العراق

قراءة في النتائج الأولية للانتخابات العراقية

حملت النتائج الأولية للانتخابات التشريعية العراقية التي جرت 10 أكتوبر مفاجآت محدودة في توزيع الأصوات على الكتل السياسية التقليدية، بيد أن هذه النتائج لم تخرج عن إطارها المتوقع حول الثبات النسبي للكتل المتحكمة في المشهد السياسي العراقي منذ الغزو الأمريكي عام 2003. ولمّا كانت هذه الانتخابات المبكرة مطلبًا شعبيًا في المقام الأول، فإن الشعب العراقي قد حدد -من خلال التصويت أو المقاطعة- اختياراته للمرحلة المقبلة التي تمتد أربع سنوات ستكون محملة بعدد آخر من المفاجآت التي قد تعقبها تحولات.

مفاجآت متوقعة

كانت المفاجأة الأبرز في النتائج التي أعلنتها المفوضية العراقية المستقلة للانتخابات هي حصول تحالف الفتح برئاسة هادي العامري والذي يتكون من ميلشيات تابعة للحشد الشعبي وموالية لإيران على 14 مقعدًا فقط من مقاعد البرلمان البالغة 329 مقعدًا، وذلك بعدما كان يحتل المرتبة الثانية في انتخابات 2018 بـ47 مقعدًا، فضلًا عن عدم حصول حركة “حقوق” التابعة لكتائب حزب الله على مقاعد أو حصولها على مقعد واحد، وحصول تحالف “قوى الدولة” الذي يضم رئيس تيار الحكمة عمار الحكيم ورئيس الوزراء السابق حيدر العباد على نحو 20 مقعدًا فقط مقارنة بـ35 مقعدًا حصلوا عليها في 2018 دون التحالف بينهما.

أما ما دون ذلك من نتائج كان متوقعًا إلى حد كبير، حتى حصول التيار الصدري على أكثرية عدد المقاعد بـ73 مقعدًا مقارنة ب54 مقعدًا خلال انتخابات 2018 يأتي في إطار المتوقع هو الآخر، وذلك استنادًا إلى:

1- الشعبية التي يتمتع بها التيار بين الأوساط الشيعية.

2 – المواقف التي أعلنها مقتدى الصدر مرارًا خلال الفترة التي سبقت الانتخابات وذلك بالتأكيد الدائم على ضرورة عدم تبعية العراق ومهاجمة التدخلات الأجنبية في شؤونه، وضرورة حصر السلاح المنفلت.

3 – إعلان الصدر الانسحاب من خوض الانتخابات بعد حادثة حريق مستشفى “الحسين” الخاصة بمصابي كورونا في مدينة الناصرية التي خلفت 92 قتيلًا، لا سيّما وأن وزير الصحة في حكومة الكاظمي محسوب على التيار الصدري وهو ما أكسبه شعبية أكبر استفاد منها بعدما قرر بعد ذلك العدول عن الانسحاب وخوض الانتخابات.

4 – قرار قطاعات واسعة من العراقيين مقاطعة الانتخابات في ظل محدودية أفق التغيير، وهو ما صب في صالح التيار الصدري الذي يتمتع بقاعدة شعبية واسعة أهلته للحصول على أصوات كبيرة مقارنة بالأصوات التي فقدها منافسوه جراء المقاطعة، بعدما وصلت نسبة التصويت في الانتخابات نحو 41% فقط، وهي النسبة الأدنى منذ انتخابات عام 2005. 

وفي داخل الإطار الشيعي أيضًا، على الرغم من التقدم الذي أحرزه ائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي بحصوله على 37 مقعدًا، مقارنة بـ25 مقعدًا خلال انتخابات 2018 فإنه يظل تقدمًا طفيفًا لن تكون له آثاره السياسية الكبيرة على المشهد فيما بعد الانتخابات، خاصة مع حصول التيار الصدري على الأكثرية، وهو ما يقطع الطريق أمام طموحات المالكي بالعودة إلى رئاسة الحكومة.

أما في البيت السني، فكان تفوق تحالف “تقدم” الذي يترأسه رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي بحصوله على نحو 38 مقعدًا برلمانيًا مدفوعًا بمواقف الحلبوسي السياسية المتزنة نسبيًا، وشعبيته التي اكتسبها في المحافظات ذات الأغلبية السنية وخاصة في الأنبار نتيجة جهوده في الارتقاء بجودة الخدمات بها، أو إعادة إعمارها بعد خروج تنظيم داعش منها. وفي المقابل وضع العراقيون تحالف “عزم” برئاسة رجل الأعمال خميس خنجر في إطار الكتل التي لا تتمتع بثقتهم، وذلك بالإشارة إلى ما يشاع عن “خنجر” من اتهامات فساد كبيرة أفقدته ثقة العراقيين، وارتباطاته بقوى خارجية تجعله ضمن إطار القوى الموالية لفاعلين خارج العراق.

أما كرديًا، فقد استفاد الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني من تماسك هياكله التأسيسية ومؤسساته واستمرار نفوذه القوي داخل إقليم كردستان واحتواء مسعود برزاني لأي خلافات تنشب داخل منظومة الحكم الخاصة بالحزب الذي يتولى رئاسة الإقليم، ولذلك حاز الحزب الديمقراطي الكردستاني على نحو 33 مقعدًا تضمن له أغلبية المقاعد الكردية في البرلمان، فيما حاز منافسه على الحكم في أربيل حزب الاتحاد الوطني الكردستاني على 15 مقعدًا فقط، وحصل “حراك الجيل الجديد” على 9 مقاعد.

وذلك بعدما أدت الخلافات التي نشبت بين الحزبين الكرديين إلى خوضهما هذه الانتخابات بقوائم منفصلة دون الاندماج في قائمة كردية واحدة. وتمنح هذه النتائج أفضلية للحزب الديمقراطي الكردستاني فيما يتعلق بإعادة توزيع المناصب الرئيسية في الإقليم وفي الدولة العراقية وفقًا للمحاصصة في منصب رئيس الجمهورية العراقية ورئيس إقليم كردستان ورئيس حكومة الإقليم.

وعلى الرغم من أن الحراك الشعبي العراقي الذي خرج في أكتوبر 2019 لم يستطع تنظيم صفوفه بشكل جيد لخوض هذه الانتخابات إلا أنه حقق اختراقًا مهمًا من خلال حصول حركة “امتداد” المحسوبة على الحراك على نحو 9 مقاعد في البرلمان، فضلًا عن حصول حركة “إشراقة كانون” على نحو 6 مقاعد، علاوة على المستقلين الذين تشير تقديرات أولية إلى حصولهم على أكثر من 10 مقاعد، مما يعد إنجازًا يمكّن شباب الحراك من لعب دور سياسي خلال الأربع سنوات المقبلة، والبناء عليه في إحداث تغيير في الأمد البعيد.

ويمكن من خلال استقراء مجمل هذه النتائج الوقوف على:1 – مازالت مطالب الحراك الشعبي حاضرة بقوة في المحافظات الشيعية، وعبرت عنها إقدام مواطنيها على ما يمكن تسميته بـ”التصويت العقابي” للتيار الصدري الذي يوصف من قبلهم بالتيار الشيعي المعتدل، والعزوف شبه التام عن التصويت للتيارات والميلشيات الموالية لإيران والتابعة لها، استنادًا إلى الشعارات التي رُفعت في هذه المحافظات إبان الحراك برفض النفوذ الإيراني في العراق. 2 – تسير نتائج الانتخابات ضمن الإطار المعهود لمنظومة الحكم ما بعد 2003، وعلى الرغم من أن قوى الحراك الشعبي والمستقلين قد أمّنت حضورًا لها داخل البرلمان إلا أنه يبقى حضورًا محدودًا نسبيًا لن يستطيع منافسة القوى المتنفذة في المشهد السياسي العراقي تاريخيًا وتقليديًا، هذا علاوة على أن هذه القوى التقليدية ستحاول استمالة عددًا من هؤلاء المستقلين في إطار تحالفات ما بعد الانتخابات.

أي حكومة مقبلة؟

يطرح ما أعلنه “الإطار التنسيقي للقوى الشيعية” الذي يضم تحالفات وائتلافات (الفتح – دولة القانون – النهج الوطني – قوى الدولة – عطاء) من رفض لنتائج الانتخابات وعدم قبوله بها، و”اتخاذ جميع الاجراءات المتاحة لمنع التلاعب بأصوات الناخبين”، علاوة على وصف كتائب حزب لله للنتائج بأنها “أكبر عملية احتيال والتفاف على الشعب العراقي في التاريخ الحديث”؛ سيناريوهات قاتمة لما يمكن أن تقوم هذه القوى المتنفذة والتي تملك ميلشيات مسلحة وجهت إليها من قبل اتهامات بتنفيذ اغتيالات لمتظاهري الحراك الشعبي وكذلك عدد من الناشطين. إذ يمكن أن يشهد العراق بناء على ذلك التشكيك والتحذير أحداثًا دموية أو اشتباكات عنيفة بين أنصار هذه القوى والقوات الأمنية أو مناصري التيارات الأخرى وخاصة التيار الصدري، لا سيّما وأن كل هذه القوى والتكتلات هي واجهة سياسية لفصائل مسلحة بالأساس، مما ينذر باحتمالات مواجهة شيعية – شيعية، ومن هنا يمكن فهم الزيارة التي تحدثت عنها تقارير لقائد فيلق القدس إسماعيل قاآني إلى العراق قبيل إعلان النتائج الأولية.

أما سياسيًا، فإن النتائج تشير إلى أن أيًا من التحالفات والتكتلات لم تحصل على أغلبية مطلقة تمكنها من تشكيل حكومة بشكل منفرد، مما يعني أنه سيتعين على التيار الصدري الذي حاز أكثرية المقاعد -ووفقًا للقانون الانتخابي الجديد الذي ينهي جدال تحديد الكتلة الأكبر التي سيتعين على رئيس الجمهورية تكليفها باختيار رئيس حكومة خلال 15 يومًا من إعلان النتائج النهائية وفقًا للدستور العراقي- استئناف المفاوضات التي بدأها بالفعل قبل الانتخابات لتشكيل الحكومة الجديدة. وكان الصدر قد أجرى قبل الانتخابات مشاورات متقدمة مع كل من تحالف “تقدم” بزعامة رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، والحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني على تفاهمات ما بعد الانتخابات. وهو ما يضع الحكومة المقبلة أمام سيناريوهين.

السيناريو الأول هو أن يتألف الحزام البرلماني الذي يشكل الحكومة المقبلة بشكل أساسي من القوى الثلاث السابق ذكرها (التيار الصدري- تحالف تقدم – الحزب الوطني الكردستاني) والذي يحوز مجتمعًا نحو 145 مقعدًا –حسب النتائج الأولية- مما يعني أنه سيحتاج إلى استمالة نحو 20 نائبًا من المستقلين وقوى الحراك لضمان تمرير الحكومة في البرلمان إذا ما حضر كل النواب جلسة التصويت.

السيناريو الثاني هو أن تشكل الحكومة المقبلة على غرار الحكومات السابقة منذ 2003 باحتواء كافة القوى السياسية وتضمينها داخل الحكومة، لا سيّما وأن القوى الأخرى سواء التي تقدمت عن انتخابات 2018 مثل دولة القانون أو القوى التي تراجعت مثل الفتح هي قوى نافذة وقوية لا يمكن تجاوزها في الحكومات المقبلة، ولذلك قد يُعمد إلى إشراك هذه القوى في الحكومة المقبلة بشكل تمثيلي فحسب حتى لا تكون في إطار المعارضة المحضة للحكومة، وهو الأمر الذي حدث في حكومة عادل عبد المهدي بعد انتخابات 2018، وتدفع الرغبة في تجنب التصعيد باتجاهه.

إجمالًا، لا تمثل نتائج الانتخابات متغيرًا جوهريًا في السياسة العراقية بالنظر إلى ثبات الفاعلين السياسيين المهيمنين عليها منذ 2003، علاوة على أن مقتدى الصدر الذي حاز تياره أكثرية المقاعد النيابية لا يخرج عن إطار بقية السياسيين العراقيين فيما يخص العلاقة مع إيران، لا سيّما وأن ارتباطاته القديمة بطهران قد تُخرج تصريحاته المتكررة عن ضرورة عدم التدخل في الشؤون العراقية عن إطار التنفيذ الفعلي، بجانب سعيه إلى الاستفادة مما قام به رئيس الوزراء العراقي الحالي مصطفى الكاظمي من علاقات مع كل من إيران والولايات المتحدة والمحيط الإقليمي والعربي.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى