تحديات سعر الصرف ومصلحة المواطن
تقوم المؤسسات الدولية الدائنة بعمل مراجعات دورية للاقتصادات المختلفة عند طلب تمويل؛ لمتابعة الأداء الاقتصادي بها وإصدار التوصيات اللازمة. وعندما توجهت مصر لطلب تمويل جديد من صندوق النقد الدولي، تضمنت الاشتراطات تحول البنك المركزي إلى سياسة تحرير سعر صرف الجنية المصري مقابل الدولار، بما يعني اجراء “تعويم” كامل للجنية المصري. وعلى الرغم من أهمية توصيات صندوق النقد الدولي فإن الرؤية المتعمقة للقيادة السياسة تبينت ما تنطوي عنه تلك التوصية من تحديات تمس الصالح العام للمواطنين، فتم إعلاء مصلحة المواطن المصري فوق غيرها من الاعتبارات.
السياسات المختلفة لسعر الصرف
تتمثل سياسات سعر الصرف في ثلاث سياسات رئيسة، وهي: سياسة سعر الصرف الثابت، وسياسة سعر الصرف المدار، وسياسة سعر الصرف الحر. وتعني سياسة سعر الصرف الثابت تحديد قيمة العملة المحلية مقابل الأجنبية بقيمة ثابتة، مثلما كان متبعًا في مصر قبل عام 2003، وتنطوي تلك السياسة على عدد من المتطلبات من أهمها عدم قدرة الدولة على إدارة سياسة نقدية مستقلة، وإنما عليها اتباع نفس السياسة النقدية المتبعة في الدولة التي تم ربط العملة المحلية بعملتها، فضلًا عن ضرورة توفر احتياطي من النقد الأجنبي يكفي للوفاء بمتطلبات سوق العملة؛ فيقوم البنك المركزي بعمليات السوق المفتوحة من خلال ضخ عملات أجنبية حال ارتفاع الطلب عليها وسحبها في حالة تراجع الطلب.
وتؤدي سياسة تثبيت سعر الصرف إلى ظهور السوق الموازية لصرف العملات، وعدم الحصول على إشارات من سوق الصرف حول قيمة العملة المحلية الحقيقة، والتي تعطي مؤشرًا حول الوضع الاقتصادي العام للدولة. وتكمن أهمية تلك الإشارات في تحديد السياسيات النقدية التصحيحية اللازم اتباعها.
أما سياسة سعر الصرف المدار والتي تم اللجوء إليها في مصر بعد تردي الأوضاع الاقتصادية نتيجة تثبيت سعر الصرف لعقود طويلة عام 2005، والتي عرفت باسم نظام الممر Corridor system ، فتعني تحديد مدى معين لتحرك سعر الصرف، أي السماح بارتفاع وانخفاض قيمة العملة المحلية وفقًا لظروف العرض والطلب ولكن في ظل حد أقصى وحد أدنى معين. وتسمح تلك السياسة بإدارة سياسة نقدية مستقلة، فضلًا عن أنها تتضمن تدخلات محدودة للبنك المركزي من خلال عمليات السوق المفتوحة، وتوفر إشارات مسبقة عن الأوضاع الاقتصادية من خلال تحركات قيمة العملة المحلية.
وأخيرًا، يأتي نظام سعر الصرف الحر، والذي يسمح بتحرك قيمة العملة المحلية مقابل الأجنبية وفقًا لقوى العرض والطلب. وعلى الرغم من اتفاق ذلك النظام مع التوجه لسياسات السوق الحر، فإنه وفقًا للخبرات الدولية لا يتم تطبيقه بشكل كامل، خاصة في اقتصادات الدول النامية والناشئة؛ ويمكن إرجاع ذلك إلى الخلل بين قوة العرض والطلب في سوق النقد الأجنبي.
ففي الحالة المصرية، تتمثل أهم مصادر عرض العملة الأجنبية في: الصادرات، والإيرادات السياحية، ودخل قناة السويس، وتحويلات العاملين بالخارج، وتدفقات الاستثمار الأجنبي والقروض الأجنبية. أما الطلب على العملة الأجنبية فيتمثل بشكل أساسي في: الواردات، وسداد القروض الأجنبية، وتحويلات الأرباح على الاستثمارات الأجنبية.
وعند تحليل تلك البنود والتي تنظم من خلال ميزان المدفوعات، يتبين تسجيل عجز كلي بلغ 10.55 مليارات دولار عام 2021/2022، ويستحوذ الميزان التجاري على الجزء الأكبر من ميزان المدفوعات وقد سجل عجز بقيمة 15.5 مليار دولار وفقًا لأحدث بيانات منشورة من البنك المركزي عن النصف الأول من العام المالي 2022/2023.
ويعكس الميزان التجاري حصيلة الصادرات والواردات المصرية والتي تبين تواضع قيمة الصادرات بدرجة ملحوظة، فضلًا عن انخفاض قيمة المكون المحلي بها، وقد بلغت 21.5 مليار دولار، في مقابل وصلت مدفوعات الواردات إلى ما يزيد عن 37 مليار دولار.
وعلى الرغم من ارتفاع قيمة الواردات، فإن وجود عدد كبير من المواد الخام والسلع الوسيطة والسلع الأساسية ضمن قائمة الواردات، يجعل أي تحريك لرفع سعر الصرف وتخفيض قيمة العملة ينعكس على الأسعار المحلية للسلع النهائية. وقد أشار الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال مؤتمر الشباب ببرج العرب إلى عدة أمثلة، منها أسعار الدواجن واللحوم والتي سوف تتأثر بشكل كبير نتيجة استيراد الأعلاف والذرة من الخارج.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن تبني الدولة لسياسة سعر الصرف المرنة في نوفمبر 2016 جاء بعد استنزاف حصيلة الاحتياطي من النقد الأجنبي خلال الفترة السابقة؛ حيث انخفض الاحتياطي الأجنبي من 36 مليار دولار قبل يناير 2011 إلى 16.5 مليار دولار في يناير 2016، ويؤدي هذا التراجع إلى عدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها الأجنبية المطلوبة، وعدم القدرة على تأمين احتياجاتها من السلع الأساسية المستوردة.
وقد صاحب قرار تحرير سعر الصرف اتخاذ عدد من الإجراءات التي تهدف إلى الحد من الآثار المرتبة على تلك السياسة؛ فتم الإعلان عن تثبيت سعر الدولار الجمركي عند مستوى 16 جنيه للحد من تذبذب أسعار الواردات من السلع الأساسية والمواد الخام والسلع الوسيطة والذي ينعكس على استقرار المستوى العام للأسعار محليًا، وتم الإعلان عن عدة مبادرات اجتماعية تهدف إلى التخفيف من حدة ارتفاع الأسعار والتي تصاحب دائمًا قرار تحرير سعر الصرف.
إجراءات مواجهة تحديات سوق الصرف الأجنبي
أدركت الدولة الخلل بين الصادرات والواردات والذي يسهم بشكل أساسي في تدهور أوضاع سوق الصرف الأجنبي، ويتبين ذلك من خلال إطلاق مبادرة “ابدأ” لتوطين الصناعة المصرية وزيادة قيمة المكون المحلي بالصادرات المصرية، والتي تعمل على مواجهة التحدي الهيكلي الذي يواجه الميزان التجاري وينعكس على وضع ميزان المدفوعات وقيمة العملة المحلية.
ومع توجه الدولة إلى زيادة الصادرات، فلا بد من تخفيض الطلب على الواردات حتى تكتمل منظومة الإصلاح وتؤتي ثمارها. ومن ثم فقد أوصى الرئيس خلال مؤتمر الشباب بضرورة تخفيض الطلب على السلع المستورة خاصة تلك التي لها بدائل محلية أو يمكن الاستغناء عنها، ويمثل ذلك حافزًا كبيرًا للمُنتج المحلي الذي يجب عليه ضرورة رفع جودة السلع المنتجة لتحفيز المستهلك المحلي على إحلالها محل الواردات. ويتطلب الأمر كذلك ضرورة العمل على زيادة الحملات الترويجية للسلع المنتجة محليًا والإعلان عنها في كافة وسائل الإعلان.
ويتبين مما سبق، أولًا: وجود مرونة في السياسات الاقتصادية المتخذة من جانب الدولة وفقًا للظروف الاقتصادية ومقتضيات كل مرحلة، ثانيا: إعلاء مصلحة المواطن المصري على غيرها من الاعتبارات؛ فإعلان تحرير سعر الصرف لن يُنفذ إلا مع تبني إجراءات للحد من تأثيره السلبي على المواطن، وفي حالة تعارض توصيات الجهات المانحة مع معيشة المواطن المصري لن تُنفذ أي قرارات تمس المواطن المصري. وثالثا: يأتي دور المواطن المصري؛ فعلى المستهلك تخفيض الطلب على السلع المستوردة مقابل تشجيع المنتج المحلي، وعلى المُنتج مراعاة جودة المنتج وإتاحته للمستهلك بالشكل اللائق، وعلى المستثمر توجيه استثماراته في القطاعات التي من شأنها الحد من الواردات وزيادة الصادرات، خاصة في ظل حرص الدولة على استقرار قيمة العملة المحلية والتي تسهم في اتخاذ القرارات الاستثمارية.