
القمة الثلاثية التاسعة.. مصر مركز أعصاب الطاقة في المنطقة
أطلقت مصر آلية التعاون الثلاثي المشترك مع قبرص واليونان، من القاهرة في نوفمبر من العام 2014، وكانت البنية التأسيسية لهذه الآلية مجموعة من الاتفاقات الإطارية في ملفات الطاقة والأمن الإقليمي والاقتصاد والسياسة الخارجية. وقد عبّرت هذه الاتفاقات الإطارية عن توافق استثنائي في الرؤى الكلية للدول الثلاثة حيال مجمل التطورات الجيوسياسية في المنطقة الممتدة من العراق شرقًا وصولًا لليبيا غربًا، وشرق ووسط أوروبا شمالاً وصولاً للبحر الأحمر ومنطقة الساحل والصحراء جنوبًا.
بيد أن المراقبين الدوليين آنذاك لم يتوقعوا لآلية التعاون الثلاثي المشترك الصمود أمام رياح التقلبات الجيوسياسية في المنطقة، التي مازالت تكابد تداعيات اختلال موازين القوى فيها جراء موجات ما يُسمي بالربيع العربي الذي كان بمثابة “طلقة” الانطلاق للقوى الإقليمية غير العربية في مارثون مشروعاتها التوسعية القومية، علاوة على الانسحاب الأمريكي التدريجي من المنطقة والذي تسبب هو الآخر في تنافس كبير ومحموم بين القوي الإقليمية على الفوز بـ “وكيل” السياسات والأجندة الأمريكية.
فضلاً عن محاولة قوي إقليمية أخرى فرض أجندتها السياسية بالقوة ضد منطق “الوكالة الإقليمية الامريكية”، وكان مسرح هذه الاشتباكات المدوية هو ذاته المسرح الذي وُلِد فيه التحالف الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان، مسرح بري وبحري في آن واحد، ما جعل توقعات المراقبين آنذاك له متواضعة؛ إلا إنه ومع مرور سبع سنوات من تاريخ تأسيس آلية التعاون الثلاثي المشترك بين مصر وقبرص واليونان، انتقلت هذه الآلية بدولها الثلاث من مرحلة الصمود أمام التحولات الأمنية، إلى مرحلة صياغة خريطة جيوسياسية جديدة في المنطقة تستند في مركزها على “الطاقة”.
حيث عُقِدت اليوم، الثلاثاء، 19 أكتوبر 2021، بالعاصمة اليونانية “أثينا” القمة التاسعة لآلية التعاون الثلاثي المشترك بين مصر وقبرص واليونان، وتم التوقيع على اتفاق ثلاثي للربط الكهربائي بين مصر وقبرص واليونان، بيد أن هذا الاتفاق يمكن عدّه كتتويج لسبع سنوات من العمل والتخطيط المتواصل ضمن آلية التعاون الثلاثي المشترك حتى إذا ما وُضِع هذا الاتفاق في مقارنة مع إتمام ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان بعد عقد كامل من الإجراءات الفنية والمفاوضات الجادة، وذلك للتداعيات الجيوسياسية الكبيرة لربط شبكة كهرباء مصر مع قبرص واليونان. وقبل معالجة هذه التداعيات، يجب أولاً توضيح محطات وتفاصيل الاتفاق الثلاثي للربط الكهربائي.
أولاً: “تخليق” فائض استراتيجي للدولة المصرية من الطاقة الكهربائية وإدارته وفقًا للمتغير الجيوسياسي.. معركة الثمانِ أشهر ونصف
يمثل قطاع الطاقة الكهربائية في مصر سيناريو دراماتيكي للتحول من عبئ على كاهل الدولة المصرية، إلى واحد من أهم مقومات قوتها الشاملة على المسرح الدولي، حيث واجهت مصر تحديات جسيمة قبل سنوات وتحديدًا منذ عام 2014؛ متعلقة بوجود اختناقات في شبكة الكهرباء وبنيتها التحتية ناتج عن تقادم 30% من وحدات إنتاج الكهرباء، علاوة على وجود عجز في إمداد الوقود اللازم لتشغيل محطات توليد الكهرباء، وتسبب ذلك في وصول نسبة العجز في إنتاج الطاقة الكهربائية لـ 20% أمام الطلب الداخلي. لدرجة وصول عجز الأحمال في أحد أيام صيف العام 2014 إلى ما يزيد عن 6 آلاف ميجا وات.
حينها قررت الدولة المصرية بدء معالجة الملف من خلال خطة عاجلة، كانت أشبه بصدمات الإعاشة الكهربائية لهذا القطاع، وتمثلت الخطة العاجلة في وضع إجمالي قدرات 3636 ميجاواط واستثمارات تبلغ 2.7 مليار دولار، مع ضرورة الانتهاء من تنفيذ هذه الخطة في غضون 8 أشهر ونصف، وتضمنت الخطة أيضًا إقامة وتشغيل 8 محطات، وتجدر الإشارة إلى أنه منذ صيف عام 2015 وحتى الآن لم يحدث تخفيفًا للأحمال.
حيث وضعت خطة “الإنعاش” العاجلة مصر على الطريق الصحيح في تحقيق اكتفائها الذاتي من الكهرباء، لدرجة تحقيق وفر مالي من خلال رفع كفاءة محطات التوليد وصلت قيمته لـ مليار دولار، كما تمكنت وزارة الكهرباء منذ نهاية عام 2014 حتى نهاية عام 2018 من إنشاء 28 محطة توليد كهرباء جديدة تضم 114 وحدة بإجمالي قدرات وصلت إلى 28 ألف ميجا وات، أي ما يمثل 12 ضعف قدرة السد العالي.
حتى تُوجت المعالجة المصرية لملف الكهرباء بتحقيق احتياطي وفائض إنتاج قدره 25%، والوصول لقدرة إنتاجية 60 ألف ميجا وات، وتظهر قيمة هذا الرقم الإنتاجي الضخم إذا وضع في مقارنة مع أقصى حمل لأيام صيف 2021، حيث وصلت الأحمال في ذروتها لـ 30 ألف ميجا وات، ما وضع مصر في بر الأمان من حيث الإحتياج الكهربائي.
وهو ما دفع مصر للنظر إلى مجالها الحيوي، بحثًا عن أفضل توظيف لهذا الفائض الكبير من الطاقة، توظيف يحمل في طياته متغيرات الخريطة الجيوسياسية، ولاسيمّا بعدما أدخلت مصر الطاقة الشمسية والرياح في عملية إنتاج الكهرباء، من خلال تدشين مشروعي الزعفرانة ” طاقة شمسية”، ومشروع غرب بكر “طاقة رياح” في منطقة السويس. علاوة على مشروع “بنبان” في أسوان، الذي يمثل أكبر مشروعات الطاقة النظيفة الجديدة والمتجددة فى الشرق الأوسط. وتعتزم مصر الاعتماد على الطاقة المتجددة (شمسية – رياح – مياه) في توليد الكهرباء بنسبة 20% بحلول نهاية عام 2021، و 42% بحلول عام 2035، وإلى 61% بحلول عام 2040
تشير الأرقام السابقة إلى عدة نقاط:
- رغبة الدولة المصرية في تخفيف فاتورة إنتاج الطاقة الكهربائية الوقود الهيدروكربوني (الغاز + النفط ومشتقاته + الفحم). لتلبية الطلب الإقليمي على الغاز ولاسيّما وأن دول الجوار لم تُطور بنية تحتية لتوليد الطاقة الكهربائية من خلال الطاقة النظيفة.
قيادة مصرية للمنطقة في مجال إنتاج الكهرباء خلال العقد المقبل، هذا ما ذكره التقرير الصادر عن مؤسسة أبحاث بي إم آي، التابعة لوكالة فيتش سوليوشنز للربع الأول من 2020. ويتوقع التقرير، أن تكون مصر واحدة من أسرع أسواق الطاقة المتجددة غير الكهرومائية نموًا في المنطقة على مدار 10 سنوات مقبلة، إذ ستزيد تلك القدرات بأكثر من 8.5 جيجاوات، بمعدل نمو سنوي 22.1% بين عامي 2019 و2028″
الدراية العميقة للقيادة المصرية بما يدور من إشكاليات في ملف الطاقة في أوروبا من النرويج شمالاً وصولاً لليونان وقبرص جنوبًا، بما يؤشر على تحرك وشيك من القاهرة باتجاه الشمال. وهذا ما سيوضح لاحقاً
ثانياً: أوروبا الانتقائية.. ما تداعيات ربط شبكة كهرباء مصر مع قبرص واليونان؟
تحاول أوروبا التخلص من اعتمادها الكبير على روسيا لتلبية احتياجاتها من الغاز الطبيعي، إذ تتراوح نسبة الاستهلاك الأوروبي من الغاز الروسي بين 37 إلى 40% من إجمالي واردات الغاز لكامل أوروبا. وتعتبر هذه النسبة الكبيرة بمثابة خرقًا لأدبيات الأمن القومي للاتحاد الأوروبي وتهديدًا مستمرًا لحلف شمال الأطلسي، حيث توظف روسيا هذه الاعتمادية الأوروبية الكبيرة عليها في ملف الغاز، سياسيًا.
ما حوّل الغاز الروسي لأداة ابتزاز لموسكو باتجاه الغرب. وهو ما ظهر جليًا في أزمة ارتفاع أسعار الطاقة منذ أقل من شهر. حيث ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا لـ 25%، جراء استعادة النشاط الاقتصادي في أوروبا، وتقليص روسيا لإمداداتها متعللة بأسباب فنية تتعلق بملء خزاناتها المحلية على حساب كميات التصدير للخارج. وتزامن ذلك مع تقليص النرويج لصادراتها من الغاز جراء تعطل مرافق البنية التحتية لها. مع عرض إنتاج الكهرباء في بعض دول الاتحاد الأوروبي للخطر، وفي مقدمتها الطاقة اللازمة لتدفئة ملايين المنازل.
ولذلك يجئ توقيت توقيع مصر لاتفاقية الربط الكهربائي الثلاثي المشترك مع قبرص واليونان؛ فارقًا بشكل لا يمكن تجاهل أصداءه في أوروبا. ففي الوقت الذي تبحث فيه أوروبا عن بدائل للتزود بالوقود والكهرباء بعيدًا عن موسكو، تظهر مصر كأول مورد للطاقة لأوروبا (غاز + كهرباء) من خلال البوابة الجنوبية، قبرص واليونان. وتحرص أوروبا أن تتنقي مصادر بديلة للطاقة تحقق من خلالها الأهداف الطموحة للغاية التي حددتها لتقليل الانبعاثات الحرارية.
وعلى الرغم من استثنائية توقيت الربط المصري مع قبرص واليونان، من حيث أزمة الطاقة العالمية، واستخدام روسيا إمداداتها كأداة ابتزاز لأوروبا؛ جاءت التحركات المصرية هادئة ورصينة، حيث وقعت مصر أولًا اتفاقات الربط على المستوى الثنائي مع قبرص واليونان، قبل أسبوع وكانت على مستوي وزراء الطاقة والكهرباء، وشهدت أثينا اليوم التوقيع على الاتفاق الثلاثي لربط شبكة الكهرباء المصرية مع الدولتين، وتم إسناد دراسات الجدوى والإشراف على المشروع إلى شركة Africa International Euro الأوروبية.
وسيتم ربط مصر بقبرص بكابل يبلغ طوله 498 كم، ثم وصلها بجزيرة كريت اليونانية بكابل يبلغ طوله 898 كم، ويوفر اتصالًا بشبكة الكهرباء لقارة أوروبا، ويصل عمق مد الكابلات إلى 3000 متر تحت مستوى سطح البحر فى بعض المناطق. وتصل سعة الكابل البحري في نقاطه الثلاثة (مصر – قبرص – اليونان) إلى 2 جيجاوات. ويمكن تحديد تداعيات هذا الاتفاق الثلاثي الأخير طبقاً للنقاط التالية:
- دمج شبكة الكهرباء المصرية بنظيرتها الأوروبية، حيث سيؤدي تنفيذ المشروع إلى إطلاق قدرة تبلغ 700 ميجاوات في شبكات نقل الكهرباء الحالية بين اليونان وإيطاليا، ما يؤشر على جدية دمج شبكة الكهرباء المصرية بنظيرتها الأوروبية، ويمهد الطريق امام خطوط مصرية للبلقان ووسط أوروبا.
- تدعيم منظومتي الردع المصرية واليونانية، تتقاطع المصالح بين مصر واليونان في منطقة شرق المتوسط، ما ساهم في تشابه كبير بين منظومة الردع المصرية القائمة حاليًا، ونظيرتها اليونانية التي ستنُجز خلال السنوات الخمس القادمة. وأوجه هذا التشابه يمكن في أسلوب الردع نفسه، كونه استراتيجي ويستند إلى جزئين: قوة السلاح، وتشابك الاقتصاد الوطني مع منظومة العولمة والمتغيرات الجيوسياسية. فمنظومة الردع المصرية عبارة عن بناء متكامل أساسه قوة السلاح النوعي، وواجهته الشراكات الاقتصادية العابرة للحدود بما يتوافق مع القانون الدولي. ولعل من المهم الإشارة إلى العلاقة الطردية بين تطور امتلاك مصر للأسلحة النوعية وتطور مستوي انخراطها في منظومة الاقتصاد المعولم، ومشاريع نقل الطاقة.
ولا يمكن فصل اتفاق الربط الكهربائي الثلاثي الأخير لمصر مع الشبكة الأوروبية من خلال البوابة الجنوبية “قبرص + اليونان” عن:
- الربط الكهربائي مع ليبيا بقدرة (200 ميجاوات).
- الربط الكهربائي مع السودان بقدرة (80 – 300 ميجاوات).
- الربط الكهربائي مع الأردن بقدرة (500 ميجاوات).
- الربط الكهربائي مع فلسطين بقدرة (30 ميجاوات).
- الربط الكهربائي مع السعودية: أعلنت وزارة الطاقة السعودية، الثلاثاء، 6 أكتوبر 2021، عن توقيع مصر والمملكة اتفاقيات مشروع الربط الكهربائي بين البلدين تبلغ تكلفته الإجمالية 1.8 مليار دولار، ويهدف المشروع إلى تبادل كمية تصل إلى 3000 ميجاواط من الكهرباء بين البلدين.
هذا إذا ما وضع في الاعتبار مخططات الربط المستقبلي مع كل من العراق بقدرة (700 ميجاوات) في غضون 24 شهرًا، ومخططات الربط مع سوريا ولبنان لاحقاً.
وبالنظر إلى مشروع الشام الجديد (مصر العراق الأردن) وموقع مصر فيه كمحطة لتداول ونقل الطاقة (نفط + غاز + كهرباء)، وبالنظر إلى التحالف الثلاثي (مصر قبرص اليونان)، وما شهده هذا التحالف من اتفاقات لترسيم الحدود البحرية والتعاون الدفاعي والاستخباراتي، ورعاية التحالف لخط الغاز “إيست ميد”، واتفاق نقل الغاز القبرصي من حقل أفروديت لمنشآت الإسالة المصرية وأخيرًا ربط شبكة الكهرباء المصرية مع أوروبا، نجد أن مصر وضعت البنية التحتية السياسية للتحول لمركز أعصاب الطاقة في المنطقة، إذ تتحرك مصر في مصفوفتين على الأقل من الدول بنمط التعاون الثنائي والجماعي.
هذا المركز انبثق بكل تأكيد من تفعيل آلية التعاون الثلاثي لمصر مع قبرص واليونان، وعلى قدر ما أفرزته الآلية من نموذج للتعاون الإقليمي المثمر في شتى المجالات، إلا أنها مازالت تواجه تهديدات في منطقة شرق المتوسط تحديدًا تنحصر في ارتفاع مستويات عسكرة التفاعلات فيها، وخاصة مع اهتمام الولايات المتحدة بإنشاء مزيد من القواعد العسكرية للطيران المُسير في الجزر اليونانية، فضلاً عن ضعف القدرات القتالية لقبرص والرعاية الأمريكية للتحالفات الناشئة مع إسرائيل في هذه المنطقة.