، حيث اجتمع مع مسؤولين من اليابان وأستراليا ودول جزر المحيط الهادئ ودول أخرى. وأوضحت إدارة بايدن عزمها إعطاء الأولوية لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ، واصفة الصين بأنها “المنافس الوحيد” الذي لديه “القدرة على تشكيل تحدٍ مستدام لنظام دولي مستقر ومفتوح”.
مع هذا التقييم، جاء الاعتراف بأن تلبية متطلبات المنافسة الاستراتيجية مع الصين -أقوى منافس واجهته الولايات المتحدة على الإطلاق- سيتطلب تركيزًا هائلًا للموارد الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ. وكان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان والجهود المبذولة لبناء علاقة “مستقرة ويمكن التنبؤ بها” مع روسيا تهدف إلى تحرير الموارد الأمريكية للتركيز على منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وقد غّير الغزو الروسي لأوكرانيا تلك الحسابات الاستراتيجية. وجاء الإفصاح عن استراتيجية المحيطين الهندي والهادئ وسط أخطر أزمة تواجهها أوروبا بعد الحرب الباردة. وهذا يعني أن التوقيت له دلالة حيث تعقد المداولات بسبب التقييمات الأمريكية لإثبات أن الصين، وليس روسيا، هي مصدر القلق الأكثر أهمية على المدى الطويل لأمن الولايات المتحدة.
وفي ذلك، رفع البنتاجون عدد القوات الأمريكية في أوروبا، من حوالي 60 ألف إلى أكثر من 100 ألف، نتيجة لزيادة القوات العسكرية الروسية حول أوكرانيا وما تلاها من غزو. وقال المتحدث باسم وزارة الدفاع جون كيربي “في الوقت الحالي، أعتقد أننا سنكون قادرين على المشي ومضغ العلكة في نفس الوقت، وجعل منطقة المحيطين الهندي والهادئ مسرحًا ذا أولوية، مع إدراك أنه يتعين علينا زيادة حجمنا قليلًا في أوروبا”.
وتتراوح العناصر الرئيسة للاستراتيجية من تحديث التحالفات والعمل مع المنظمات الإقليمية إلى تعزيز المؤسسات الديمقراطية وبناء إطار اقتصادي جديد. متعهدة “بالتركيز على كل ركن من أركان المنطقة، من شمال شرق آسيا وجنوب شرق آسيا، إلى جنوب آسيا وأوقيانوسيا، بما في ذلك جزر المحيط الهادئ. وحددت الإستراتيجية الأهداف الرئيسة التي تعتزم الولايات المتحدة تحقيقها بالتنسيق مع الحلفاء والمؤسسات الإقليمية على النحو التالي:
منطقة حرة ومفتوحة عن طريق الاستثمار في المؤسسات الديمقراطية والصحافة الحرة وكذلك المجتمع المدني، وتحسين الشفافية المالية في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ لكشف الفساد ودفع الإصلاح، والتأكد من أن بحار المنطقة وأجواءها يتم حكمها واستخدامها وفقًا للقانون الدولي، وتعزيز المناهج المشتركة للتقنيات المهمة والناشئة، وكذلك الإنترنت والفضاء الإلكتروني.
منطقة مترابطة ومتواصلة: وذلك من خلال تعزيز التحالفات التعاقدية الإقليمية الخمس مع أستراليا واليابان وجمهورية كوريا وكذلك الفلبين وتايلاند. وتعزيز العلاقات مع الشركاء الإقليميين الرائدين، بما في ذلك الهند وإندونيسيا وماليزيا، وكذلك منغوليا ونيوزلندا وسنغافورة، فضلًا عن تايوان وفيتنام وجزر المحيط الهادئ. بالإضافة إلى المساهمة في تكوين رابطة آسيان موحدة وتتمتع بالصلاحيات، وتعزيز الرباعية والوفاء بالتزاماتها ودعم نهوض الهند المستمر وقياداتها الإقليمية وإقامة اتصالات بين منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ ومنطقة الأورو-أطلسي.
منطقة مزدهرة: إن ازدهار الأمريكيين مرتبط بمنطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ. ويتطلب ذلك استثمارات لتشجيع الابتكار وتعزيز القدرة التنافسية الاقتصادية وإيجاد وظائف جيدة الأجر وكذلك إعادة بناء سلاسل التوريد وتوسيع الفرص الاقتصادية لأسر الطبقة المتوسطة: إذ سينضم 1.5 مليار شخص في منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ إلى الطبقة الوسطى العالمية في هذا العقد. وتعزيز التجارة والاستثمار الحر والعادل والمفتوح من خلال منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (APEC)، بما في ذلك المنتدى الذي ستستضيفه الولايات المتحدة في 2023.
منطقة آمنة: حافظت الولايات المتحدة لمدة 75 سنة على وجود دفاعي قوي ومنسق وثابت. وسوف تعزز أمن منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ بالاعتماد على جميع أدوات القوة لردع العدوان والتصدي للإكراه، من خلال: تعزيز الردع المتكامل، والحفاظ على السلام والاستقرار عبر مضيق تايوان، وتعزيز الردع الموسع والتنسيق مع الحفاء في جمهورية كوريا واليابان، والسعي إلى إخلاء شبه الجزيرة الكورية من الأسلحة النووية بشكل كامل، بالإضافة إلى الاستمرار في الالتزام بمعاهدة أوكوس الأمنية بين الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأستراليا، والعمل مع الكونجرس لتمويل مبادرة ردع المحيط الهادئ ومبادرة الأمن البحري.
منطقة قابلة للتكيف: تواجه منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ تحديات عابرة للحدود. ويزداد تغير المناخ أكثر من أي وقت مضى مع ذوبان الأنهار الجليدية في جنوب آسيا ومقاومة جزر المحيط الهادئ للارتفاعات الوجودية في مستويات سطح البحر. ولا تزال جائحة كوفيد-19 تسبب خسائر بشرية واقتصادية مؤلمة في جميع أنحاء المنطقة. وتكافح حكومات منطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ ضد الكوارث الطبيعية وندرة الموارد وكذلك الصراعات الداخلية وتحديات الحوكمة. وإذا تم ترك هذه القوات دون رادع، فإنها تهدد بزعزعة استقرار المنطقة. وستعمل الولايات المتحدة على بناء قدرة إقليمية على الصمود أمام التهديدات العابرة للحدود في القرن الحادي والعشرين.
رياح معاكسة
في حين أن كل ما سبق هو اتجاهات إيجابية للمصالح الأمريكية في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، لكن التحديات والرياح المعاكسة قوية جدًا؛ فالدول النامية في آسيا مترددة في إدانة الهجوم الروسي، وتركز بشكل كبير على الأمن الغذائي، وارتفاع أسعار النفط، والتعافي من الوباء. ووسعت اليابان وكوريا الجنوبية طموحاتهما في السياسة الخارجية، لكنهما لم تظهرا بعد ما إذا كانتا تمتلكان الإرادة السياسية لإصلاح العلاقات بينهما والتنسيق بشأن المصالح المشتركة على المستوى الثنائي والمستوى الثلاثي مع الولايات المتحدة. بجانب أن بايدن أخطأ في صياغة السياسة الأمريكية؛ إذ لا يوجد التزام رسمي بالدفاع عن تايوان، وفشلت الولايات المتحدة في توجيه دعوة للجزيرة للانضمام إلى الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ IPEF.
رد فعل بكين: رأى وزير الخارجية الصيني وانغ يي أن “ما يسمى باستراتيجية المحيطين الهندي والهادئ التي تعتمدها الولايات المتحدة هي في جوهرها استراتيجية لإثارة الانقسام والتحريض على المواجهة وتقويض السلام. وبغض النظر عن كيفية تغليفها أو إخفائها، فإنها ستفشل حتمًا في النهاية”. وعلى هذا، أطلقت الصين مبادرة كبرى تهدف الى توسيع التعاون في المجال الأمني والتبادل الحر مع دول المحيط الهادىء.
وتعرض مسودة اتفاق واسع النطاق وخطة على خمس سنوات، احتمال إبرام اتفاق إقليمي للتجارة الحرة وآخر للتعاون الأمني. وستجري مناقشتهما أثناء زيارة يجريها وزير الخارجية الصيني وانغ يي لدول في منطقة المحيط الهادئ خلال الأيام المقبلة.
وتعرض الاتفاقيات على عشر دول جزرية صغيرة مساعدات صينية بملايين الدولارات، وإمكان إبرام اتفاق للتجارة الحرة بين الصين وجزر الهادئ للوصول إلى السوق المربحة للصين التي تعد 1,4 مليار نسمة. في المقابل، ستدرب بكين الشرطة المحلية وستتدخل في الأمن الإلكتروني المحلي وتوسع العلاقات السياسية، وستجري عمليات مسح بحري حساسة، وستحصل على حق الوصول بشكل أكبر إلى الموارد الطبيعية المحلية.
مخاوف الدول الناشئة: استند الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ IPEF إلى إثبات أن الولايات المتحدة شكلت قوة من أجل الاستقرار في المنطقة منذ الحرب العالمية الثانية، وهو ما يبرر الاصطفاف معها في القضايا الإقليمية. لكن الدول الناشئة في المنطقة قد تكون أقل اهتمامًا بهذا الإرث التاريخي مقارنة بالاستثمارات الصينية القوية. خاصة أن الإطار الذي تحركه الاعتبارات الجيوسياسية أكثر من العوامل الاقتصادية، يستثني الصين.
وبالتالي فإن الدول الإقليمية مترددة في الوقوع في معضلة اختيار جانب بين الصين والولايات المتحدة، خاصة عندما تكون الصين أكبر شريك تجاري لها. ومنذ إدارة أوباما، حاولت الولايات المتحدة إضعاف العلاقة الاقتصادية بين الصين ودول المحيطين الهندي والهادئ، والتي تعد أساسًا جوهريًا لـ “نفوذ الصين الدولي”. ويقول الاستراتيجيون الأمريكيون إن العلاقات الاقتصادية والتجارية الوثيقة بين الصين ودول المحيطين الهندي والهادئ تشكل تحديًا للهيمنة الإقليمية للولايات المتحدة. وأن الصين تستخدم الوسائل الاقتصادية لإضعاف تماسك نظام التحالف الأمريكي.
صعوبة بناء ركيزة اقتصادية: منذ أن اقترحت إدارة ترامب استراتيجيتها في المحيطين الهندي والهادئ، تعرضت الاستراتيجية لانتقادات بسبب افتقارها إلى ركيزة فعالة للسياسة الاقتصادية. وتعود جذور المشكلة إلى نهج “أمريكا أولًا” الذي تبنته إدارة ترامب، ونفور واشنطن المتزايد من “التجارة الحرة”. وكما قالت مجلة الإيكونوميست البريطانية، فإن السياسة الاقتصادية الدولية التي تبنتها إدارة بايدن هي نوع من “الحمائية الناعمة” وأن سياسة بايدن الاقتصادية الدولية في جوهرها، هي نسخة الحزب الديمقراطي من “أمريكا أولًا”.
وتكمن المشكلة الأكبر للإطار الاقتصادي في صعوبة توفير مزايا عملية من حيث الوصول إلى الأسواق في البلدان الإقليمية. وتتطلع البلدان النامية في جنوب شرق آسيا وجنوب آسيا إلى تصدير المنتجات الزراعية والمنتجات المصنعة إلى الولايات المتحدة. ومع ذلك، عارضت مجموعات العمل الأمريكية، ومعظم الديمقراطيين والجمهوريين، تدابير مثل تخفيض الرسوم الجمركية، بحجة أنها ستضعف العمالة المحلية والتصنيع. وهذا أيضًا هو السبب وراء اختيار إدارة بايدن الابتعاد عن اتفاقيات التجارة الإقليمية مثل CPTPP و RCEP.
استبعاد تايوان: نقطة ضعف أخرى في هذه المبادرة هي الغياب الملحوظ لتايوان بين الدول المشاركة في حين أن هذه الجزيرة -التي تطالب بكين بعودتها إلى سيادتها- هي مركز عالمي لصناعة أشباه الموصلات وتكنولوجيا أساسية أخرى. ولكن كان من شأن إدراج تايوان أن يثير رد فعل من بكين، الأمر الذي كان من الممكن أن يردع بعض الدول عن الانضمام الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ بالإضافة إلى رغبة بعض الأعضاء في عدم خلق توترات مع الصين.
والعقبة الرئيسة أمام تايوان في الانضمام إلى هذا الإطار يعود إلى المسألة الدائمة المتمثلة في الاسم الذي ينبغي استخدامه. تايوان حاليًا عضو في منظمة التجارة العالمية تحت اسم “الإقليم الجمركي المنفصل لتايوان وبنغهو وكينمن وماتسو”. وبالنسبة للولايات المتحدة، فإن السماح لتايوان بالانضمام إلى الإطار تحت نفس الاسم ينطوي على خطر توفير الشرعية للترتيبات التي تحط من سيادة تايوان أو تقلل من شأنها. وأكدت واشنطن تعزيز شراكتها الاستراتيجية مع تايوان بما يشمل مجال أشباه الموصلات وسلاسل التوريد لكن ذلك سيتم على أساس ثنائي.
سوء التوقيت: قد يكون الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ IPEF ضحية لسوء التوقيت؛ فمن المقرر بدء المفاوضات خلال الأسابيع القليلة المقبلة، ومن غير المرجح إحراز تقدم كبير قبل انتخابات التجديد النصفي الأمربكية المقرر إجراؤها في نوفمبر المقبل.
ومع تفشي التضخم وتهاوي شعبية بايدن إلى مستويات متدنية جديدة، سيجعل الدول المتفاوضة على الاتفاقية تتساءل عن مدى قدرة الرئيس الأمريكي على الوفاء بالوعود التي ستقدمها بلاده على طاولة المفاوضات. وسوف يتذكر مراقبو التجارة الدولية أن تلكؤ إدارة باراك أوباما بشأن اتفاق الشراكة الشاملة والتقدمية عبر المحيط الهادئ (TPP) وانسحاب إدارة ترامب منه سيؤثر سلبًا على الاتفاق الجديد لبايدن مع دول المنطقة. وإذا فشلت المبادرة التجارية الأمريكية، فإنها ستوجه ضربة قوية لسمعة واشنطن فيما يتعلق بمهارات القيادة الاقتصادية في آسيا.
ختامًا، يعاني الاقتصاد العالمي من صدمات متعددة مثل ارتفاع التضخم والصراعات الجيوسياسية وأزمات الطاقة، وتواجه منطقة آسيا والمحيط الهادئ تهديدات خطيرة. فقد أصدرت وحدة دعم السياسات التابعة لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC) تقريرًا في 20 مايو، قائلة إن النمو الاقتصادي في المنطقة في عام 2022 سيتباطأ من 5.9% في عام 2021 إلى 3.2% بسبب عوامل مثل عودة ظهور الوباء واضطرابات سلاسل الإمداد.
ويسعى الإطار الاقتصادي لإدارة بايدن إلى سد الفجوة بين المشاركة الاقتصادية والأمنية للبلاد، والتي غذاها انسحاب إدارة ترامب من الشراكة السابقة عبر المحيط الهادئ في عام 2017 بينما واصلت الولايات المتحدة متابعة سلسلة من المبادرات المتعلقة بالأمن، مثل الشراكة الأمنية AUKUS. وفي الوقت نفسه، لا يبدو أن الولايات المتحدة ولا الصين على استعداد لقبول دور موسع للآخر في النظام الإقليمي والعالمي الناشئ. وقد ألمح نائب وزير الخارجية الصيني لي يوتشنغ إلى ذلك عندما حذر من أن استراتيجية الولايات المتحدة في المحيطين الهندي والهادئ “لا تقل خطورة عن استراتيجية حلف شمال الأطلسي للتوسع شرقًا في أوروبا وإذا سمح لها بالاستمرار دون رادع.. من شأن ذلك أن يجلب عواقب لا يمكن تصورها، وأن يدفع في نهاية المطاف آسيا والمحيط الهادئ إلى حافة الهاوية”. وبالتالي، فإن ما تحتاج إليه منطقة آسيا والمحيط الهادئ هو التعاون بين الولايات المتحدة والصين وليس التشرذم.