الاقتصاد الدولي

“منهج التجارب الطبيعية”.. تطوير جديد لدراسة الظواهر الاقتصادية يحصد جائزة نوبل

أعلنت الاكاديمية السويدية يوم الاثنين 11 أكتوبر الجاري، عن منح جائزة نوبل في الاقتصاد لثلاثة علماء، وهم الأمريكي “ديفيد كارد” والذي حصل على الجائزة نظير مساهماته التجريبية في “اقتصاديات العمل”، كما حصل عليها كل من الأمريكي “جوشوا أنغريست” والأمريكي الهولندي “غيدو إمبنس” لمساهماتهما المنهجية في “تحليل العلاقات السببية.” وقد تم منحهم الجائزة نظرًا لإسهاماتهم في إضافة منهج جديد لدراسة الظواهر الاقتصادية وهو منهج التجارب الطبيعية واستخدامه في تحليل العلاقات السبيية بين المتغيرات المختلفة.

منهج التجارب الطبيعية في العلوم الاجتماعية

يثار في المجتمعات العديد من التساؤلات من قبل الأفراد وصانعي السياسات حول العلاقة السببية بين بعض القرارات التي يتم اتخاذها في الحاضر ونتائجها المستقبلية، وماذا كان سوف يحدث إذا تم اتخاذ قرار مختلف؛ فعلى سبيل هناك تساؤلات حول كيفية تأثير الخيارات التعليمية التي يتخذها الأفراد في فترة الشباب على مستوى الدخل في المستقبل، وهناك تساؤلات أخرى من قبل صانعي السياسات مثل تأثير معدلات الهجرة على سوق العمل. ويصعب الإجابة على تلك التساؤلات من خلال التجارب الطبيعية فلا يمكن التحكم في قرارات ومصير الأفراد لتكوين مجموعة معالجة ومجموعة تحكم، فضلًا عن إن ذلك الأمر يتطلب فترة زمنية طويلة للغاية لحين ظهور تأثير تلك القرارات، بالإضافة لارتفاع تكلفة تلك التجارب. 

ويعد استخدام منهج التجارب الطبيعية أحد المناهج المتعارف عليها في العلوم الطبيعية، ومن أشهر استخداماته التحقق من فعالية الأدوية عن طريق تطبيق أساليب علاجية مختلفة على حيوانات التجارب. أما بالنسبة للعلوم الاجتماعية فمن الصعب معرفة الأثر المستقبلي للقرارات الحالية من خلال التجارب الطبيعية؛ وعلى الرغم من ذلك فقد أثبت العلماء الفائزون بجائرة نوبل هذا العام إمكانية تطبيق التجارب الطبيعية في العلوم الاجتماعية من خلال التطبيق على المواقف التي تلعب فيها الظروف السائدة، الطبيعية أو المؤسسية أو السياسية، دور رئيسي في معاملة الأشخاص بشكل مختلف، فينتج عن ذلك مجموعة معالجة ومجموعة تحكم دون تأثير الباحث عن قرارات ومصير الأفراد. 

التجارب الطبيعية وتأثير الحد الأدنى للأجور على معدلات البطالة

انطلقت إحدى دراسات “ديفيد كارد” من الفرضية التي كانت سائدة في التسعينات من القرن الماضي، والتي تقتضي بأن زيادة الحد الأدنى للأجور يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الأجور في الشركات، ومن ثم انخفاض فرص العمل وزيادة البطالة. وقد سمحت الظروف السائدة آنذاك فرصة للعلماء “ديفيد كارد” و”آلان كروجر” لاستخدام منهج التجارب الطبيعية للتحقق من صحة الفرضية بدراسة تأثير تغير الحد الأدنى للأجور على سوق العمل في كل من نيوجيرسي وبنسلفانيا؛ إذ شهد سوق العمل في نيوجيرسي ارتفاع الحد الأدنى للأجور من 4.25 دولارًا إلى 5.05 دولارًا في الساعة في أوائل عقد التسعينات، أما في ولاية بنسلفانيا، والتي يتماثل سوق العمل بها مع نظيره في نيوجيرسي، لم يحدث بها أي زيادة في الأجور في ذلك الوقت. 

وأفترض العلماء أنه مع تماثل ظروف سوق العمل في كلا المنطقتين فإن أي تغير في مستويات التوظيف يتم إرجاعه إلى تغير الحد الأدنى للأجور، وقد تم تطبيق الدراسة على معدلات التوظيف في مطاعم الوجبات السريعة والتي تتسم بانخفاض الأجور، ومن ثم فإن زيادة الحد الأدنى للأجور يؤثر على مستوى الدخول في تلك الصناعة. وقد أتت الدراسة بناتج مغايرة للفرضية السابقة، إذ تبين أن زيادة الحد الأدنى للأجور لم يكن له تأثير على مستويات التوظيف. وتلى ذلك البحث عدد اخر من الدراسات التي أثبتت أن الآثار السلبية لزيادة الحد الأدنى للأجور محدود للغاية بعكس ما كان سائد قبل ذلك، ويمكن تفسير ذلك بإمكانية تحميل المستهلك التكلفة المرتفعة من خلال زيادة الأسعار دون تأثير كبير على معدلات الطلب، أو أن رفع الأجور يؤدي لزيادة الطلب ومن ثم الحاجة لمزيد من العمالة لزيادة الإنتاج. 

J:\ecss\موضوعات مقترحة\جائزة نوبل في الاقتصاد 2021\الحد الادني للاجور ومعدلات البطالة.JPG

تأثير قرارات الهجرة على سوق العمل

وفي ذات السياق لعبت الصدفة دورًا هامًا في إتاحة فرصة أخرى لدراسة تأثير معدلات الهجرة على سوق العمل؛ ففي كوبا في أبريل 1980 تم السماح للمواطنين الراغبين في مغادرة البلاد بالخروج، مما أدى إلى هجرة 125 ألف مواطن كوبي إلى ولاية ميامي بالولايات المتحدة الامريكية، مما أدى إلى زيادة قوة العمل بها بمقدار 7%، فقام ديفيد كارد بمقارنة أوضاع سوق العمل في ولاية ميامي و4 مناطق أخرى. وجاءت النتائج مغايرة للمتوقع؛ إذ تبين عدم ارتفاع البطالة بين السكان الاصلين وكذلك عدم انخفاض الأجور، ويمكن تفسير ذلك بأن السكان الاصليون يتحولون للوظائف التي تتطلب إتقان اللغة الأم، فلا يحدث مزاحمة على ذات الوظائف.

تأثير الموارد المدرسية على سوق العمل

منح التباين في الظروف السائدة فرصة أخرى لدراسة تأثير الموارد المدرسية على كفاءة الطلاب في سوق العمل مستقبلًا باستخدام منهجية التجارب الطبيعية؛ فمع اختلاف معدلات الاستثمار في التعليم بين الولايات وبعضها البعض، قام “ديفيد كارد” و”آلان كروجر” بمقارنة العائد من التعليم بالنسبة للأشخاص الذين يعملون بولاية كاليفورنيا ولكنهم تلقوا التعليم في ولاية ألاباما وولاية آيوا، بعائدات التعليم للأشخاص الذين تلقوا تعليمهم بكاليفورنيا ويعملون بها، وقد أثبتت النتائج أن زيادة الاستثمار في المدارس ومواردها والمعلمين وعددهم وإمكانياتهم، يؤدي إلى زيادة عوائد التعليم خاصة بالنسبة للأفراد من الخلفيات الفقيرة والأماكن المحرومة. ومع أهمية تلك الدراسة في التأكيد على إمكانية استخدام منهج التجارب الطبيعية في العلوم الاجتماعية، إلا إنها من جهة أخرى أكدت على أهمية الاستثمار في رأس المال البشري، ودور ذلك في زيادة العوائد المستقبلية التي من شأنها المساهمة في خروج الأفراد من دائرة الفقر والعوز.

تحليل العلاقات السببية بين عدد سنوات التعليم ومستوى الدخول

وعلى صعيد متصل، تمكن العلماء “جوشوا أنغريست” و”غيدو إمبنس” من استخدام التجارب الطبيعية في دراسة تأثير عدد سنوات التعليم على الدخول المستقبلية للأفراد، وذلك من خلال دراسة الوضع بالنسبة للأطفال بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث تبدأ مرحلة الدراسة في نفس التاريخ بالنسبة لجميع الأطفال المولدون في نفس العام، إلا إن الأطفال المولدون خلال الربع الأول من العام يتركون الدراسة قبل الأطفال المولودين في وقت لاحق من العام. ومن ثم تم مقارنة أوضاع الأشخاص الذين ولدوا في الربعين الأول والرابع من ذات العام، للوصول إلى العلاقة السببية بين عدد سنوات التعليم ومستوى الأجر الوظيفي.

J:\ecss\موضوعات مقترحة\جائزة نوبل في الاقتصاد 2021\سنوات التعليم ومستوى الدخول.JPG

وقد بينت نتائج تلك الدراسة أن الأفراد الحاصلين على تعليم أقل هم الأقل دخلًا مقارنة بأقرانهم الذين ولدلوا في نهاية العام وقضوا مدة أطول في التعليم، ويوضح الشكل التالي أن سنة إضافية واحدة تؤدي إلى زيادة الدخل بمقدار 7% في المتوسط بالنسبة للرجال الذين ولدوا في الولايات المتحدة خلال عقد الثلاثينيات، بينما يحصل الأشخاص اللذين قضوا 12 عامًا من التعليم على دخل أعلى بنسبة 12% من الأشخاص الذين حصلوا على 11 عامًا من التعليم، ويتمتع الأشخاص الحاصلين على 16 عامًا من التعليم بدخل أعلى بنسبة 65% من الأشخاص الحاصلين على 11 عامًا من التعليم.

J:\ecss\موضوعات مقترحة\جائزة نوبل في الاقتصاد 2021\education and income.JPG

أخيرًا وليس آخرًا، فقد أضاف العلماء “ديفيد كارد” و”جوشوا أنغريست” و “غيدو إمبنس” منهج التجارب الطبيعية في مجال البحوث التجريبية في العلوم الاقتصادية، وقد تمكنوا من خلاله إثبات نتائج مغايرة للفرضيات السائدة. ويعد استخدام منهج التجارب الطبيعية إضافة كبيرة للباحثين في العلوم الاجتماعية والذي يمكن من خلاله الوصول إلى إجابات للعديد من التساؤلات ومعرفة النتائج المستقبلية للقرارات الحالية، الأمر الذي يمكن الأفراد وصانعي السياسات من اتخاذ الخيارات الأفضل بما ينعكس على المجتمع ككل.

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

أسماء رفعت

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى