دول المشرق العربي

انكسار أحد أضلاع مثلث “الطاقة –الغذاء- المياه”.. انقطاع الكهرباء في لبنان نموذجًا

شهدت لبنان أمس الموافق التاسع من أكتوبر 2021، انقطاعًا تامًا في التيار الكهربائي مما أسفر عن دخول البلاد في حالة من الظلام، عقب خروج أكبر محطتين للكهرباء –الزهراني ودير عمار- عن الخدمة بسبب نفاد الوقود وتراجع قدرة توليد الطاقة إلى أقل من 200 ميجاوات.

ولم يُكن انقطاع الكهرباء مشهدًا مفاجئًا للشعب اللبناني؛ إذ حذرت مؤسسة “كهرباء لبنان” في الثالث والعشرين من سبتمبر الماضي، من تزايد احتمالية انقطاع الكهرباء عن جميع أنحاء البلاد نتيجة الانخفاض الحاد في مخزوناتها من المحروقات، مشيرة إلى قدرتها على توليد أقل من 500 ميجاوات فقط من الكهرباء بفضل زيت الوقود الذي تستطيع تأمينه بموجب اتفاقية تبادل مع العراق. فما أهم الأسباب التي فاقمت أزمة المحروقات؟ وهل من الممكن أن تؤثر الأزمة على مفهوم مثلث “الطاقة-المياه-الغذاء”؟ وأخيرًا، كيف مدَّت مصر يد العون إلى لبنان في تلك الأزمة؟

مُحركات الأزمة

لا يُمكن فصل أزمة المحروقات اللبنانية، عن مجمل الأزمات الاقتصادية الذي يعاني منها البلد المنكوب كانهيار سعر العملة المحلية، واستنزاف الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، والانكماش الاقتصادي الحاد، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وعدم القدرة على سداد الديون، وأخيرًا بطء سير المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، حيث تعتبر أزمة الطاقة حلقة واحدة في المشهد الاقتصادي المعقد في لبنان.

كما إن أزمة المحروقات لا تعتبر وليدة الشهور الأخيرة فقط، حيث لعبت العديد من العناصر دورًا محوريًا في تفاقم الأزمة؛ إذ يعاني لبنان منذ عقود من الاعتماد على محطات حرارية متدنية الكفاءة تستهلك تكلفة تشغيلية مرتفعة للغاية، بالتزامن مع عدم القدرة على تزوديها بالوقود الكافي بسبب عدم تَمَكُّن الحكومة من تحمل فاتورة واردات الوقود،  نتيجة للنقص الحاد في السيولة النقدية بالدولار الأمريكي لدى الحكومة ومصرف لبنان، وهو ما أدى أيضًا إلى عدم توفر العملات الأجنبية اللازمة لصيانة محطات توليد الكهرباء، وتراكم المستحقات المتأخرة لمقاولي الصيانة والخدمات من القطاع الخاص.

هذا وبالإضافة إلى الضعف الحكومي والفساد المؤسسي المستشري في مختلف القطاعات الاقتصادية بصفة عامة وقطاع الطاقة والكهرباء بصفة خاصة، إلى جانب، انشغال الدولة بالخلافات السياسية وتتابع الحكومات بشكل متتالي ومتسارع، مما عطل من قدرة أي حكومة على تبني خطة مُحكمة تهدف إلى تطوير قطاع الكهرباء والنهوض به.

 وبالتالي، لم يتمّ تطبيق القانون رقم 462 الذي صدر في العام 2002، ونصّ على إنشاء هيئة لتنظيم قطاع الكهرباء وإعادة هيكلة مؤسسة كهرباء لبنان. ولإلقاء نظرة على هيكل قطاع الكهرباء في لبنان سنجد أن البلاد تعتمد على الوقود الأحفوري والمنتجات النفطية المستوردة بشكل أساسي في توليد الكهرباء بنحو 96% حتى عام 2019، وذلك على الرغم من خطة الدولة بالاتجاه نحو الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة بحلول 2030، ويليها الفحم بنسبة 2%، ومن ثم الطاقة الكهرومائية والشمسية بنحو 1% بالتساوي بينهما، وهو ما يتضح من الشكل التالي:

الشكل (1): إجمالي إمدادات الطاقة الأولية حسب المصدر (%)

كما يبين الشكل (2) مدى أهمية محطتي “دير عمار” و “الزهراني” لقطاع الكهرباء اللبناني واللتان تسببتا في انقطاع التيار بالكامل حيث تتوزع القدرة الانتاجية للمعامل اللبنانية على النحو الآتي:

الشكل (2): القدرة الإنتاجية للمعامل اللبنانية

ومن المنطقي أن تسفر كافة الأسباب السابقة -بداية من الاعتماد على الواردات وعدم تطوير كفاءة محطات التوليد والفساد انتهاءً عند تصاعد الأزمات الاقتصاية الكلية- عن انخفاض إنتاج الكهرباء في البلاد شهرٍ تلو الأخر، وهو ما يٌمكن عرضه استنادًا على الشكل الآتي:

الشكل (3): إنتاج الكهرباء شهريًا (جيجاوات/ ساعة)

ويتضح من الشكل السابق الاتجاه العام السالب لانتاج الكهرباء بلبنان خلال الفترة التي تتراوح بين يناير 2020 حتى مايو 2021 مسجلة أدنى مستوياتها خلال الفترة محل الدراسة عند 759 جيجاوات. وكنتيجة لذلك بلغ عجز إنتاج الكهرباء بالدولة ما يتجاوز نحو 1600 ميجاوات، فيما تراوحت ساعات انقطاع الكهرباء بين 12 ساعة إلى 18 ساعة يوميًا. وبلغت ديون قطاع الكهرباء اللبناني نحو 40 مليار دولار من إجمالي الدين العام للدولة في 2020.

وحدث كل ذلك بالتزامن مع إعلان شركات النفط العالمية عن إقفال محطاتها في لبنان ووقف عملية التوزيع نهائيًا، إما بسبب نفاد مخزونها بشكل كامل أو تأخر سداد المستحقات المالية، ومن أبرز تلك الخطوات، قرار شركة ” كاربايورشب” التركية بوقف عمليات الإنتاج من باخرتين راسيتين قبالة سواحل لبنان بعد شهور من التأخر في سداد دفعات مستحقة، لتخسر البلاد نحو ربع إمداداته من الكهرباء. 

تداعيات خطرة

ألقت أزمة الكهرباء بظلالها على الناحيتين الاقتصادية والاجتماعية، حيث تمثل الطاقة عائقًا رئيسيًا أمام نمو الناتج المحلي الإجمالي والقدرة التنافسية على الصعيد الاقتصادي من ناحية، مع وصول تكلفة أزمة الكهرباء على القطاع الصناعي اللبناني نحو 400 مليون دولار سنويًا، في ظل تراجع القدرة على تشغيل المصانع واستمرار العملية الإنتاجية، ومن الناحية الأخرى تمثل الأزمة عبئًا ماليًا مضاعفًا على الأسر في البلاد، مع تسجيل متوسط فاتورة الكهرباء للأسرة في لبنان نحو 1200 دولار سنويُا تدفع أكثر من ثلثيها للمولدات الخاصة، وهو ما يعني أن المواطن اللبناني يدفع فاتورتين للكهرباء. وقد ترتب على أزمة المحروقات العديد من النتائج، يُمكن حصرها في النقاط التالية:

  1. محاولات حكومية لاحتواء الأزمة: 

حاولت الحكومة اللبنانية اتخاذ خطوات تحاول بها إنقاذ الوضع مهما كانت العواقب، لاسيما في ظل ارتفاع الضغط الدعم المقدم لقطاع الكهرباء على الموازنة العامة دون مقابل مجزٍ، وبناء عليه قررت الحكومة خفض الإنفاق المخصص لمؤسسة “كهرباء لبنان” – المُنتج الرئيسي للكهرباء في البلاد- في المدى المتوسط، كما يتبين من الشكل التالي:

الشكل (4): نسبة الإنفاق على مؤسسة كهرباء لبنان من الناتج المحلي الإجمالي (%)

ومن المتوقع تراجع نسبة الإنفاق على مؤسسة كهرباء لبنان إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2023، وذلك بالرغم من كون التحويلات لصالح المؤسسة عبارة عن سلفة خزينة ولا تدخل ضمن نفقات الموازنة، إلا إنها تشكل عبئَا متزايدًا على الخزينة نظرًا لعدم تسديد هذه السلف على مدى السنوات الماضية، ومن هنا جاء الضغط الكبير على الميزان المالي النقدي وعلى نسبة الزيادة في الدين العام.

وإلى جانب خفض النفقات، قررت وزارة الطاقة اللبنانية رفع السعر الرسمي للبنزين –كما موضح من الجدول (1) – اعتبارًا من الثاني والعشرين للمرة الثانية خلال أسبوعين مما سيزيد من الأعباء التي يعاني منها المواطن اللبناني جراء ارتفاع التضخم.

الجدول (1): أسعار المحروقات في لبنان

السعر (ألف ليرة لبنانية)
بنزين 98 أوكتان209.3
بنزين 95 أوكتان202.4
ديزل أويل162.7

وبناء على الجدول السابق، سيشهد مؤشر أسعار النقل والمواصلات الذي يعتبر جزءًا من مؤشر أسعار المستهلكين ارتفاعًا خلال الشهور القادمة، كما يوضح الشكل التالي:

الشكل (5): مؤشر أسعار النقل (نقطة)

يتبين من الرسم الاتجاه الموجب للمؤشر خلال الفترة محل الدراسة، في ظل ارتفاعه بشكل مُطرد على مدار العام ونصف العام الماضيين حتى سجل 782.22 نقطة بحلول أغسطس الماضي.

  1. أزمة في القطاع الطبي:

أثقلت الأزمة كاهل المستشفيات الحكومية والخاصة بسبب نفاد الوقود، حيث اضطرت العديد من المستشفيات إلى خفض استهلاك الكهرباء وإيقاف بعض الأجهزة، كما أعطت معظم المستشفيات أولوية لتشغيل الأقسام الطارئة لديها، كغرف العمليات والعناية المركزة، على حساب الأقسام الأخرى. ويأتي ذلك في نفس الوقت الذي تعاني فيه البلاد من تفشي فيروس كورونا والذي يستلزم حفاظ القطاع الصحي على جاهزيته لمواجهة الأزمة الصحية.

  1. تأثر مثلث “الطاقة-الغذاء- المياه”:

تشكل الكهرباء ضلعًا هامًا بمثلث “الطاقة-المياه- الغذاء”، وفي البداية يجب فهم العلاقة التشابكية بين الثلاث عناصر من أجل التطبيق على الحالة اللبنانية:

• تعتبر المياه عنصرًا ضروريًا لاستخراج ومعالجة الوقود الأحفوري وكذلك لتوليد الكهرباء من مصادر مختلفة. ونتيجة لذلك، فإن توافر الموارد المائية وإمكانية الوصول إليها يمثل محددًا رئيسيًا لأمن الطاقة.

• ينظر للطاقة على إنها عاملًا حيويًا في معالجة المياه وإنتاجها وتوزيعها، ولهذا يتأثر الأمن المائي بتوافر إمدادات الطاقة.

• يعرض العجز في إمدادات المياه والطاقة الأمن الغذائي لمخاطر عدة، حيث يمكن أن تؤثر فترات الجفاف الشديدة والتقلبات في أسعار الطاقة على توافر الغذاء والقدرة على تحمل تكاليفه وإمكانية الوصول إليه. ويُمكن عرض هذا الترابط أو ما تسميه بعض الدراسات “Nexus” بصورة أكثر وضوحًا من خلال الاعتماد على الرسم التالي:

الشكل (6): ترابط “المياه-الطاقة-الغذاء”

وبالرجوع مرة أخرى إلى المشهد اللبناني سيتضح مدى انطباق تلك النظرية، ويدلل على ذلك التحذيرات المستمرة من قبل منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، بشأن ارتفاع احتمالية مواجهة أكثر من أربعة ملايين لبناني –من إجمالي السكان البالغ عددهم نحو 6.825 مليون نسمة- نقصًا حادًا أو انقطاعًا تامًا في إمدادات المياه بسبب أزمة الوقود الشديدة. ومن ناحية أخرى، توقفت بعض أفران الخبز في لبنان أوائل الشهر المنصرم عن العمل، بضغطٍ من  عدة أسباب تمثل أبرزها في  توقف المطاحن عن إمداد المخابز بالدقيق بسبب نفاد المازوت لديها.

دور محوري للقيادة المصرية في الأزمة 

عادت مصر خلال السنوات الأخيرة لتقديم الدعم للدول العربية التي تعاني من أوضاعًا اقتصادية صعبة، ولهذا داومت السلطات المصرية على تقديم العون إلى لبنان وقد برز ذلك خلال أزمة كورونا وعقب انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020 وأخيرًا أزمة إمدادات الطاقة. 

فعلى سبيل المثال، أقامت مصر جسر جوي مُحمل بالمواد الإغاثية والأطقم والمستلزمات الطبية اللازمة للمساعدة في جهود مواجهة تداعيات انفجار المرفأ، كما تم فتح المستشفى العسكري الميداني المصري في لبنان لتقديم الخدمات الطبية العاجلة. وكذلك، قامت الحكومة المصرية بتجهيز 3 طائرات محملة بكميات كبيرة من المستلزمات والأدوية والأجهزة الطبية والألبان لإرسالها للبنان  بهدف مساندتها فى مواجهة انتشار الموجة الثانية لفيروس كورونا.

وتبلور الدور المصري في أزمة المحروقات اللبنانية، بالتقاء وزراء البترول والطاقة في مصر والأردن وسوريا ولبنان في الثامن من سبتمبر الجاري، لبحث إحياء مشروع نقل الغاز المصري إلى لبنان عبر الأراضى الأردنية والسورية عن طريق “خط الغاز العربي”، بهدف مساعدة بيروت على تجاوز الأزمة التي أدت إلى انقطاع الكهرباء.

ولإعادة إحياء مشروع خط الغاز العربى من جديد عوائد مزدوجة لكافة الأطراف وعلى جميع الأصعدة، من أهمها؛ تعزيز خطة مصر لأن تصبح مركزًا إقليميًا لتداول الطاقة مع تعزيز علاقاتها الاستراتيجية مع الدول العربية المجاورة.

والجدير بالذكر أن وزير البترول المصري “طارق الملا” قد صرح في الخامس من أكتوبر قائلًا:”من المقرر الانتهاء من الإجراءات اللازمة لتوريد الغاز الطبيعي المصري إلى لبنان خلال الأسابيع القليلة المقبلة”.

استنتاجات جوهرية

• تُعد أزمة المحروقات في لبنان نتاجًا ومسببًا للعديد من المشكلات الاقتصادية التي تمر بها البلاد في الوقت الحالي؛ إذ إنها ناتجة عن الفساد الحكومي وعدم توافر مصادر للنقد الأجنبي وانهيار العملة المحلية، كما إنها تُعد سببًا في توقف عجلة النمو في البلاد وارتفاع التضخم وغيرها من الأزمات المرتبطة ببعضها البعض.

• لا تقتصر أسباب الأزمة على الناحية الاقتصادية فقط بل إن لها بعد سياسي يتمثل في تعاقب الحكومات اللبنانية وعدم بقائها لمدة تسمح بتطبيق خطة تنمية متوسطة المدى على أقل تقدير.

• من المُمكن أن تشكل أزمة الطاقة اللبنانية تهديدًا مباشرًا على الأمن المائي والغذائي في البلاد في آن واحد.

• تلعب مصر أدوارًا محورية لدفع لبنان قدمًا نحو الخروج من أزمتها الاقتصادية، وفقًا لأنماط تدر عوائد منفعية مزدوجة لاقتصادي البلدين.

+ posts

باحثة ببرنامج السياسات العامة

بسنت جمال

باحثة ببرنامج السياسات العامة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى