
حتمية الشراكة الاستراتيجية.. رسائل زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي للقاهرة
استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، أمس الأربعاء ٢٩ سبتمبر ٢٠٢١، بمقر رئاسة الجمهورية بقصر الاتحادية، مستشار الأمن القومي الأمريكي “جيك سوليفان” الذي يزور القاهرة برفقة مجموعة من عناصر مكتب الأمن القومي الأمريكي كـ “بريت ماكجورك” منسق ملف الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومي الأمريكي، و “أريانا برينجورت” كبيرة مستشاري “جيك سوليفان”، و “جوشوا هاريس” رئيس إدارة شمال أفريقيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي، علاوة على “نيكول شامبين” نائبة سفير الولايات المتحدة بالقاهرة”.
وشهد اللقاء التباحث حول مستجدات القضايا الإقليمية ذات الاهتمام المشترك في ليبيا وتونس والعراق وسوريا واليمن، وملف الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
وتأتي أهمية هذه الزيارة في توقيتها المتزامن مع جملة من الديناميكيات المتسارعة في المنطقة الممتدة من البادية العراقية السورية وصولاً لشمال افريقيا – سيتم توضيحها لاحقاً-، وتأتي أيضاً ضمن إطار مستجدات العلاقات المصرية الأمريكية. إذ تشهد العلاقات الثنائية بين القاهرة وواشنطن زخماً متزايداً في الآونة الأخيرة، يمكن حصرها كالاتي:
- الزيارات المتكررة للعسكريين الأمريكيين، ولاسيما تلك الخاصة بقائد القيادة المركزية الأمريكية الجنرال “كينيث ماكينزي”، حيث أجرى ثلاث زيارات في فبراير ويونيو وسبتمبر من هذا العام، التقى فيها بالرئيس السيسي وعدد من كبار قادة القوات المسلحة. ولم يكن ماكينزي العسكري الأمريكي الوحيد الذي تردد على القاهرة منذ مطلع العام الجاري، حيث أجرى قائد البحرية التابعة للقيادة المركزية “تشارلز كوبر” زيارة لقاعدة برنيس منتصف أغسطس الماضي، التقى خلالها قائد البحرية المصرية الفريق “أحمد خالد”. علاوة على زيارة قائد الحرس الوطني لتكساس في 12 من سبتمبر الجاري.
- استئناف مناورات النجم الساطع، أجرى البلدان فعاليات مناورات النجم الساطع بمشاركة 21 دولة، في قاعدة محمد نجيب العسكرية بالمنطقة الشمالية، في الفترة ما بين 2 إلى 17 سبتمبر الجاري، وكان لافتاً وجود مكافحة الإرهاب في مقدمة التدريبات المشتركة بين القاهرة وواشنطن وكذلك القيام بعدد من المهام الجوية المشتركة. وكانت أخرى نسخة من المناورات المشتركة بين الجانبين تمت في العام 2018.
- اتجاه الكونغرس الأمريكي لتقييد جزء من المساعدات العسكرية لمصر، حيث أصدر الكونغرس تشريعًا يدعو الإدارة إلى حجب 300 مليون دولار من المساعدات العسكرية لمصر. ولكن في النهاية، تم إرسال 170 مليون دولار، وتعليق 130 مليون دولار أخري، مع استخدام الإدارة لسلطتها – الأمن القومي – للتنازل عن شروط حقوق الإنسان المفروضة من قِبل مُشرعي الكونجرس.
ومع زخم النقاط الثلاثة السابقة تأتي زيارة مستشار الأمن القومي “جيك سوليفان”، لتفرز أبعاد أكثر وضوحا لخصوصية العلاقة بين القاهرة وواشنطن، إذا ما تم النظر إلى الملفات المطروحة على طاولة المباحثات بين مصر ممثلة في مؤسساتها “الرئاسة – الدفاع – الاستخبارات – الخارجية”، وبين نظيرتها الأمريكية، حيث بدت تظهر مساحات للتوافق المشترك بين البلدين حيال قضايا العراق وسوريا وليبيا وتونس والقضية الفلسطينية، والأمن في القرن الافريقي وملف السد الإثيوبي. ويمكن إبراز محطات التوافق الضمني التي أعلنت عن نفسها في هذا اللقاء:
- ليبيا: تم التوافق على تكثيف التنسيق المشترك بين الجانبين ومع الشركاء الدوليين بشأن الترتيبات المتعلقة بالانتخابات المقبلة في ليبيا، وكذا ملف سحب القوات الأجنبية والمرتزقة، وتوحيد المؤسسات العسكرية. والعودة بليبيا إلى مفهوم الدولة الوطنية بالمفهوم الشامل.
- السد الإثيوبي: تم مناقشة مستجدات قضية سد النهضة في ضوء صدور البيان الرئاسي الأخير لمجلس الأمن وما تضمنه من ضرورة امتثال الاطراف للتوصل لاتفاق ملء وتشغيل ملزم قانوناً خلال فترة وجيزة على نحو يحقق المصالح المشتركة لجميع الأطراف. وجدد “سوليفان” التزام الإدارة الأمريكية ببذل الجهود من أجل ضمان الأمن المائي المصري، وذلك على نحو يحفظ الحقوق المائية والتنموية لكافة الأطراف.
- القضية الفلسطينية: لعل هذه القضية كانت الأبرز ضمن ما طُرح للنقاش في زيارة “سوليفان”، فالنجاح المصري للتوصل لهدنة بين الفصائل الفلسطينية المسلحة وإسرائيل في مايو الماضي، قد ألقي بظلاله على محورية الدور المصري في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعدم تأثره بالاتفاقيات الابراهيمية، وتصاعد النفوذ الجيوسياسي لمشروعي تركيا وإيران في المنطقة، ومحاولتهما الحثيثة لاختراق الكيانات السياسية والعسكرية الفلسطينية. إذ تتزامن زيارة “سوليفان” مع تصعيد إسرائيلي فلسطيني أخير، كان مسرحه الضفة الغربية وعدة مناطق تابعة للفصائل المسلحة في غزة. كما صفت قوات الاحتلال الإسرائيلي خمسة عناصر حماس والجهاد الإسلامي، الأسبوع الماضي خلال مداهمات في الضفة الغربية. وتحاول الإدارة الأمريكية جاهدة تثبيت العمل باتفاق الهدنة، من خلال فتح قنوات الاتصال المستمرة مع إسرائيل والسلطة الفلسطينية في الضفة، الا انها لا تمتلك قنوات اتصال بالفصائل الفلسطينية المسلحة كون أغلبها مدرج على قوائم المنظمات الارهابية. إلا أن القيادة المصرية لديها قنوات مع جميع اطراف النزاع الفلسطيني – الفلسطيني، والفلسطيني – الإسرائيلي، بشكل لا تمتلكه أي من القوي الدولية والإقليمية، ما جعل الملف الفلسطيني أرضية مشتركة، قد تبني عليها التفاهمات المصرية الامريكية لحل وتسوية النزاع، والتطرق لملفات أخري أكثر تعقيداً كالأمن المائي المصري، وامن منطقة القرن الافريقي التي تمثل أهمية استراتيجية في خريطة الانتشار العسكري الأمريكي ليس في القارة فحسب، بل على المستوي العالمي.
ولهذا، يمكن تحديد عدة رسائل انطوت في زيارة “سوليفان” الأخيرة، كالاتي:
- حتمية الشراكة الاستراتيجية بين القاهرة وواشنطن، فالرغم من الضغوط التي تمارسها بعض أجنحة الديمقراطيين التقدميين في الكونغرس على علاقة واشنطن بالقاهرة، مدفوعة بعمل لوبيات الضغط التابعة للشبكة الإقليمية المعادية لتصاعد الدور المصري؛ فإن طبيعة الشراكة العسكرية بين العاصمتين قد أبقت هذه المحاولات الضاغطة – في أقصي حالتها – ضمن مجالات تأثير لا تتعدي تجميد او تعليق المعدات العسكرية الرئيسية في الحرب على الإرهاب او تعظيم القدرات الدفاعية والهجومية المصرية. وبالنظر إلى شريحة الـ 130 مليون دولار التي قيدتها الإدارة الامريكية من المساعدات العسكرية، نجد أنها تحاشت أن تكون مؤثرة على نحو يضر بهذه الشراكة الاستراتيجية التي عبرت عنها زيارات القادة العسكريين الأمريكيين للقاهرة في الآونة الأخيرة. ما يدفع بالطرفين إلى فرص أكثر جدية للتنسيق على الملفات الأمنية المشتركة من الساحل والصحراء وصولاً لشمال افريقيا.
تغيير النظرة الأمريكية للدور المصري، بالنظر إلى شخصية “جيك سوليفان” وتاريخه المهني، يتضح بصورة جلية انتماؤه للتيار الديمقراطي الكلاسيكي، الذي اشتهر عامةً بتضارب وجهات نظره مع القيادة المصرية، وظهر ذلك خلال حقبة أوباما، وخاصة في ثورة الثلاثين من يونيو.

حيث كان أبرز مساعدي وزيرة الخارجية الامريكية السابقة هيلاري كلينتون خلال عملها في وزارة الخارجية وترشحها للرئاسة. وعكس حضور “سوليفان” تفاهماً من هذا التيار بقبول مصر في شكلها الجديد، كقوة صاعدة في المنطقة لها خصوصيتها التاريخية والثقافية، ووزنها السياسي والعسكري الثقيل في المنطقة.



