العراق

هل يعيد “مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة” العراق فاعلا إقليميا؟

انطلقت اليوم، السبت، 28 أغسطس، فعاليات مؤتمر “بغداد للتعاون والشراكة” بمشاركة 9 دولة عربية وأجنبية ومنظمات عربية ودولية كالاتي (مصر – الأردن – السعودية – الإمارات – الكويت – قطر – تركيا – إيران – فرنسا)، وشاركت منظمات (الجامعة العربية – مجلس التعاون الخليجي – منظمة التعاون الإسلامي) ؛ فيما حضر ممثلون عن الدول الأعضاء في مجلس الأمن ودول العشرين.
وتعتبر هذه القمة هي الأولى من نوعها منذ 18 عاما، التي يشهدها العراق المنعزل عن محيطه العربي والإقليمي.
ويأتي انعقاد القمة – ذات اليوم الواحد – في ظل سياقات عراقية داخلية كاحتدام التنافس على الانتخابات النيابية وعودة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي للمشهد من خلال زيارته لإقليم كردستان العراق في 25 من أغسطس الجاري وتحركاته التوافقية مع تيار قيس الخزعلي زعيم ميليشيات “عصائب أهل الحق ” المرتبطة بالقرار الاستراتيجي لطهران، والخلافات الكبيرة بينهما مع تيار “الصدر”، فضلاً عن تداعيات جائحة فيروس كورونا اقتصاديا وأوضاع هشة أمنياً تُرجمت في تجدد نشاط تنظيم داعش في بعض جيوب بغداد، واستمرار اغتيال النشطاء العراقيين، حيث وصلت عمليات ومحاولات الاغتيال حتي الآن لـ 70 عملية.
أما السياقات الإقليمية التي رافقت انعقاد القمة، فكانت لا تختلف عما تشهده الساحة الداخلية العراقية من حدة وتشابك، وصِدام بين القوي الإقليمية المتنافسة على ملء الفراغ الأمني الذي تحدثه حركة الانسحابات الأمريكية من بؤر الصراع في المنطقة الممتدة من كابول إلى بغداد.
وبات العراق ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية بين كل من تركيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة، الأمر الذي يقوض فرص خفض التحديات الداخلية للساحة العراقية، والتهدئة من وتيرة المواجهة الإقليمية المستعرة، وعليه جاء انعقاد قمة “بغداد للتعاون والشراكة”، ليحمل حزمة من التوجهات والمؤشرات العامة للسياسة الخارجية العراقية يمكن تحديدها وفقاً للأتي :


الانتقال بالعراق لدور الوسيط الإقليمي: بالنظر للموقع الجغرافي للعراق، نرى أنه ليس بـ “جناح” يُشرِف على البوابة الشرقية للمنطقة العربية، لكنه يقع ضمنياً وسط قوي متصارعة كالسعودية وإيران، وإيران وإسرائيل، وتركيا وإيران. ويحاول الكاظمي الانتقال بالعراق من موضع “ساحة تصفية الحسابات” لمحطة “الوسيط الإقليمي”. حيث تبرهن زياراته خلال الستة أشهر الأخيرة على ذلك التوجه بالنظر إلى “الأضداد” التي كانت ضمن برنامج زياراته الخارجية. ففي أقل من أسبوع استقبل الكاظمي وزير خارجية إيران السابق “جواد ظريف”، في 19 يوليو الماضي، وبعدها بيوم أجري الكاظمي زيارة للسعودية، تبعتها زيارة لإيران والولايات المتحدة. ويأتي هذا التسلل في زيارات الكاظمي بعدما انتشرت تقارير في إبريل الماضي تفيد باحتضان بغداد لقاء ضم مسؤولين سعوديين وإيرانيين لبحث إيجاد مقاربة لتهدئة بين الخصمين اللدودين. وتأتي قمة اليوم لتجمع ذات “الأضداد” على طاولة واحدة وهذه المرة بصورة علنية وضمن مساحات مشتركة يمكن البناء عليها.
تخفيف الهيمنة الإيرانية والاندماج في المنظومة الإقليمية: يعتبر النفوذ الإيراني في العراق من الأمثلة على مستويات الاختراق التي من الممكن أن يسببها التماهي بين مفاهيم الدولة الوطنية، والحاكمية الإسلامية. إذ تمتلك إيران نفوذاً هائلاً في العراق ضمن دوائر أمنية وسياسية وعسكرية، أدت لعرقلة عودة العراق لمعادلة القوة العربية أو على الأقل اندماجه بسياسة إيجابية نشطة مع محيطه العربي وقضاياه. إلا أن ثمة انفراجه تمثلت في إطلاق مشروع الشام الجديد بين مصر والعراق والأردن، فللمرة الأولى منذ الحرب السورية، تشهد تلك المنطقة تحالفاً قائماً على الشراكات الاقتصادية وتحقيق التكامل، بدلاً من الجانب الأمني والأيديولوجي البحت. ما شكّل فرصة للعراق لتخفيف وطأة النفوذ الإيراني المتعلق بملفات الطاقة والإمداد العسكري والتقني؛ باندماج تكاملي مع قطبين يعوضا العراق عن احتياجاته الأساسية لبناء أسس دولة وطنية جامعة. من دون اتاحة البيئة المناسبة لإيران وسياساتها الهدامة من التواجد بشكل معرقل. ولاسيما مع تطرق رئيس الوزراء العراقي في خطاب القمة لقضية “السلاح المنفلت” في إشارة للميلشيات التي تتبع القرار الاستراتيجي لطهران.
من الفضاء الإقليمي للدولي: كان الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون أول من أكد حضوره في قمة اليوم. كما تعد زيارته الحالية للعراق هي الثانية له خلال عام. وتعكس الاهتمام الفرنسي بعدة مقاربات أبرزها مكافحة الإرهاب ودعم الإجراءات الانتخابية، ورعاية الأصول الدينية المسيحية، كما يظهر في زيارته المقررة غداً للموصل وكنيسة “نوتردام دي لور” التي حولها تنظيم داعش لثكنة عسكرية. ولا شك في رغبة الجانب الفرنسي إحراز عدة أهداف من الاهتمام بالعراق منها زيادة مبيعات الأسلحة وتعزيز أوراق الضغط على تركيا حتى بالرغم من هدوء وتيرة التصادم بين أنقرة وباريس إلا أن الأخيرة تري أن نظام أردوغان ليس مأمون الجانب وعليها التعامل بحذر في محيطه الإقليمي من أرمينيا لشمال العراق. حيث أعلن الرئيس ماكرون أن قوات بلاده لن تغادر العراق في إشارة للقوات الفرنسية المشاركة ضمن عملية “الشمال”، وتري بغداد في الحرص الفرنسي على إقامة علاقات ثنائية متينة، فرصة للخروج من فضاء الدائرة الإقليمية للدولية، لممارسة سياسة خارجية تقوم على مقاربات مكافحة الجريمة المنظمة والإرهاب وجرائم غسيل الأموال، ولعل زيارة الكاظمي لإيطاليا مطلع يوليو الماضي تؤكد تطلعات السياسة العراقية للانتقال من الإقليمية إلى الدولية فيما يخص نشاط السياسة الخارجية لتكوين “شبكة أمان” تمنعه من الانهيار وتساعده في اتخاذ قرارات تتسم بالاستقلالية الوطنية.

استنتاجات:

التهدئة من دون احراز اختراق دبلوماسي: على قدر الإجادة المبدئية للعراق في ممارسة دور “الوسيط الإقليمي” الذي جمع بين “أضداد” هدّم صراعها منظومة الأمن الإقليمي، إلا أن الامر لم يتخط عتبة الوقوف على أرضية مشتركة من حيث دعم العراق وسلامة شعبه وأمنه، إلى مرحلة تحقيق “اختراق ديبلوماسي” يبلور إطاراً توافقياً لإقرار ترتيبات أمنية وسياسية بين “الأضداد” ترمي لخفض مستوي الاشتباك. فمازال باليستي الحوثي ومسيراته تهدد السعودية وبنيتها التحتية الحساسة، كما تهدد أمن كل من الخليج والبحر الأحمر إذا ما نظرنا لديناميات حرب السفن المشتعلة بين كل من إيران وإسرائيل. حيث وظفت فيها الأولي وكلائها لأعمال لوجيستية وميدانية. كما أن الوساطة العراقية المقترحة بين الولايات المتحدة وإيران منذ فبراير لم تسفر عن تحجيم ارتهان الميليشيات المسلحة التابعة لإيران، لمتطلبات قيادة الحرس الثوري لإحكام السيطرة على الطريق البري بين طهران ودمشق، ما أدي لغارات أمريكية بين الفينة والأخرى تستهدف مواقع لكتائب عراقية بطول معابر الشريط الحدودي بين العراق وسوريا.
معوقات للاندماج ضمن منظومة الأمن العربي الإقليمي: بالرغم من قلة مجسات النبض التي يمكن من خلالها استشعار اتجاهات عودة العراق لمنظومة الأمن العربي الإقليمي، كالموقف الحكومي العراقي مثلاً من الانتهاكات التركية في مناطق الشمال، إلا أن ثمة معوقات تظهر أمام ما تطرق إليه الكاظمي اليوم، من رفض الإملاءات الخارجية، كآلية أولية للعمل ضمن منظومة الأمن العربي الإقليمية. ومنها طبيعة عمل الميليشيات الموالية لإيران التي استخدمت الأراضي العراقية في شن هجمات بالوكالة لصالح إيران، ولعل في سقوط صواريخ كاتيوشا داخل الحدود الكويتية في توقيت عقد القمة؛ مؤشراً لحالة السيولة الأمنية التي تهدد القيادة العراقية حال اتخاذها خطواتِ تتسم بالاستقلال الوطني. وخاصة بعدما زار الكاظمي الكويت في 22 أغسطس الجاري.

ختاما

بين محاور إقليمية وقوى متصارعة وأوضاع داخلية متفاقمة، يكافح العراق للوقوف كوسيط إقليمي، بعدما فقد من القوة ما يؤهله للتأثير الفعلي في مجمل سياسات محيطه، ولعل في كلمة الرئيس السيسي اليوم واستدعائه الموروث التاريخي للشعب العراقي منفذاً نحو تثبيت هوية جامعة تنأى بالعراق عن التحزب والتعصب الطائفي والمذهبي، حيث بدأ العراق منذ مايو 2020، في رحلة بحث عن هويته التي اختطفها النفوذ الإيراني منذ غزو العراق بالعام 2003.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى