
حدود التغيير.. هل تؤسس الانتخابات العراقية المبكرة لواقع سياسي جديد؟
كانت الانتخابات العراقية المبكرة التي من المقرر إجراؤها في العاشر من أكتوبر المقبل مطلبًا من مطالب العراقيين في الحراك الشعبي في أكتوبر 2019 من أجل الولوج إلى مرحلة سياسية جديدة واختيار برلمان جديد بحرية ونزاهة وشفافية بإمكانه تحقيق تطلعات العراقيين في إنهاء أزماتهم المتواصلة، ولا سيّما الأوضاع الاقتصادية والقضاء على الفساد المستشري في كافة أجهزة الدولة. وتمثل هذه الانتخابات التي تجرى وفق نظام انتخابي جديد كان أيضًا أحد مطالب الحراك الشعبي فرصة سانحة لتغيير المنظومة السياسية الحاكمة، إلا أن طبيعة المجتمع العراقي والتحالفات الانتخابية القائمة قد تقوض هذه الفرصة.
سياقات جديدة
تجرى هذه الانتخابات وفق نظام انتخابي جديد قد أقره القانون رقم 9 لعام 2020، ويعد هذا النظام تحولًا كبيرًا عن الأنظمة التي جرت بها الانتخابات العراقية المتوالية منذ عام 2005 وحتى الانتخابات الأخيرة في عام 2018. وقد قُسم العراق بموجب هذا القانون إلى 83 دائرة انتخابية لتقسم بذلك كل محافظة إلى عدة دوائر حسب عدد السكان وفق قاعدة أن كل 100 ألف مواطن عراقي ينوب عنهم نائب واحد داخل البرلمان، وذلك بدلًا من اعتماد كل محافظة كدائرة انتخابية واحدة، وهو ما كان يسمح للكتل الكبيرة بالفوز بالعدد الأكبر من المقاعد. وعلاوة على ذلك سمح القانون بالترشح الفردي، وألغى نظام “سانت ليجو” الخاص بفرز الأصوات؛ إذ سيتم إعلان المرشح الحائز على أكبر قدر من الأصوات فائزًا.
هذا بجانب أن هذه الانتخابات تجرى بعد إعادة تشكيل المفوضية العليا للانتخابات وفقًا للقانون الجديد الذي أقره البرلمان عام 2019 بناء على مطالب الحراك، ونص على أن يكون أعضاء المفوضية من القضاة ذوي الخبرة من الدرجة الأولى، ويكون اختيارهم عن طريق القرعة لضمان الشفافية”. وتمثل هذه التغييرات تحولًا كبيرًا بالنسبة للعراقيين، واستجابة نسبية لمطالبهم في حراك أكتوبر 2019 لأن النظام الانتخابي القديم كان يفتح الباب واسعًا أمام تزوير نتائج الانتخابات.
توقعات محدودة
على الرغم من أن البيئة المحيطة بالانتخابات من الناحية الإجرائية تبدو جديدة، وحاولت من خلالها الحكومة والبرلمان في العراق إضفاء طابع النزاهة والشفافية على الانتخابات لتشجيع المواطنين على الإدلاء بأصواتهم والثقة في نتائج الانتخابات، إلا أن المشهد السياسي في العراق لا يبدو محفزًا بشكل كبير بالنسبة للعراقيين للإدلاء بأصواتهم، مع وجود قناعة لدى قطاعات كبيرة وخاصة بين أوساط الشباب أن هذه الانتخابات لن تحقق المرجو منها أو ما طالبوا به في الحراك الشعبي من تغيير المنظومة السياسية القائمة والقضاء على المحاصصة الطائفية وإزاحة القوى التي كانت في الأزمات التي يعاني منها العراقيون منذ سنوات.
وبالنظر إلى طبيعة التحالفات التي تخوض الانتخابات نجد أن الأكثرية منها قد قٌسمت على أساس طائفي محض، فهناك تحالفات شيعية وسنية وكردية، وكذلك نجد أن الكتل السياسية المكونة لهذه التحالفات هي ذاتها الكتل المهيمنة على المشهد السياسي في العراق منذ ما بعد الغزو الأمريكي عام 2003. والتي تتمحور شيعيًا حول التيار الصدري صاحب الشعبية الكبيرة والذي أعلن زعيمه مقتدى الصدر الانسحاب من الانتخابات بعد الحريق الذي شب في مستشفى مخصص لمعالجة مرضى كورونا بالناصرية ثم عاد من جديد إلى السباق الانتخابي، وهو صاحب الأكثرية في الانتخابات الأخيرة بكتلة “سائرون”، وكذلك تحالف “الفتح” صاحب المرتبة الثانية في انتخابات 2018 والذي يقوده هادي العامري زعيم ميلشيا بدر، ويضم مجموعة من الكتل التي تعد واجهات سياسية لميلشيات، أهمها كتلة صادقون التابعة لعصائب أهل الحق.
أما الكتل السنية فتتمحور حول تحالف “العزم” بقيادة خميس خنجر الذي فُرضت عليه عقوبات أمريكية سابقًا بسبب مزاعم مرتبطة بالفساد، ويتحالف معه سليم الجبوري رئيس مجلس النواب السابق. وهناك تحالف “تقدُّم”، بزعامة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي. وتحالف “المشروع الوطني للإنقاذ”، بقيادة أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب السابق. فيما تظل الكتل الكردية تدور في فلك حزب الاتحاد الوطني الكردستاني والحزب الديمقراطي الكردستاني.
وعلى الرغم من أن شعبية بعض هذه الكتل قد تأثرت على وقع الحراك الشعبي 2019 وحوادث الاغتيالات التي استهدفت عددًا من ناشطي الحراك في المدن الشيعية، إلا أن هذه الكتل مازالت تحتفظ بنفوذ داخل العراق، وهو نفوذ مستمد بشكل رئيس إما من السلاح الذي تملكه هذه الكتل التي تعد واجهات لعدد من الميلشيات العراقية التي تمارس ترهيبًا بحق العراقيين، أو من المال السياسي الذي تملكه وتغدقه أثناء الدعايا الانتخابية، أو من التحالفات والاتفاقات التي تبرمها مع بعض العشائر التي تتولى عملية حشد الأصوات لها في بعض المدن والمناطق العراقية.
وقد يدفع هذا المشهد قطاعات من العراقيين إلى مقاطعة الانتخابات، هذا علاوة على ما أحدثه هذا المشهد من انسحاب في صفوف الأحزاب الممثلة داخل البرلمان مثل الحزب الشيوعي العراقي الذي أعلن مقاطعة الانتخابات ” لأن الأجواء غير مواتية لإجراء انتخابات حرة ونزيهة مع وجود السلاح المنفلت والمال السياسي”، وكذلك أحزاب جديدة تشكلت بناء على مطالب الحراك مثل تحالف “المنبر العراقي” برئاسة رئيس الوزراء السابق إياد علاوي والذي أعلن أيضًا انسحابه من الانتخابات.
ومن ثم فإن مؤشرات عدة -سواء شهدت الانتخابات مشاركة بناء على الترهيب والمال السياسي أو مقاطعة- تدفع باتجاه أن الانتخابات لن تفرز برلمانًا عراقيًا مختلفًا جذريًا عن البرلمان الحالي، وأن هامش التغير يبقى محدودًا مثل دخول بعض الكتل التابعة للحراك الشعبي، أو بعض النواب المستقلين الذين قد يشكلون جبهة معارضة داخل البرلمان.
مشهد ما بعد الانتخابات
وبقدر ما يبدو عليه المشهد من ثبات في القوى المرشحة للهيمنة على تشكيل البرلمان المقبل، فإن هذه القوى تشهد خلافات حادة فيما بينها ستجعل الشهور الأولى من عمر هذا البرلمان عاصفة حتى تتشكل خريطة التحالفات الجديدة بداخله، لا سيّما وأن عددًا من التحالفات الانتخابية الحالية تهدف فقط إلى دخول البرلمان دون التوافق السياسي أو الأيديولوجي بين أعضائها.
وسيكون اختيار رئيس وزراء جديد بعد الانتخابات هو أول المحطات التي تتكشف عندها طبيعة هذه التحالفات الجديدة وما استطاع رؤساء الكتل السياسية تحقيقه قبيل الانتخابات من تفاهمات فيما بينهم. فقد شهدت الفترة الأخيرة تحركات عدة في مسارات مختلفة بين القوى السياسية لرسم خريطة المشهد بعد الانتخابات، إذ يسعى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي إلى العودة إلى رئاسة الحكومة العراقية من جديد من خلال ائتلافه دولة القانون أو بالتحالف مع ائتلافات أخرى تتوافق معه، إلا أن تفاهمات أخرى يقودها زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر مع عدد من القوى السنية والكردية قد تقطع هذا الطريق أمامه.
ويشير المشهد الانتخابي إلى أنه على الأرجح لن يكون بمقدور أي تحالف أو كتلة سياسية تحقيق أغلبية مريحة داخل البرلمان يمكنها من اختيار رئيس الحكومة المقبل، وعلى إثر هذه التناقضات والصراعات بين القوى والكتل يُطرح اسم رئيس الوزراء الحالي مصطفى الكاظمي كمرشح تسوية لرئاسة الحكومة الجديدة بناء على ما حققه خلال فترة رئاسته للحكومة من علاقات وطيدة مع مختلف الفاعلين داخل العراق وخارجه.
باحث أول بالمرصد المصري