
تبدلات المواقف: سودان ما بعد البشير وحركة حماس
شكٌل قرار لجنة تفكيك نظام الثلاثين من يونيو 1989 الخاص باسترداد الأموال العامة بالسودان، بمصادرة أصول تمتلكها حركة حماس الفلسطينية في الثالث والعشرين من سبتمبر 2021، نقطة ومحطة فاصلة في التعاطي السوداني مع حركة حماس، وتبدلًا نوعيًا في تلك العلاقة التي كانت تتسم بالتقارب المتزايد إبان فترة حكم “البشير”.
ولعل هذا القرار الذي تضمن عدد 12 شركة، يأتي بالتزامن مع توجه السودان نحو بلورة استراتيجية واسعة لتفكيك حكم جبهة الإنقاذ والمصادر المختلفة التي كانت تعتمد عليها تلك الإدارة، ويأتي مصادرة تلك الممتلكات التي كانت تُمثل مصدرًا هامًا لدعم الحركة في ظل رغبة “سودان ما بعد البشير” في الحفاظ على مقدرات الثورة السودانية.
كسر الدوائر التقليدية
منذ نجاح الثورة السودانية واقتلاع نظام البشير بات السودان ينتهج سياسات مغايرة لما كان عليه قبيل عام 2019، تجلت في كسر الدائرة التقليدية الإقليمية والمتمثلة في حصر تحركات السودان على الدوائر التي تتوافق بصورة كبيرة معها أيديولوجيًا كما هو الحال بالنسبة لتركيا، وعدد من الحركات المسلحة الأخرى وعلى رأسها حركة حماس التي ارتبطت بعلاقات مميزة بين الطرفين للعوامل الأيديولوجية المشتركة والمصالح المترابطة بينهم وكانت جماعة الإخوان هي حلقة الوصل للطرفين.
وقد لعب حسن الترابي دورًا كبيرًا في عملية الربط بين حركة حماس والنظام السوداني وقدم تسهيلات عديدة تجلت في تشغيل مراكز تدريب لمهندسين الحركة فيما يتعلق بصنع القنابل، إلى جانب فتح المجال أمام التواجد الاقتصادي للحركة وتقديم المنح الدراسية لعدد من أعضاء حركة حماس للانضمام للكليات المختلفة، وفي أثناء تولي “البشير” الحكم ساهم في فتح طريق لإمداد الأسلحة لحماس من إيران وليبيا في أعقاب سقوط النظام الليبي عام 2011، وهذا التشابك في العلاقات بين حماس والسودان دفع لتوتر مقابل في العلاقات السودانية الأمريكية بصورة خاصة والغربية بصورة عامة.
ونتيجة للعلاقة الرابطة بين حماس والسودان، وفي ضوء مساعي إسرائيل لتقويض تحرك “حماس” للحصول على الأسلحة، قامت إسرائيل عام 2009 باستهداف قافلة أسلحة مكونة من 17 شاحنة بالسودان، وتمثل الاختراق الأمني الإسرائيلي للسودان في عام 2011 عندما تم استهدف عبد اللطيف الأشقر مسؤول التسليح بكتائب القسام التابعة لحماس في ضربة جوية داخل بورتسودان، إلى جانب استهداف مصنع اليرموك العسكري في الخرطوم عام 2012، كل تلك التحركات العسكرية تبرز حجم العلاقة الممتدة بين حماس والسودان في صورتها العسكرية أكبر من السياسية أو الاقتصادية.
تربط السودان وحماس علاقات ممتدة ومتشعبة خلال فترة الرئيس السابق “عمر البشير” ساهمت بقدر كبير في حالة التنافر الغربي السوداني، غير أن متطلبات المرحلة الحالية ترمي إلى إحداث توازن بين الدوائر الخارجية المتعددة جاءت في ظل معادلة ضرورية تجلت في التطبيع السوداني الإسرائيلي في مقابل قيام واشنطن بإزالة اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب والدفع في مسار إسقاط الديون المثقلة بها الدولة خلال حقبة البشير، ولعل تلك المعادلة دفعت الإدارة الحالية في السودان إلى اتخاذ قرار بمصادرة الكيانات الخاصة بحركة حماس.
بيد أن سودان ما بعد البشير شهد تحولًا نوعيًا في إطار الإقليم وعلى صعيد الدول الغربية، وجاء ليُمثل الرغبة السودانية في تنوع علاقاته بالشركاء الإقليمين والدوليين والابتعاد عن المحاور التقليدية، ولعل أحد مؤشرات هذا التحول تجلى في وضعية التطبيع التي شهدها السودان مع إسرائيل وهو الأمر الذي لم يكن موجودًا خلال فترة البشير، وارتبط ذلك بتحركات غربية داعمة للسودان من جانب واشنطن على ضوء الانفتاح السوداني على كافة اللاعبين الرئيسين.
وتحقيقًا لذلك الغرض فإن الامتثال السوداني لإغلاق شبكة حماس كان بمثابة المحور الرئيسي للتفاوض مع الخرطوم مع الإدارة الأمريكية لإزالة اسمها من قائمة الإرهاب وربط ذلك بعودة العلاقات السودانية الإسرائيلية والتطبيع بينهما وعززت بصورة كبيرة في إعادة التواجد السوداني على الصعيد الدولي وفي المحافل الرسمية الدولية.
دلالات متباينة
شكلت الأحداث المتواترة في المشهد السياسي السوداني، نقطة ضاغطة على الإدارة الانتقالية السودانية في ضوء إبداء مرونتها في التعاطي مع التخوفات الدولية، وذلك تحقيقًا لقدر كبير من تقديم الدعم اللازم لتلك الإدارة لتخطي عقبات المرحلة الانتقالية.
ولعل هذه الخطوة –مصادرة ممتلكات حماس- تأتي في ضوء تفاقم الأوضاع السياسية الداخلية في عدد من المناطق والتي تُمثل ضغطًا مضاعفًا على المرحلة الانتقالية، وساهمت في بروز أعضاء ومناصرين النظام السابق في الظهور مرة أخرى وتحريك الشارع السياسي في مناطق شرق السودان عبر المظاهرات وقطع الطرق وأعمال العنف. إلى جانب ذلك جاءت حركة الانقلاب العسكري الفاشلة في السودان في 21 سبتمبر 2021 والتي تورطت بها قيادات عسكرية وأخرى مدنية، ومن غير المستبعد أن تكون عناصر حركة حماس قد دعمت أو شاركت في هذه المحاولة الإنقلابية، رغبة في إعادة حليفها (حزب المؤتمر الوطني/ جبهة الإنقاذ) للمشهد مرة أخرى.
أهداف وانعكاسات متعددة
لم يكن قرار لجنة تفكيك نظام ثورة الثلاثين من يونيو 1989 وليد اللحظة الراهنة؛ فمنذ تشكيل تلك اللجنة كأحد مخرجات عملية التحول السياسي في السودان وأحد مطالب الحراك الشعبي الذي اندلع في عام 2019، اتخذت اللجنة عددًا من القرارات المماثلة حيال الكيانات والأشخاص المرتبطين بشبهات فساد مختلفة. ولعل التركيز في الممتلكات الخاصة بحركة حماس جاء ليساهم في تحقيق الرصيد السياسي لدى الإدارة الجديدة في السودان في إطار تفاعلاته الخارجية خاصة، وأن هذا التحول النوعي في علاقة السودان وحركة حماس يضفي قدرًا كبيرًا من الشرعية الدولية ويخلق حالة من الديناميكية الداعمة لمسار عملية التحول الديمقراطي الداخلي، في ظل التناقضات المختلفة بين واشنطن وتلك الحركة في ظل تعقيدات المشهد والصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وعززت تلك المقاربة من توفيق أوضاع الدولة مع الغرب في مرحلة ما بعد البشير.
فضلًا عن ذلك وفي ضوء تحقيق توازن في العلاقات الغربية وإعادة الانفتاح مرة أخرى على الولايات المتحدة وحلفائها، وفي ضوء درء الشبهات عن السودان حول تمويل وإيواء العناصر الإرهابية خاصة وإنه عانى بصورة كبيرة من إدراجه على قوائم الدول الراعية للإرهاب الأمريكية، جاء هذا القرار لتبديل الموقف السوداني من مركز لغسيل الأموال وتمويل الإرهاب إلى فاعل إقليمي ودولي في مواجهة التنظيمات المتطرفة التي تهدد الاستقرار الداخلي.
الأمر وثيق الصلة بإعادة ضبط العلاقات الخارجية وإعادة الانتشار والوجود السوداني في البعد العربي الأفريقي وكذلك البعد الغربي، هو المكاسب والدعم الذي لاقته الإدارة الانتقالية من دعم سياسي في تعزيز مسار التحول الديمقراطي وتسريع إعادة التحالف السوداني مع الغرب، وكذلك في إطار المكاسب الاقتصادية التي تتجلى في الدعم الأوروبي والأمريكي للتوسط في إسقاط وجدولة الديون السودانية في منظمات التمويل الدولية والبالغة نحو 50 مليار دولار.
ولعل هذا القرار يُمثل انعكاسات سلبية على صعيد حركة “حماس” فهذا التحول النوعي في التفاعل مع المجلس الانتقالي السوداني والحكومة السودانية حيالها سوف يأتي بصورة سلبية وتعمل على تقويض تحرك وتموضع حركة حماس في إفريقيا الذي كان يتخذ من السودان مسرحًا للتفاعلات الأخرى في العمق الأفريقي، ومن ثٌم فإن هذا القرار سيفقدها القدرة والدعم المادي، إلى جانب افتقادها لموقع محتمل وتمركز استراتيجي لتحركات أعضائها وعناصرها، وسيولة تدفق الأسلحة إلى غزة، ومن ثٌم فإن هذا التحول مثٌل إرباكًا لحسابات جماعة الإخوان ومعادلة الوجود والملاذات التي كانت تلجأ إليها وما يتبعها من حركات كما هو الحال بالنسبة لحركة حماس.
ختامًا؛ يمثل التحرك السوداني حيال حركة حماس ومصادرة ممتلكاتها المختلفة، نقطة تحول نوعي في ضوء مساعي الخرطوم لكسر الدوائر التقليدية التي اتسمت بها العلاقات الخارجية السودانية إبان حكم البشير، وتُمثل أيضًا رغبة السودان في توسيع دائرة التفاعل الخارجي وكسر الدائرة التقليدية وإعادة الانفتاح بصورة أكثر فاعلية في المجتمع الدولي بعدما شهد عزلة ممتدة منذ التسعينيات، وتأتي تلك الخطوة لتُجسد حالة التعاطي الإيجابي مع الفاعلين في المنطقة وترسيخًا واستكمالًا لما تم اتخاذه من إجراءات لبناء الثقة مع الدول المختلفة وعلى رأسها واشنطن، واستكمالًا لمكتسباته خاصة رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب.