
“توأمة صاعدة”.. مصر والعراق : شراكة متنامية في إقليم مضطرب
يمكن وصف عام 2021 بأنه عام العلاقات ” المصرية العراقية ” بامتياز، حيث ازدادت الزيارات المتبادلة لمسؤولي الدولتين بشكل ملحوظ وغطت الملفات ذات الاهتمام المشترك، منها ملفات الدفاع ؛ المياه ؛الطاقة والأمن وجوانب الاقتصاد والتنمية المستدامة.
ففي يونيو من هذا العام ؛ زار الرئيس عبد الفتاح السيسي العاصمة العراقية بغداد، في أول زيارة لرئيس مصري للعراق منذ 30 عاماً، وذلك في إطار فعاليات القمة الثلاثية بين “مصر – العراق – الأردن” ضمن تحضيرات مشروع الشام الجديد. فيما كانت الزيارة الثانية للرئيس السيسي، في أغسطس الماضي، ضمن فعاليات مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة.
فضلاً عن زيارات سابقة تمت منذ أواخر العام 2020، وكانت على مستوى رئاسة الوزراء والخارجية. ولعل أبرزها زيارة رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي للعراق في 31 أكتوبر 2020، حيث شهدت الزيارة إعادة تفعيل عمل اللجنة العليا المشتركة بين البلدين التي وُقعِت كآلية من آليات الدبلوماسية الاقتصادية المصرية لتنسيق أطر التعاون الدولي مع العراق، وذلك في العام 1988.
وكان آخر هذه محطات التعاون والزيارات المتبادلة، زيارة رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي للقاهرة، حيث التقى السيسي، أمس الأربعاء، على رأس وفد عراقي رفيع المستوى ضم رؤساء لجان (المالية- العلاقات الخارجية- الأمن والدفاع- اللجنة القانونية) بمجلس النواب العراقي، وخالد جواد كاظم، رئيس لجنة هيئة النزاهة، وجابر خلف عواد الجابري، عضو مجلس نواب سابق ومستشار رئيس البرلمان، وأحمد حامد خلف، سكرتير الرئيس، وشاكر حامد جلاب، المستشار الإعلامي.
وكان اللقاء بمقر رئاسة الجمهورية في قصر الاتحادية، وذلك بحضور المستشار حنفي جبالي، رئيس مجلس النواب، والسفير أحمد الدليمي، سفير جمهورية العراق بالقاهرة.
وكان جدول رئيس مجلس النواب العراقي حافلاً بلقاء المسؤولين المصريين، فبخلاف لقائه مع السيسي الذي أكد دعم مصر للعراق في كافة المجالات، علاوة على رفض التدخلات الأجنبية في شؤون العراق الداخلية؛ التقى الحلبوسي مع رئيس مجلس النواب، المستشار حنفي جبالي، الذي أكد تطلع الجانب المصري لتعزيز أطر التعاون البرلماني مع مجلس النواب العراقي، كما صحبه في جولة تفقدية داخل أروقة المجلس شملت القاعة الرئيسية للمجلس، ومتحفه، حيث استمع فيها الحلبوسي إلى شرح وافِ لتاريخ الحياة النيابية المصرية.
وجمع لقاءً آخر؛ الحلبوسي مع شيخ الأزهر الشريف، الدكتور أحمد الطيب، الذي أكد رغبته في زيارة العراق ولقاء كل طوائفه.
سياقات ودلالات الزيارة
وتأتي زيارة الحلبوسي مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية العراقية المزمع اجراؤها في أكتوبر المقبل، كما تأتي في سياق انتهاج دوائر صنع القرار “الوطني” في العراق لسياسات إيجابية نشطة في المحيط العربي والإقليمي للعراق، بغية نقله لمستوى “الفاعل” الإقليمي، بعدما تغيب منذ عقدين عن الساحة الإقليمية والدولية على إثر الاحتلال الأمريكي الذي حللّ وفكك مؤسسات الدولة العراقية الوطنية وأدخل المحاصصة الطائفية ضمن الهياكل والأجسام الحكومية بما أبقى على واقع سياسي – بيروقراطي مأزوم، أصاب الأجسام الحكومية العراقية بانحراف عن منظومة الأمن العربي الإقليمي على المستوى السياسي والأمني، جراء اختلال ناجم عن تعمق معضلة الهوية الوطنية، ومعضلات الانتماء لمشاريع التوسع الإسلامية بنسختها السنية والشيعية، جراء اقتحام المشروع التوسعي الإيراني للمجال العراقي على نحو طائفي عنيف، حيث أكمل هذا المشروع إخراج العراق مؤقتاً من دائرة العمل العربي المشترك.
إلا أن دفة السياسات الخارجية للعراق اختبرت توجهاً مغايراً لما كان سائداً منذ العام 2003، وذلك بتسلم مصطفى الكاظمي لرئاسة الوزراء في مايو من العام 2020. حيث عمل على:
- تدشين علاقات متوازنة وندية مع دول الجوار: حيث أجرى الكاظمي عدة زيارات خارجية منذ منتصف 2020، وتداخلت فيها الدائرة العربية والإقليمية والدولية، من خلال زيارات هامة لكل من الكويت والسعودية وإيران وتركيا والأردن والولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. وكانت تهدف في مجملها إلى إخراج العراق من سياسة المحاور قدر الإمكان وإعادة دمجه في منظومة الاقتصاد المعولم.
- الحفاظ على علاقات متوازنة مع الفواعل المحلية: يناور الكاظمي بمشروعه الوطني مع الفواعل المحلية (الميلشيات + الكيانات السياسية الحزبية) الموالية لإيران ومشروعها في المنطقة، وتشكل خطورة هذه المناورة في امتلاك هذه الأجنحة لقدرات عسكرية قد تفوق ما يملكه الجيش العراقي من حيث القدرات التعبوية والتقنية “الدورنز”.
من هاتين النقطتين السابقتين، يدور العراق الآن في فلك المنظومة الإقليمية، ويحدث وقعا خفيفاً على المسرح الجيوسياسي للمنطقة، إذ يدرك الكاظمي خطورة ترجمة مشروعه الوطني على الأرض وفي السياسات العامة للعراق، من دون تأمين ظهير عربي قوي يعيد لبغداد دورها الإقليمي المسلوب منذ عقدين. ومن هذا السياق يمكن تفسير جدية العراق في الانخراط في تحالف الشام الجديد والاستثمار في العلاقات الثنائية مع مصر.
بدورها، تقود القاهرة مهمة إعادة هندسة المشهد الأمني في المنطقة وإبطاء ومن ثم إحباط مشاريع الهندسة الطائفية التي أبقت على طاحون الحروب والصراعات الداخلية قائمة، بما يخدم أهداف القوى الإقليمية غير العربية كإحداث عمليات تغيير ديمغرافي كبير بطول الرمادي وصولاً حتى الساحل السوري واللبناني.
ويحتل العراق مركزاً رئيسياً في الرؤية المصرية لصيانة الأمن القومي العربي وتباعاً إحباط مشاريع الهندسة الطائفية، انطلاقاً من عدة نقاط، أبرزها:
- الإرث التاريخي للعراق: يتميز العراق عن دول جوار كونه صاحب واحدة من أقدم وأعظم حضارات التاريخ الإنساني، حيث اختبرت حضارات بابل وآشور وسومر مفاهيم الدولة بنسقها الوطني والقومي، وقدمت إسهامات علمية وعسكرية وضعت العراق وشعبه أمام موروث من القيم المشتركة التي يمكن استثمارها في تدشين دولة وطنية حديثة، يجتمع بواسطتها مختلف الطوائف والعرقيات على أساس من المصلحة المشتركة.
- الموقع الاستراتيجي للعراق: يعتبر العراق البوابة الشرقية للمنطقة العربية، إذ يُشكل وبحق خط الدفاع الأول أمام التهديدات القادمة من أوراسيا وإيران، وقديما افتدي العراق المنطقة العربية والإسلامية بأكملها، أمام موجات المغول التي اكتسحت بغداد في القرن الثالث عشر. ولتفعيل دور العراق كبوابة شرقية للمنطقة، تجدر الإشارة بأهمية النهوض بمؤسساته الوطنية ولاسيما العسكرية والأمنية. وتري القاهرة في العراق الجديد فرصا للتخفيف من معاناة الشعب العراقي ومن ثم الخروج به من سياسة المحاور، لفضاءات من السياسة الإيجابية النشطة.
- الإمكانات الاقتصادية الهائلة للعراق: اذ يحتل العراق المرتبة الخامسة عالمياً والثانية عربياً في احتياطات النفط المؤكدة لديه. حيث يمكن القول انه لولا النفط ما تمكن العراق من الصمود طوال العقدين الماضيين بالرغم من تحلل مؤسساته وتحييد كوادره المخضرمة وتدمير أجهزته البيروقراطية. كما يحظى اقتصاد هذا البلد النفطي الكبير باستثمارات كبيرة بقطاع النفط، وحيث بلغت موازنة عام 2021 نحو 130 تريليون دينار ما يناهز 89.65 مليار دولار، وذلك بناء على متوسط سعر للنفط يبلغ 45 دولارا للبرميل على مدار العام، وتتوقع صادرات نفطية للبلاد بمتوسط يبلغ 3.25 مليون برميل يوميا. هذا علاوة على الثروات الطبيعية في كل من الفوسفات والغاز.
وعليه تولي الدولة المصرية اهتماما بالغا بالعراق، للمشاركة في عملية إعادة دمجه للمنظومة العربية بشقها الأمني والسياسي والاقتصادي، من خلال تدشين الشراكات الاستراتيجية التي تقوم على أساس اقتصادي وليس آيديولوجي أو أمني بحت، والدخول في ملف إعادة الأعمار، والتنسيق في ملفات المياه والربط الطاقوي، بما يعزز من شرعية وكفاءة الحكومة العراقية التي بدت وكأنها تتنفس الصعداء منذ بدء عقد اجتماعات اللجنة العليا المصرية العراقية المشتركة في اكتوبر 2020، ووصول الوفود الحكومية المصرية للعراق في يوليو الماضي بعد زيارة الرئيس السيسي لبغداد، لبحث فرص الاستثمار ومشاريع إعادة الإعمار تحديداً. في رمزية لم تخل من ذاكرة القواسم المشتركة بين مصر والعراق تاريخياً، حيث صاغ البلدان حضارات العالم القديم، وشكلا معاً خطوطاً للدفاع عن منطقة ممتدة من الرمادي وصولا للقاهرة.
وأخيراً، يقود رئيس البرلمان العراقي، تحالف “تقدم” الذي يسعى لتأكيد البعد العربي في مجمل السياسات العراقية، ولعل الاستحقاق الانتخابي العراقي القادم، يحمل فرصاً لاستكمال مشروع الدولة الوطنية في العراق، إذ بات هذا المشروع يحظى بدعم مصري غير محدود، أكدته كلمات الرئيس السيسي في قمة بغداد للتعاون والشراكة، وكذلك خطوات الحكومة المصرية في الإبقاء على قنوات الاتصال مفتوحة مع الجانب العراقي، وهو ما عبرت عنه زيارة الحلبوسي للقاهرة، والتي من المرجح أن تستضيف زيارات أخرى للعراق في المستقبل القريب.