
تجدد الصراع.. دوافع وتداعيات إلغاء وقف إطلاق النار بين طالبان باكستان والحكومة
أعلنت حركة طالبان باكستان في 28 نوفمبر المنصرم، إلغاء العمل باتفاق وقف إطلاق النار الذي توصلت إليه مع حكومة إسلام آباد في يونيو الماضي، وأمرت مقاتليها بشن هجمات في شتى أنحاء البلاد. وفي ترجمة عملية لهذه الدعوة، نفذ عناصر الحركة في 30 نوفمبر تفجيرًا انتحاريًا استهدف دورية للشرطة في مدينة كويتا عاصمة إقليم بلوشستان جنوب غرب البلاد، مما أسفر عن مقتل نحو 3 أشخاص وإصابة 30 آخرين. وكانت الدورية المستهدفة تُرافق حملة طبية لمكافحة مرض شلل الأطفال في إطار حملة تطعيم على مستوى البلاد، ولطالما تعمدت طالبان باكستان التركيز على هذا النوع من طبيعة المُستهدف اعتقادًا منها أن حملات التطعيم هي أداة غربية يتم استخدامها للتجسس عليهم.
وفي ضوء تلك التطورات أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية في الأول من ديسمبر الجاري، أنها ستدرج أربعة من قادة تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية وحركة طالبان باكستان على لائحتها للإرهابيين، ومنهم قاري أمجد القيادي البارز بالحركة والمسؤول عن هجماتها في إقليم خيبر بختونخوا شمال غرب باكستان.
ويناقش هذا الموضوع دوافع قيام حركة طالبان باكستان بإلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع حكومة باكستان، والسياقات التي جاء فيها هذا الإعلان، وما يحمله من تداعيات قد تضفي المزيد من الأعباء على التحديات التي تواجه حكومة إسلام آباد، خصوصًا أن إعلان الحركة الأخير يُمكن اعتباره مرحلة جديدة من النشاط الميداني لنشاطها في باكستان. فرغم أن هذا النشاط لم ينقطع قبل إعلان إلغاء العمل بوقف إطلاق النار، وكان مستمرًا بدافع الثأر والرد على ضربات الجيش الباكستاني ضد الحركة، إلا أن الإعلان الأخير تضمن إشارات تشي بتوجه الحركة نحو توسيع النطاق الجغرافي لنشاطها، وتحولها من الاستراتيجية الدفاعية إلى الهجومية في المرحلة المقبلة.
هشاشة اتفاقيات وقف إطلاق النار
أثبتت الخبرات التاريخية السابقة، أن اتفاقيات وقف إطلاق النار بين حركة طالبان باكستان وحكومة إسلام آباد لطالما وصفت بالهشاشة، ومحاولات الاختراق المستمرة من الطرفين، التي تؤدي في نهاية الأمر إلى انتهاء العمل بها، فعلى سبيل المثال، دخلت الحكومة الباكستانية في نوفمبر عام 2021، بوساطة من حركة طالبان الأفغانية – لمدة شهر- في مفاوضات مع طالبان باكستان لوقف إطلاق النار، ردًا على تصاعد هجماتها المميتة وتوسيع نشاطها وضمها فصائل جديدة، لكن ما لبث أن انتهى الاتفاق عندما اتهمت الحركة الحكومة بخرق اتفاقها بالإفراج عن سجنائها، وهو ما دفعها إلى تنفيذ عدة هجمات في شمال غرب باكستان. وفي يوليو 2022، أعلنت الحكومة الباكستانية مجددًا أنها تتفاوض مع طالبان باكستان، بوساطة أفغانية، في ثلاث جولات من التفاوض أسفرت عن إعلان الحركة عن وقف دائم لإطلاق النار في 3 يونيو 2022، وفي المقابل أفرجت الحكومة الباكستانية عن اثنين من أعضاء الحركة كانا يواجهان عقوبة الإعدام.
ورغم توافق الطرفان على استمرار التفاوض، لكنهما استمرا بالمقابل في ممارسة بعض الأنشطة التي عدّها كل طرف انتهاك لاتفاق وقف إطلاق النار، حيث قامت الحركة خلال الأشهر الماضية بشن هجمات دامية ضد قوات الأمن الباكستانية والمدنيين، ومن ذلك قيامها في 16 نوفمبر الماضي بمهاجمة دورية شرطة في قرية شهاب خيل شمال غرب البلاد، على مسافة 100 كم من الحدود مع أفغانستان، مما أسفر عن مقتل 6 شرطيين. في حين شن الجيش الباكستاني حملة أمنية مكبرة لتوجيه ضربات وملاحقة عناصر الحركة في المناطق الحدودية بين باكستان وأفغانستان، فضلًا عن استهداف عدد من قادة طالبان باكستان خلال الأشهر الماضية في مقاطعات ننجهار وكونار وباكتيكا وقندهار بأفغانستان، ولعل أبرزهم أحد أكبر قادة الحركة “عمر خالد خراساني” الذي قُتل في 8 أغسطس الماضي إلى جانب 3 مسلحين تحت إمرته في انفجار قنبلة زرعت على جانب طريق في إقليم باكتيكا شرق أفغانستان، ورغم عدم تبني جهة معينة مسؤوليتها عن مقتله، لكن حركة طالبان باكستان ألقت باللوم على المخابرات الباكستانية، وكانت عملية مقتله أحد العوامل التي اتخذتها الحركة ذريعة لإلغاء اتفاق وقف إطلاق النار مع الحكومة.
ومن المهم الإشارة إلى أن معدلات العنف التي شهدتها باكستان ارتفعت منذ مطلع العام الجاري، ارتباطًا بتنامي الجماعات المسلحة في البلاد، وفي مقدمتها حركة طالبان باكستان التي كثفت من هجماتها في المناطق القبلية بولاية خيبر بختونخوا وتنظيم داعش وجيش تحرير بلوشستان، فوفقًا للمعهد الباكستاني لدراسات الصراع والأمن ومقره إسلام آباد، ارتفع عنف المسلحين بنسبة 22% حتى أكتوبر الماضي، مقارنة بالفترة نفسها من عام 2021. وفي السياق ذاته، أفاد المعهد الباكستاني لدراسات السلام بأنه في غضون عام بالضبط منذ استيلاء طالبان على كابول (15 أغسطس 2021)، شهدت باكستان ارتفاعًا بنسبة 51% في عدد الهجمات الإرهابية.
وقد احتلت باكستان المرتبة العاشرة في قائمة الدول العشر الأكثر تأثرًا بالإرهاب عالميًا خلال عام 2021، بحسب النسخة التاسعة من مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عن معهد الاقتصاد والسلام الدولي مطلع العام الجاري. حيث سجلت البلاد زيادة بنسبة 5% في عدد الوفيات عام 2021 مقارنة بعام 2020. وهذه هي السنة الثانية على التوالي التي سُجلت فيها زيادة في وفيات الإرهاب، في حين بلغ عدد الهجمات الإرهابية نحو 186 هجمة. وقد واصل الجيش الباكستاني جهوده لنزع سلاح الخلايا الإرهابية النائمة والقضاء عليها، وهو ما جعل قوات الجيش الهدف الأكثر شيوعًا للهجمات في عام 2021، حيث كان 44 % من إجمالي الوفيات المرتبطة بالإرهاب من العسكريين.
ووفقًا للمؤشر، تفوقت حركة طالبان باكستان على جيش تحرير بلوشستان، لتصبح الجماعة الإرهابية الأكثر دموية، بواقع 19% من الوفيات المرتبطة بالإرهاب في باكستان في عام 2021. وخلال العامين الماضيين حدثت 62%من الوفيات في الولايات الواقعة على طول الحدود مع أفغانستان. واعتبر المؤشر أن انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان يتسبب في زيادة عدم الاستقرار الإقليمي، مما يوفر للجماعات الإرهابية فرصة لإحداث المزيد من الضرر.
دوافع قرار الحركة
يكمن وراء إعلان حركة طالبان باكستان إلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع حكومة الحكومة الباكستانية مجموعة من الدوافع، يمكن تسليط الضوء على أبرزها فيما يلي:
• فشل المحادثات مع الحكومة: يأتي الإعلان عن إلغاء العمل بوقف إطلاق النار بعد إعلان تعثر المحادثات بين حركة طالبان باكستان والحكومة الباكستانية بوساطة أفغانية في أغسطس الماضي، على خلفية الجمود الذي شاب هذه المفاوضات بشأن رفض الحكومة الباكستانية لمطالب الحركة بفك دمج المناطق القبلية الخاضعة للإدارة الفيدرالية (مسقط رأس الحركة، ومعقلها الرئيس قديمًا) من مقاطعة خيبر بختونخوا وفرض سيطرتها على المنطقة القبلية، وكان البرلمان الباكستاني قد قام في عام 2018 بتمرير مشروع قانون دستوري من شأنه توفير آلية لدمج المناطق القبلية المسماة تاريخيًا (منطقة القبائل المدارة فيدراليًا FATA) في الأراضي الباكستانية المستقرة، وعلى إثر ذلك أضحت تلك المناطق جزءًا من إقليم خيبر بختونخوا. وفي الجهة المقابلة رفضت حركة طالبان باكستان مطالب الحكومة بوقف العنف ونزع سلاح الحركة وحلّها تنظيميًا.
• الرد على استهداف قادتها: ربما يرتبط إعلان الحركة بإلغاء العمل باتفاق وقف إطلاق النار، برغبتها في الثأر لمقتل العديد من قادتها البارزين خلال الأشهر القليلة الماضية على يد المخابرات الباكستانية- بحسب زعمها- حيثُ أفادت بعض المصادر بأن أحد التكتيكات التي انتهجها الجانب الباكستاني لتوجيه الضربات لطالبان باكستان هي محاولة خلخلة جسور الثقة والتعاون التي تربطها بنظيرتها الأيدولوجية الأفغانية، عبر استهداف عدد من قادتها داخل أفغانستان، بما يفتح بابًا للشك قد يفضي إلى توتر في العلاقات بين الحركتين. ومن أمثلة هؤلاء ياسر بركي، والملا عبد الله، وحافظ جول بهادر، وعادل علي سيف الله، وجميعهم من أبرز القادة داخل حركة طالبان الباكستانية، وتم اغتيالهم في ظروف غامضة على الأراضي الأفغانية، في حين لم يُعلق مسؤولو طالبان الأفغانية على هذا الأمر، وهو ما اعتبرته بعض عناصر الحركة “خيانة للمجاهدين”.
• الحاجة إلى تعزيز مواردها المالية: تعد العمليات التي تشنها طالبان باكستان على الجغرافيا الباكستانية بطاقة مُربحة للحركة، تستطيع من خلالها توظيف أجواء الخوف والهلع الناجمة عنها في ممارسة عمليات الابتزاز بكافة أشكالها والاختطاف من أجل الحصول على الفدية، والتي تُعد أحد أهم التكتيكات التي تنتهجها الحركة لتعزيز مواردها المالية التي يبدو أنها في حاجة ماسة إليها، خصوصًا مع وجود بعض التكهنات حول نقص مصادر تمويلها داخل أفغانستان. حيث تقوم الحركة بعد تنفيذ هجماتها الدامية باستغلال مشاعر الخوف لدي السكان المحليين في ابتزازهم للحصول على الأموال؛ إذ يتعرض الأثرياء والمشرعون المحليون في العديد من المناطق الباكستانية للضغط للتبرع ودفع أموال للحركة، ومن يمتنع عن الدفع يتعرض للعقاب سواء من خلال إلقاء قنابل يدوية على أبوابهم أو إطلاق النار عليهم. وإلى جانب استفادتها من هذا النهج في كسب الأموال، يتيح لها أيضًا تقويض ثقة السكان في المؤسسات المحلية.
• تنامي عناصر قوة الحركة: يشير إلغاء العمل بوقف إطلاق النار- الأحادي الجانب- من قبل حركة طالبان باكستان، وإصرارها على مطالبها في المفاوضات مع الحكومة التي باءت بالفشل، إلى أن الحركة تتفاوض من منطلق قوة كبير، فبعد أن تراجع نشاطها في الفترة من 2014 حتى 2018 إثر العمليات الباكستانية ضدها وحرب الطائرات دون طيار، نجحت الحركة منذ عام 2020 وبالتزامن مع توقع اتفاق الدوحة بين حركة طالبان الأفغانية والولايات المتحدة، في استعادة عناصر قوتها وبات نشاطها يأخذ منحىً تصاعديًا مره أخرى، وهو ما يمكن إيعازه إلى جملة من العوامل: أولها، قيام الحركة بتعزيز مكونها البشري عبر ضم عدد من المجموعات المتشددة المعارضة للحكومة الباكستانية، بينها ثلاث مجموعات باكستانية تابعة لتنظيم القاعدة، وأربعة فصائل رئيسة كانت قد انفصلت عن طالبان باكستان في عام 2014. وثانيها، انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان أواخر عام 2021، وهو ما مكن الحركة من الإفلات من وطأة الضربات الجوية الأمريكية التي كانت تستهدفها.
وثالثها، دخول حكومة إسلام آباد في مفاوضات مع الحركة؛ إذ يرى البعض أنها بمثابة “هدنة تكتيكية” مثلت فرصه سانحة لها للملمة قواتها والتقاط أنفاسها للعودة لشن هجماتها بقوة في الداخل الباكستاني. فوفقًا لبعض التقارير أرسلت الحركة خلال وقف إطلاق النار حوالي 1000 مسلح إلى مناطقهم الأصلية، ولكن بدلًا من الانضمام إلى قبائلهم واستقرارهم كما كان يأمل المفاوضون الباكستانيون، سعى هؤلاء إلى إعادة تأكيد سلطتهم في معاقلهم السابقة في خيبر باختونخوا وإعادة تنشيط الخلايا النائمة في أجزاء أخرى من البلاد. ورابعها، عودة حركة طالبان الأفغانية للحكم، وسماحها بتمركز العديد من التنظيمات الإرهابية على الجغرافيا الأفغانية، وانتقال تهديدها عبر الحدود إلى جارتها الباكستانية؛ ففي أعقاب السيطرة على كابول قامت طالبان الأفغانية بإطلاق سراح المئات من سجناء طالبان باكستان المحتجزين في سجون كابول من قبل الرئيسين الأفغانيين السابقين أشرف غني وحميد كرزاي، وتظهر مقاطع الفيديو التي تصدرها الحركة الباكستانية – منذ استيلاء طالبان الأفغانية علي السلطة- أن عناصرها وقادتها يتمتعون بحرية حركة في الميدان الأفغاني لا سيما في المناطق الشرقية المتاخمة للحدود الباكستانية، وكذا حصلت الحركة الباكستانية على معدات عسكرية متطورة بعد انهيار الحكومة الأفغانية السابقة بقيادة أشرف غني وذهب جزء من قواتها إلى أفغانستان، التي تستخدمها كمنصة تنطلق منها هجماتها ومقاتليها إلى باكستان.
وقد وفرت العوامل- آنفة الذكر- مُجتمعة فرصة لطالبان باكستان للضغط على الحكومة الباكستانية، وترميم بنيتها التنظيمية، وإعادة توحيد فصائلها، وإيجاد ساحة لإيواء عناصرها وقادتها على الأراضي الأفغانية بعد فرارهم عبر الحدود هربًا من عملية (زرب العرب) التي نفذها الجيش الباكستاني ضد معاقل الحركة في عام 2014. وفي هذا السياق، ذكر التقرير الثلاثون للجنة مراقبة العقوبات التابعة لمجلس الأمن المفروضة على تنظيمي داعش والقاعدة المعني برصد قدرات مختلف الجماعات الإرهابية المتمركزة في أفغانستان، أن “طالبان باكستان لديها حاليا أكبر مكون يضم 3000 إلى 4000 مقاتل أجنبي في أفغانستان”. وأشار التقرير ذاته، إلى “نجاح قائد الحركة نور والي محسود في إعادة توحيد فصائل حركة طالبان باكستان المختلفة وهو ما جعلها أكثر تماسكًا، وتشكل تهديدًا أكبر في المنطقة، وتعمل مع شبكات جهادية أخرى عابرة للحدود الوطنية، مثل حركة تركستان الشرقية، ومقرها أفغانستان”. وسيرًا على نهج نظيرتها الأفغانية، تتمتع طالبان باكستان كذلك بعلاقات وثيقة مع تنظيم القاعدة؛ إذ أظهر تقرير صدر في فبراير 2021 عن مجلس الأمن الدولي أن “اندماج عناصر الحركة قد سهله قيادة تنظيم القاعدة المتمركزة في أفغانستان”.
• تصاعد تهديد تنظيم داعش: تخشى حركة طالبان باكستان من محاولات سحب عناصرها لتجنيدهم لصالح تنظيم داعش الذي تصاعدت هجماته في باكستان- مع التركيز على إقليم بلوشستان جنوب غرب باكستان، وإقليم البنجاب شرق البلاد- منذ بدء الحركة مفاوضاتها مع حكومة إسلام آباد في عام 2021. وكان من أبرزها هجوم مسجد بيشاور في مارس الماضي، والهجوم على مقر السفارة الباكستانية في كابول مطلع ديسمبر الجاري.
وقد يستطيع تنظيم داعش توظيف تفاوض حركة طالبان باكستان مع الحكومة لخدمة أجندته الجهادية على مستويات عديدة، ومنها محاولة جذب أعضاء الحركة الذين يشعرون بخيبة أمل من تفاوضها مع الحكومة، من خلال طرح نفسه كبديل جهادي لها، على غرار ما فعل التنظيم في السابق مع طالبان الأفغانية التي استغل سخط بعض مقاتليها من تفاوضها مع الولايات المتحدة في تكثيف جهوده الدعائية لجذبهم لصفوفه. وعلى مستوى آخر قد يسعى التنظيم إلى الاستفادة من بعض الامتيازات التي قد تحصل عليها طالبان باكستان على المدى الطويل في مفاوضاتها مع الحكومة – كخفض عدد القوات الحكومية- في تعزيز صفوفه في شمال غرب باكستان واتخاذها كمنصة لبقية مناطق البلاد، لا سيما أن الخبرات التاريخية المختلفة أثبتت أن التنظيمات الإرهابية بشكل عام وداعش على وجه الخصوص استغلت انخفاض أعداد القوات الأمنية وتراجع جهود مكافحة الإرهاب في العديد من المسارح لشن المزيد من الهجمات، وهو ما يمكن تكراره في باكستان.
• الاستثمار في أزمات باكستان: يشي توقيت اختيار حركة طالبان باكستان لإلغاء العمل بوقف إطلاق النار مع الحكومة، إلى رغبة الحركة في استغلال الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والمناخية المضطربة التي تعيشها باكستان مؤخرًا. فسياسيًا، تعيش البلاد حالة من عدم الاستقرار السياسي منذ إقالة حكومة رئيس الوزراء السابق عمران خان في تصويت برلماني لسحب الثقة في إبريل الماضي، وما تلاه من احتجاجات ومشاهد فوضوية شهدتها البلاد على مدار الأشهر القليلة الماضية، وتخللها العديد من أعمال العنف. وعلى الصعيد الاقتصادي، تواجه باكستان أوضاعًا اقتصادية متردية، تفاقمت حدتها جراء تداعيات فيروس كورونا، والفيضانات المدمرة الناجمة عن التغيرات المناخية والتي أسفرت عن غرق ثلث مساحة البلاد هذا العام، وأعطبت الكثير من البنية التحتية، وأزهقت أرواح المئات، وكبدت البلاد خسائر تجاوزت الـ 10 مليارات دولار. وعلى خلفية الوضع السياسي والاقتصادي المضطرب، تواجه باكستان كذلك تحديات أمنية كبيرة تتعلق بزيادة معدلات العنف- كما أشرنا سابقًا- والتي اندلع على إثرها احتجاجات في المناطق الشمالية الغربية لمطالبة السلطات بحسم الوضع الأمني، بعد تعرض هذه المناطق لأعمال عنف نفذها مسلحون في الشوارع الرئيسة. وفي ضوء هذه الأوضاع قد تتأثر قدرة حكومة إسلام آباد سلبًا على التعاطي مع عودة شبح تهديد طالبان باكستان.
• ورقة ضغط من حركة طالبان الأفغانية: بعد يوم من التفجير الذي نفذته حركة طالبان الباكستانية في جنوب غرب باكستان، طالبت حكومة إسلام آباد حركة طالبان الأفغانية بمنع الهجمات الإرهابية القادمة من أراضيها. وفي هذا الصدد، قال وزير الداخلية رانا ثناء الله خان، إن “المزاعم الأخيرة لطالبان الباكستانية أكدت التهديد المتمثل في تحول أفغانستان إلى ملاذ للمسلحين، على الرغم من إعلان حكام طالبان أنهم سيمنعون انطلاق مثل هذه الهجمات من أراضيهم، بعد أن سيطروا على أفغانستان العام الماضي”. وتدفعنا هذه التصريحات إلى محاولة تفكيك العلاقة بين طالبان الأفغانية ونظيرتها الباكستانية، لفهم كيف يمكن للأولى توظيف علاقتها بالثانية كورقة ضاغطة في سياستها الخارجية تجاه إسلام آباد، وذلك على التفصيل التالي:
• رغم أن الحركتين منفصلتان تنظيميًا لكن توجد حالة من التماهي الفكري والأيديولوجي بينهما، ناهيك عن القاسم العرقي المشترك والمتمثل في انتمائهما للعرقية البشتونية، وهو ما يفسر الروابط التاريخية العميقة التي تربط بين الحركتين. ومنذ سيطرتها على الحكم في أفغانستان في أغسطس عام 2021، حرصت حركة طالبان الأفغانية على تقديم الدعم العلني لنظيرتها الباكستانية، وهو ما يفسر وساطتها الرئيسة في المفاوضات بين طالبان باكستان وحكومة إسلام آباد، ورفضها اتخاذ إجراءات حاسمة ضد الحركة، رغم الضغوط الباكستانية في هذا الصدد.
• ويمكن تفسير الدعم الكبير الذي تتمتع به حركة طالبان باكستان في صفوف نظيرتها الأفغانية في ضوء عدد من العوامل: أولها، وجود علاقات تاريخية ممتدة بين الحركتين، ودعم طالبان باكستان لطالبان الأفغانية في حربها خلال الـ 20 عامًا الماضية ضد القوات الحكومية والأجنبية، وهو ما يدفع الحركة الأفغانية إلى الإحجام عن اتخاذ آية إجراءات عدوانية تجاه طالبان الباكستانية، لا سيما أن اتخاذ مثل هذه الإجراءات قد يدفع الأخيرة إلى الانضمام لتنظيم داعش- خراسان، بالنظر إلى أن الصفوف الأولى للتنظيم مأهولة بـأعضاء مُنشقين سابقًا عن حركة طالبان باكستان، وبالمثل نجح التنظيم مؤخرًا في ضم بعض عناصر طالبان الأفغانية أيضًا. وثانيها، رغبة حركة طالبان الأفغانية في ضم ورقة طالبان باكستان لبقية أدوات الضغط التي تمارسها في مساومتها مع حكومة إسلام آباد، خصوصًا مع محاولة طالبان إبان نسختها الثانية تغيير الصورة الذهنية التاريخية التي تجسدها كدمية في يد باكستان لتحقيق مصالحها الجيواستراتيجية في أفغانستان. فبخلاف حكمها الأول، شهد الحكم الثاني لطالبان علاقات متوترة مع إسلام آباد بسبب مصالحها المتباينة؛ إذ لم تعد طالبان في حاجة إلى ملاذ آمن بعد سيطرتها على الحكم في أفغانستان، وأبدى قادة الحركة رغبتهم في تقليل النفوذ الباكستاني لصالح تكوين علاقات جيدة مع دول الجوار الأفغاني كالهند والصين وإيران.
وثالثها، محاولة طالبان الأفغانية الاستفادة من علاقتها بطالبان باكستان في حل بعض المشكلات الداخلية المحتدمة التي تعصف بحكومتها، فعلى سبيل المثال، قدرة حركة طالبان على أن تكون وسيطًا رئيسًا ورقمًا مهمًا في آية مفاوضات تُجرى بين طالبان الباكستانية والحكومة، ترسل برسالة خارجية مفادها أن الحركة قادرة على بسط سيطرتها على المسلحين الأجانب في أفغانستان، وهو ما قد يساعدها على نيل الشرعية الدولية الغائبة عنها والمُرتهنة بقدرتها على الحيلولة دون انتقال التهديدات الإرهابية عبر أفغانستان. بالإضافة إلى ذلك، تستطيع حركة طالبان الاستفادة من عناصر طالبان الباكستانية في حربها ضد حركات المقاومة المسلحة ضدها وتنظيم داعش- خراسان.
• بعبارة أخرى، يُمكن القول إن حركة طالبان الأفغانية تتبع نهجًا يقوم على توظيف تحالفاتها الجهادية المُتعددة بما يحقق مصالحها. وهو ما يمكن ملاحظته في دعمها لحركة طالبان الباكستانية رغم تعهداتها السابقة بعد تصدير التهديدات الإرهابية إلى دول الجوار، والحال كذلك في دعم الحركة لتنظيم القاعدة، وهو الدعم الذي تصاعدت صوابية التكهنات حوله بعد أن كشفت عملية مقتل زعيم التنظيم أيمن الظواهري في غارة جوية أمريكية مطلع أغسطس الماضي في أفغانستان، عن أن الحركة لم تكتفِ فقط بإعطاء مساحة حركة أكبر لعناصر القاعدة للعمل علانيًة ولملمة شتاتها واستعادة قوتها من جديد في الأراضي الأفغانية، بل كانت حريصة على إبقاء قائدها على مقربة بنحو 200 متر من القصر الرئاسي بغرض الاستفادة من خبراته، والحصول على توجيهات استراتيجية تعزز من قدرتها في إدارة مقدرات الدولة الأفغانية، ومجابهة التحديات التي تواجهها وعلى رأسها الخطر المتنامي لتنظيم داعش-خراسان.
وفي الختام، يُمكن القول إن باكستان ستشهد خلال العام 2023 المزيد من أحداث العنف المرتبطة بتنامي نشاط حركة طالبان باكستان، وإعلانها إلغاء العمل بوقف إطلاق النار، مُستغلة انشغال حكومة إسلام آباد في مجابهة التحديات السياسية والاقتصادية والأمنية التي شهدتها البلاد خلال العام الجاري. ويرجح أن يتوقف مستقبل الصراع بين الحركة والحكومة على فعالية المقاربة التي سينتهجها القائد الجديد للجيش عاصم منير في مواجهة نشاط الحركة، لا سيما أن بعض التحليلات ترى أن هزيمة الحركة عسكريًا عبر عملية عسكرية شاملة قد لا يكون مُجديًا بدرجة كبيرة، بالنظر إلى أن عناصر الحركة في الوقت الراهن لا يتمركزون في منطقة بعينها، وينتشرون بصورة مشتتة، وهو ما يصعب من عملية استهداف عناصرها. وثمة عامل آخر سيحدد مستقبل هذا الصراع، وهو درجة التوتر في العلاقات القائمة بين حكومة إسلام آباد وحركة طالبان أفغانستان في ضوء الارتباطات الكبيرة بين الأخيرة ونظيرتها الباكستانية، وقدرتها على توجيه دفة المفاوضات بين طالبان باكستان والحكومة بما يخدم مصالحها.
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع



