
انحياز للنوع: سياسات التعليم عند طالبان
بدت الكلمات مسالمة في المؤتمر الصحفي الأول لحركة طالبان بعد السيطرة على العاصمة الأفغانية في الساعات القليلة الماضية، وتضمنت تصريحات المتحدث الرسمي باسم طالبان في المؤتمر ذكر “التعليم” دون الإفصاح عن أي تفاصيل. ولمّا كانت طالبان على يقين شبه تام من اضطهادها للإناث فقد أفردت مساحة من المؤتمر للحديث عن عهد جديد لحقوق المرأة للتعليم والعمل في إطار شريعة إمارة أفغانستان الإسلامية. هذه الكلمات التي تبدو تصالحية لا تتفق وسياسات التعليم عند طالبان، والتي شهدت تطورات جائرة ومتحيزة ضد المرأة قبل وبعد أحداث 2001.
سياسات “طالبان” التعليمية
انصرف تحول نظام الحكم عند طالبان قبل أحداث 2001 وما بعدها على تطور السياسات التعليمية، فالتعليم عند طالبان في التسعينات كان مجرد وسيلة لإرساء القيم الإسلامية بهدف إصلاح المجتمع، لذلك اقتصرت السياسات على حذف المناهج العلمانية وإضافة المناهج والكتب الدراسية الدينية، ولم يكن لدى طالبان في ذلك الوقت خطة شاملة للتعليم حتى نهاية 1999 العام الذي دشنت فيه طالبان دستورها، وتضمن استراتيجية محددة إزاء قطاع التعليم، حيث اشتملت على رؤية لإتاحة التعليم بالمجان حتى نهاية المرحلة الأساسية، لكن هذه الاستراتيجية ظلت قيد التخطيط ولم تنفذ. لذا انخفضت نسب التحاق الإناث بالمدارس الابتدائية قبل 2001 كما يوضحها الشكل (1) بحسب الإحصاء الصادر عن معهد اليونسكو للإحصاء عام 2015.
شكل (1) متوسط نسب الإناث بالمدارس الابتدائية قبل وبعد طالبان
عللت طالبان عدم تشجيعها تعليم الإناث خلال تلك الفترة لضعف الموارد المالية، وما يتطلبه تعليم الإناث من مدارس مخصصة ومعلمات متخصصات لفصلهن عن الذكور، علاوة على توفير وسائل لنقلهن من وإلى المدارس. كانت هناك بعض الاستثناءات الطفيفة جدًا لتعليم الفتيات في بعض المدن بما فيها “كابول” حيث سجلت إحصائيات اللجنة السويدية عام 1997 التحاق نحو 13 ألف فتاة فقط بالتعليم الإبتدائي. لكن بصفة عامة تعمدت طالبان تطويع قضية تعليم الإناث وتوظيفها كضغط تتكتيكي في مفاوضات الحصول على تمويل للتعليم من المنظمات الحقوقية الدولية.
من جهة أخرى بعيدًا عن طالبان، شهد التعليم في أفغانستان تطورًا ملحوظًا مع بداية الألفية الثانية، حيث تضاعفت نسب الالتحاق بالمدارس بشكل عام لأكثر من 7 أضعاف، وزاد الإنفاق على التعليم وبلغ نحو أكثر من 35 مليار أفغاني سنويًا وفق الإحصاء الصادر عن البنك الدولي عام 2018، لكن ظل نصيب الإناث من التعليم ضعيفًا وخاصة في المناطق الريفية والمتأثرة بالصراع.
بعد عام 2001 شهدت السياسات التعليمية لطالبان تحولات متباينة فقد حظرت طالبان العمل بالتعليم عام 2006 بموجب مادة صريحة تعتبر المدارس أهدافًا مشروعة للهجوم؛ كونها تمثل مقرات للاحتلال الاجنبي، ومادة أخرى تبيح التعدي على كل من هو معلم أو يعمل بالتعليم، وكنتيجة لذلك تم إغلاق نحو نصف المدارس في جنوب أفغانستان عام 2008 وكانت النسبة الأكبر لصالح مدارس الفتيات وفق تصريحات اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان في نفس العام. فرضت هذه التحركات ضد المدارس انتفاضة شعبية تطالب بحق التعليم فوافقت طالبان طوعًا على تشغيل مدارس البنين فقط في معظم مدن جنوب شرق أفغانستان، والتي كانت تتمتع بوحدة مجتمعية وسلطة عرفية نتيجة لارتفاع نسبة كبار السن، علاوة على تماسك مجتمعات تلك المناطق على العكس من مدن الجنوب.
انخفضت الهجمات على المدارس بين عامي 2009 و2010، وتباينت أنماطها، ففي الجنوب استمرت طالبان في شن هجمات على المدارس والمعلمين، بينما في الشمال عاقبت المعلمين المتغيين والأطفال وأولياء أمورهم على عدم الانتظام في المدارس. وفرضت بعض الإجراءات منها حذف المواد الدراسية العلمانية أو “غير الإسلامية”، وإلغاء الزي المدرسي واستبداله بالزي “التقليدي”. كذلك قامت بإدراج مواد جديدة عام 2009 بسياسات التعليم تعترف ضمنيًا بحق التعليم كالمادة “42” والتي تنص على “يجب أن تكون جميع الأنشطة المتعلقة بالتعليم في هيكل الإمارة الإسلامية وفقًا لمبادئ وتوجيهات هيئة التربية والتعليم. يجب على مسؤولي المقاطعات الذين يقومون بتنفيذ شؤونهم التعليمية اتباع سياسة المفوضية العليا لإمارة أفغانسان الإسلامية”
أما عن السياسات التعليمية لطالبان في الوقت الراهن فتتمثل في جملة الوثائق التي تتكون من سبعة فصول: تضم أهداف السياسة العامة، وتحديد التعليم والأدوار والمسؤوليات داخل الهيكل التنظيمي، بالإضافة إلى تنظيم الشؤون المالية والإدارية، وموضوعات للتعليم، علاوة على عدد من المبادئ التوجيهية لقواعد طالبان للتعليم على مستوى المقاطعات. تعكس هذه الوثاق تطورًا في سياسة تعليمية تبدو شاملة. إلا أن فلسفة التعليم لم تتغير حيث ترتكز على التعليم الإسلامي وفق نهج طالبان الخاص وبما يحقق أهداف الإمارة مع تبني الالتزام بالمذهب الحنفي دون غيره. والسماح بإنشاء أقسام تعليمية لبعض العلوم الحديثة تخصص لأبناء دولة المجاهدين الأفغان فقط. وإجمالاً لا تكاد تتفق وثائق طالبان مع الممارسات الفعلية على أرض الواقع.
على الصعيد الإداري للتعليم عند طالبان فهو ينتسب إلى التنظيم البيروقراطي الهرمي من السلطة الأكبر في القمة إلى السلطات الأقل، حيث تشرف المفوضية العليا لطالبان على قطاع التعليم وتصدر سياساته بعد مناقشة مجلس الشورى، ثم تمررها إلى اللجان الفرعية المختصة ومنها إلى الموظفين فالإداريين. ويعكس هذا النهج المركزي من أعلى إلى أسفل استحالة مرونة التعديل في خطط التعليم لذا يمكن التنبؤ باستغلال المدارس كحاضنات لتجنيد المزيد من الطلاب في المستقبل القريب.
انحياز ضد الإناث
على الرغم من أن وثائق التعليم الحديثة لطالبان اشتملت على ضرورة تزويد المرأة بالدراسات الإسلامية وغيرها من الدراسات السليمة المطلوبة على حد قول الحركة، إلا أنها لم تحدد إجراءات تفعيل ذلك. فإن المتمعن في تصريحات طالبان والتي تبدو محايدة تجاه النوع الاجتماعي وحقوق التعليم سيجد أنها في ذات الوقت غامضة وتفتقر إلى النتائج الملموسة، وبهذا تظل سياسة طالبان لتعليم الإناث واحدة لم تتغير، بل وتتفق مع سياسة تعليم الإناث قبل 2001.
قسمت طالبان الفتيات في وثائقها الأخيرة عن التعليم إلى فئتين، الأولى عن تعليم الإناث قبل البلوغ، والفئة الثانية عن تعليم الفتيات بعد البلوغ، لم توضح طالبان إجراءات تعليم الفتيات من الفئة الأولى لكنها وضعت بعض الشروط لتعليم الفئة الثانية منها أن يتم تعليمهن بشكل منفصل عن الذكور إما في الفصول أو المباني أو المدارس إذا ما توافرت الإمكانيات المادية لذلك، كذلك يجب أن ترعى عملية التدريس الفتيات معلمات فقط، ويستثنى في بعض الحالات قبول معلمين ذكور بشرط أن يكونوا من كبار السن.
في ديسمبر 2020 أبرمت طالبان مع منظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونسيف” اتفاقية لدعم التعليم في 4000 فصل مجتمعي للمرحلة الابتدائية منها فصول للإناث حتى سن الثامنة فقط، ومازالت “يونيسف” تتفاوض على مسألة السن لإتاحة التعليم للفتيات ما بعد سن الثامنة، لكنها باءت بالفشل. أكدت هذه الاتفاقية وجود أرضية مشتركة لدعم تعليم الإناث دون سن البلوغ، وأكدت على سيطرة طالبان وتمسكها بشروطها دون تنازل.
أكدت دراسة مسحية صادرة عن مؤسسة أسيا عن أفغانستان عام 2019 أن أكبر المشاكل التي تواجه المرأة هي نقص فرص التعليم بنسبة تخطت 43%، يليه نقص شبه كامل في الحقوق بلغت نسبته نحو 34%، بالإضافة إلى نقص فرص العمل، والعنف، ونقص الخدمات بنسب أكثر من 24%، و18% و13% على التوالي. وعن أسباب نقص التعليم سجلت نتائج الإحصاء من الأسباب الرئيسية لعدم الذهاب إلى المدارس كان العمالة، كذلك جاءت استجابات المسح توضح أن تعليم الفتيات ليس محل اهتمام، فقد أجاب نحو 20% من عينة البحث أن بناتهم لا يحتجن إلى التعليم شكل (2).
شكل (2) أسباب عدم إلتحاق الإناث بالمدارس
ختاماً: تبدو سياسة طالبان نحو التعليم أكثر شمولاً بعد 2001، ويشير هذا إلى أن طالبان أضحت منفتحة على مناهج جديدة كوسيلة لفرض السيطرة، وتعزيز عقيدتها من خلال التعليم بما يحقق أهدافها في المرحلة المقبلة، لكن تظل قضية الإنحياز ضد النوع الاجتماعي قائمة، وشاهد عيان على الفجوة الحقوقية المرتكزة على الجنس، ما يستدعي المزيد من الخطط والتدخلات الدولية لدعم حقوق الإنسان بشكل عام، والمرأة بشكل خاص في أفغانستان خلال الأزمة الراهنة.
باحثة ببرنامج السياسات العامة