لم تعد حروب المياه حروبًا افتراضية يتم الحديث عنها باعتبار ما يمكن أن يحدث مستقبلًا، وإنما غدت واقعًا يحدث ويتحرك في أي وقت بطلقة بندقية أو ضربة مدفع بين الأطراف المتنازعة، وليس أدل على ذلك من الحرب التي قد تشتعل بين إيران وأفغانستان بسبب الخلافات حول ملف المياه شديد الحساسية بين البلدين. وعلى الرغم من التعقيدات المتشابكة التي تحكم العلاقات بين كابول وطهران وأن نقاط التلاقي تغلب على هذه التعقيدات، فإن ملف المياه وحده قادر على إشعال الحرب بين ليلة وضحاها، خصوصًا بعد أن تبادلت طالبان وإيران إطلاق النار بكثافة على الحدود الإيرانية الأفغانية، مما أدى إلى تصعيد التوترات بين البلدين وسط نزاع حول حقوق المياه.
وترجع أصول أزمة المياه في إيران إلى المنطقة الجنوبية الشرقية التي تعاني من الجفاف بشكل كبير، وتعتمد على تدفق المياه من نهر هلمند الذي ينبع من أفغانستان التي تقيم السدود على النهر وتحرم مناطق إيرانية من تدفق المياه بالمخالفة للاتفاقية التي تم توقيعها بين البلدين في عام 1973. وبموجب الاتفاق تمنح أفغانستان إيران 26 مترًا مكعبًا من المياه في الثانية الواحدة، وهو ما يصل سنويًا إلى 820 مليون متر مكعب من المياه.
لكن طهران تقول إنها تتلقى حوالي 4% فقط من إجمالي الكمية المتفق عليها بموجب الاتفاق، وهو ما ترد عليه كابول بأنه أمر غير متعمد، معزية إياه لتراجع منسوب المياه في النهر بفعل الجفاف والتغيرات المناخية حيث أثر تغير المناخ على التوزيع الطبيعي للمياه، في وقت يذوب الثلج الآن فيه في وقت أبكر من المعتاد بسبب ارتفاع درجات الحرارة مما يؤدي إلى ارتفاع غير موسمي في المياه والفيضانات المفاجئة. لكن البداية المبكرة لذوبان الجليد لا تزال لا تعمل على تجديد مستويات المياه الجوفية. وقد أدى فشل طالبان في إدارة تخزين المياه المفاجئة إلى زيادة تدفق المياه بشكل غير عادي لإيران خلال فصل الشتاء.
ووفقًا للتقارير، فقد فشلت طالبان في تخزين المياه في سد “كمال خان” وحتى تحويلها إلى الخزانات، مما أدى إلى انخفاض توافر المياه للأشهر التالية. ونتيجة لذلك، حصلت إيران على كميات من المياه خلال أشهر الشتاء أكثر من السنوات السابقة، لكنها لن تحصل عليها خلال فصل الصيف نظرًا لقلة المياه.
وحسب ما يتم الإعلان عنه، فإن طالبان تعمل على بناء سد جديد على نهر “فرح” الذي يغذي الأراضي الزراعية في جنوب غرب أفغانستان ويصب أيضًا في جنوب شرق إيران، مع الأخذ بالحسبان أن الحكومة الإيرانية لا تزال حتى الآن لا تعترف بحكومة طالبان رسميًا ولكنها أقامت معها قنوات اتصال.
وما زاد من حالة التوتر هو النزاع حول ملف المياه، خصوصًا لأن “طالبان” ترفض السماح للوفود الإيرانية بالقيام بزيارات استكشافية داخل أراضيها وتؤكد تمسكها بحقوق المواطنين الأفغان في الاستفادة من خيرات نهر “هلمند”؛ وذلك سعيًا من حكومة “طالبان” لزيادة الرقعة الزراعية البالغة مساحتها ثمانية ملايين هكتار من أراضي البلاد والتي لا تستغل منها سوى مليوني هكتار. فتركز حكومة طالبان على المسألة الاقتصادية؛ رغبة منها في إضافة مواردها الزراعية إلى مواردها المعدنية التي تقدر بأكثر من 3 تريليونات دولارات، وعلى رأسها المعادن النادرة التي تدخل في صناعة أشباه الموصلات عبر معدن “الليثيوم”.
وتدفع كابول بطرح آخر استندت إليه في عام 2014 عندما أشارت إلى أن طهران لم يعد بإمكانها الحصول على نفس حصة المياه بسبب التغيرات المناخية، ووجهت الاتهام لطهران بانتقاد خطوة بناء سد “كمال خان”، لأنه أخرج أفغانستان من مساحة الحاجة إلى استيراد الكهرباء من إيران، وجعلها تقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي من الطاقة الكهربائية. وعلى الجانب الآخر، فإن الحرب الروسية- الأوكرانية جعلت إيران أكثر تركيزًا على مسألة الأمن الغذائي خصوصًا أنها تستورد محاصيل الحبوب من روسيا بمبالغ طائلة.
ومن النقاط الأخرى التي تركز عليها كابول هي أن إيران تعاني من الأساس من مشاكل أخرى من المياه مع جيران آخرين مثل العراق، وأنها تتعمد تعطيش المنطقة التي تغلب عليها القومية العربية في منطقة الأحواز، وأنه على الرغم من أن المياه في منطقة الأحواز تمثل نصف المخزون المائي الإيراني، فإن الإقليم عانى على مدى عقود فقرًا مائيًا شديدًا؛ نتيجة للممارسات النظام الإيراني التي تعتمد على مشاريع نقل المياه من المنطقة التي تقطنها الأغلبية العربية السنية إلى باقي المدن الإيرانية بهدف نهائي يتمثل في تهجير السكان العرب وتفريغ الإقليم من هويته. ليس ذلك فحسب بل يقع على الحكومة في إيران -حسب طالبان- جزء آخر من المسؤولية بسبب إصرارها على تحويل مجاري الأنهار إلى العاصمة طهران ليس من مناطق يقطنها العرب فقط وإنما من عموم القطر.
العلاقات السياسية بين الطرفين
تمتلك إيران تاريخًا طويلًا من التفاوت في العلاقات مع أفغانستان التي تربطها معها حدود برية تناهز الألف كيلومتر، ولكن ليس لأنها تهتم طويلًا لمن يمسك بزمام السلطة في أفغانستان بقدر تركيزها على الحفاظ على مصالحها التي تتغير بدورها هي الأخرى، خصوصًا أن ما يربط البلدين أعقد من ذلك بكثير ويتضمن مشتركات ثقافية ولغوية ودينية وقومية.
ومن جانب آخر، تستضيف إيران أعدادًا ضخمة من اللاجئين الأفغان الذين فروا من سنوات حرب طويلة يتراوح عددهم بين مليون ونصف إلى مليونين حسب تقديرات رسمية، ونصفهم تقريبًا من طائفة الشيعة الهزارة الذين جندت إيران منهم أعدادًا كبيرة في لواء “فاطميون” الذي يقاتل في سوريا منذ 2013. حيث يعتبر المنطلق المذهبي نقطة أساس تستند إليها إيران في علاقاتها مع أفغانستان، بجانب أن اللغة الفارسية المستخدمة في أفغانستان على نطاق واسع نقطة أساس أخرى تحكم العلاقات.
وتمثل أفغانستان أهمية خاصة لإيران التي تقيم فيها خمس نقاط دبلوماسية؛ فإلى جانب السفارة في كابل، هناك أربع بعثات دبلوماسية في: مزار شريف، وجلال آباد، وهرات، وقندهار. وذلك حرصًا من طهران على عدد من القضايا الإنسانية والأمنية، ومنها: وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين، وطالبي اللجوء، وتهريب المخدرات، وضمان انسيابية التجارة البينية عبر الحدود بين البلدين، وما يتعلق بالسدود، والموارد المائية المشتركة، والأهم من كل ذلك ضمان سلامة أقلية الهزارة الشيعية ومشاركتهم السياسية، بالإضافة إلى تهديدات داعش في ولاية خراسان والتي تحرص طالبان على مجابهتها أيضًا.
وحسب تقارير، فإن العلاقات بين طهران وطالبان عميقة ومتجذرة ووصلت إلى حد تجاوز الخلافات المذهبية بين الجانبين؛ إذ قامت إيران بتدريب طالبان وإمدادها بالأسلحة الخفيفة والمتفجرات وقذائف الهاون والمدافع الرشاشة الثقيلة وصواريخ كاتيوشا، ولهذا أدرجت الولايات المتحدة كلًا من الجنرال “حسين موسوي” قائد “فيلق الأنصار”، والعقيد “حسن مرتضوي” في أغسطس 2010 على لائحة الإرهاب لدورهما في توجيه الحرس الثوري الإيراني لدعم منظمات الإرهابية ومنها طالبان. حيث اندرج ولا يزال يندرج الدعم الإيراني لحركات توصف بالتطرف في سياق استراتيجية إيرانية أوسع لإخراج القوات الأمريكية من الشرق الأوسط لما يمثله ذلك من خطر وجودي عليها.
وفي أعقاب سقوط كابول، كانت هناك تخوفات لدى طهران من استهداف طالبان للشيعة الهزارة لكن المخاوف تبدد بعضها بعد فتح قنوات اتصال بين قيادات الحركة والحكومة الإيرانية والحرس الثوري الإيراني حيث أبدت طالبان قدرًا من المرونة والانفتاح ربما تجنبًا لإثارة التوتر مع إيران. ومنذ الأيام الأولى لسيطرة حركة طالبان على كابول في 15 أغسطس 2021، أرسلت الحركة رسائل عدة منها، السماح بإقامة مراسم ذكرى عاشوراء وزيارة المساجد الشيعية من كبار قادة الحركة وغيرها من الخطوات والتصريحات الهادفة لإزالة بواعث القلق الإيراني على الأقلية الشيعية في أفغانستان.
استخلاصًا يمكن القول إن طهران حققت هدفًا استراتيجيا في أفغانستان بعد خروج القوات الأمريكية، ولكن تبقى هناك الكثير من الأمور العالقة من أهمها حماية أقلية الشيعة الهزارة وضمان مشاركتهم في إدارة البلاد وهي إحدى القضايا التي تهتم بها طهران إلى جانب تعزيز العلاقات بين البلدين في مجالات اقتصادية وأمنية تتعلق بمواجهة عدوهما المشترك “الولايات المتحدة “، وتنظيم داعش فرع ولاية خراسان. ذلك إضافة لملف المياه بالغ الحساسية والتعقيد والذي يمكن أن تلوح إيران ببعض الأوراق الضاغطة فيه لتجنب المسار العسكري؛ وذلك عن طريق سحب مقاتلي لواء ”فاطميون” من سوريا إلى أفغانستان وإطلاق يدهم في مواجهة حكومة الحركة دفاعا عن الشيعة الهزارة، ودعم قوى معارضة أخرى من مختلف القوميات الأفغانية. مع الحسبان هنا أن أي مواجهة عسكرية بين أفغانستان وإيران سوف تكون محسومة على الأقل بمقياس العتاد العسكري وربما يكون العائق الوحيد أمام إيران هو الطبيعة الجبلية لأفغانستان.