
أزمات نقص الدواء بخاصة لمرضى الامراض المزمنة، وتعرض حياة المرضى على اختلاف مراحلهم العمرية وحالتهم المرضية، مشهد تم اعتياد رؤيته بشكل يكاد يكون يوميًا خلال عقود بائدة، وهدأت وتيرة هذه المشاهد لأعوام، لكن جاءت كورونا لتعصف بهدوء الملف الدوائي، وكشرت عن خطر جديد يهدد حياة العالم أجمع، وظهر تحدٍ جديد أمام حكومات العالم لتوفير الدواء لمواطنيها بالتوقيت والسعر المناسبين، وحمايتهم من جشع احتكار الدواء، ومن أنفسهم “ثقافة شراهة تناول الادوية الوقائية والمكملات الغذائية”، ومحاربة ثقافة تخزين الدواء وقت الازمات.
ليس وليد الأزمة
لكن على الرغم من التأثير السلبي لجائحة كورونا، ورؤيتنا لمشاهد نقص الدواء وأدوات الوقاية الاحترازية، والسلع الغذائية بمختلف دول العالم حتى بالدول المتقدمة منها، إلا أننا لم نستشعر هذا الأثر بالداخل المصري، وبخاصة أزمة نقص أدوية البروتوكول العلاجي لكورونا، بهذه الحدة.
فقد تداركت القيادة المصرية بحنكة ومن اللحظة الأولى لإعلان الوباء بالخارج، وتم اتخاذ استباقية في هذا الشأن. لكن هذه الأزمة أكدت على مبدأ أن امتلاك الدولة لمخزون استراتيجي من الدواء هو قضية أمن قومي.
وعلى الرغم من الأهمية القصوى لتأمين مخزون استراتيجي من الدواء والذي أكدته الجائحة إلا أن مشروع “مدينة الدواء المصرية” ليس وليد الأزمة، بل يرجع فكرة بناء المدينة إلى 8 سنوات مضت، بمقترح من اللواء طبيب الراحل صلاح الشاذلي. تم الاعتماد في دراسة المدينة على أكبر مراكز الاستشارات العالمية، ثم بدأت عملية البناء بناءً على دراسات احترافية.
مواصفات المشروع
تقع مدينة الدواء الجديدة «Gypto pharma» في مدينة الخانكة بالقليوبية، واحدة من أكبر المدن من نوعها على مستوى الشرق الأوسط، مقامة على مساحة 180 ألف متر مربع، بطاقة إنتاجية 150 مليون عبوة سنويا.
ومرت عملية البناء بعدة مراحل، فقد وصلت أعمال الحفر والردم بموقع المدينة بالمنسوب الصفري لمليون ونصف متر مكعب، بالإضافة إلى أعمال التبديش وسند الاتربة التي وصلت إلى 6500 متر مكعب.
وتم تخصيص أرض مجاورة بمساحة 10 آلاف متر مربع لإنشاء محطة كهرباء بقدرة 50 ميجا فولت أمبير للاعتماد عليها في تشغيل المشروع وأي توسعات مستقبلية محتملة، كما تم تنفيذ 10 شبكات أخرى طبقا للمواصفات المصرية والدولية.
والمشروع تم تنفيذه على مرحلتين؛ المرحلة الأولى على مساحة 120 ألف متر مربع، وتم انشاء مصانع الادوية التقليدية على مساحة 33 ألف متر مربع. وتتكون من جزءين:
- الجزء الأول هو مصنع الادوية الغير عقيمة والتي تشمل الادوية الصلبة والأودية الغير صلبة والاشربة. بإجمالي 10 خطوط انتاج. ويوفر ما تحتاجه الدولة من أدوية بكل الأشكال الصيدلية، من أقراص، وكبسولات، وفوارات، ومستحضرات دوائية للشرب، والكريمات، عبر تكنولوجيا تُصنف على اعتباراها الأعلى في العالم.
- الجزء الثاني وهو المنطقة العقيمة وهو عبارة عن خمس خطوط انتاج
وتم تجهيز جميع خطوط الإنتاج بأحدث الماكينات والتكنولوجيا الحديثة بالتعاون مع كبرى الشركات العالمية بأوروبا والولايات المتحدة وكوريا الجنوبية، بالإضافة إلى بناء مخازن على أعلى مستوى من التخزين الأمن على مساحة وصلت لـ 7000 متر مربع. وارتفاع 15 متر
ويحتوى المشروع على ١٥ منطقة إنتاج: منطقة إنتاج المحاليل الوريدية وإنتاج الفايلات وإنتاج الامبولات، وقطرات العين والأذن، ومحطة إنتاج المياه المقطرة، والمعالجة والنقية، ومنطقة تجميع وخروج مخلفات التصنيع، ومنطقة الكبسولات الرخوة، ومنطقة استلام المنتج الخام، وتجهيز مواد التعبئة والتغليف، ووزن الخامات العقيمة، ووزن المستحضرات الصلبة وشبه الصلبة والرخوة، ومصنع انتاج بنج الاسنان، ومصنع انتاج المستحضرات الصلبة وشبه الصلبة، ومصنع إنتاج الأشربة ونقاط الفم والمخازن والمغسلة.
كما تحتوي المدينة على قاعة للمؤتمرات ومطعم للعاملين ومسجد، ومنطقة خدمات، ومبنى إداري، ضمن المرحلة الأولى التي استغرقت عامين ونصف لثلاث سنوات.
فيما سيكون هناك مرحلة ثانية سيتم تنفيذها على مساحة 60 ألف متر مربع، وستكون مخصصة للدخول في مجال الأدوية المتخصصة (الأورام، الهرمونات، المضادات الحيوية) لطرحها بأسعار مناسبة للجمهور.
والمشروع مزود بأحدث التقنيات والنظم العالمية في إنتاج الدواء لتصبح بمثابة مركز إقليمي يجذب كبري الشركات العالمية في مجال الصناعات الدوائية واللقاحات. فتعمل ماكينات «مدينة الدواء» بشكل إلكتروني بالكامل، وفي حال وضع العامل ليده داخل الماكينة أو فتحها تتوقف بشكل تام عملية التصنيع، ويقتصر دور الكوادر البشرية على وضع بيانات ومعلومات التشغيل على الماكينات الحديثة فقط.
ومجهز بكاميرات للتعرف على الأدوية غير المطابقة للمواصفات من ناحية الوزن أو اللون أو أي شيء بشكل «أوتوماتيكي»، للوصول لأعلي مستويات الجودة. كما تعتمد على أعمال التنظيف الذاتي الإلكتروني ما يساعد على استمرار الانتاج في المصانع.
وتطبق مدينة الدواء ما يُعرف بـ«ممارسات التصنيع الجيد للدواء»، حيث تطبق أعلى معايير الجودة، مع توفير نظام حوكمة إلكتروني، مع الاهتمام بالموارد البشرية لتوفير عامل مُدرب مُحترف، ويعمل بها قرابة 200 عامل في المدينة بالكامل، حيث أنها تعمل بشكل مميكن بالكامل.
معامل بحث
ويتواجد في المدينة، معامل بحث وتطوير وتوكيد جودة، فالمدينة بمثابة ركيزة أساسية تربط بين إنجازات الماضي والامل في اكتشافات جديدة للمستقبل، من خلال معامل مجهزة لاجراء اختبارات الدواء قبل وبعد التصنيع والتأكد من جودتها، وهو ما يسهم بشكل مباشر في تطوير صناعة الدواء بمصر.
كما أنه من المخطط إقامة مركز بحثي وإقامة المؤتمرات العلمية في هذا الصرح لتطوير الصناعة وتقديم أفضل خدمة سواء في مصر أو لشركائنا في الدول العربية والافريقية.
مع وجود خطط تسويقية عبر دعوة الأطباء لزيارتها للتعريف بأدويتها، والتعاون سوياً في نشر ثقافة «التحكم في الأمراض»، حيث أن دور الهيئة لن يكون تصنيعي فقط، ولكن تثقيفي أيضاً.
فستعمل مدينة الدواء على نشر الثقافة الدوائية السليمة، بما يعمل على ترشيد الاستخدام الخاطئ للدواء، ليكون استخداماته هي «الاستخدام ذو الحاجة» فقط، دون إسراف في استخدام الأدوية نظراً لأخطارها على الجسم.
تأمين الأدوية الحيوية للدولة
تقوم المدينة بتصنيع أدوية الأمراض المزمنة والضغط والقلب والكلى والمخ والأعصاب، والمضادات الحيوية؛ حيث أنها مستحضرات أساسية تمس حياة المواطنين. بالإضافة إلى أدوية تُستخدم في بروتوكولات علاج فيروس كورونا المستجد «كوفيد -19»، حيث أن هدف المدينة الأساسي هو تأمين الأدوية الحيوية للدولة. ومن المقترح أن تهتم المرحلة الثانية من المدينة بتصنيع أدوية السرطان لطرحها بأسعار مناسبة للمواطن المصرى.
كذلك من المُقرر أن تشتمل مدينة الدواء على توسعات مستقبلية، تشمل الدخول في عالم إنتاج الأمصال واللقاحات في وقت لاحق.
وستعمل المدينة أيضاً على الاهتمام بكل شيء بداية من نوعية الدواء وفعاليته، وشكل العبوة الدوائية نظراً لأثرها من الناحية النفسية، وصولاً إلى جودة المستحضرات والمنتجات التي يتم تصنيعها منها، حتى تخرج منتج يُضاهي ما يتم تصنيعه في المنشآت العالمية.
وستُطرح منتجات مدينة الدواء في الأسواق عقب انتهاء اختبارات الثبات عليها، على أن يُطرح تباعاً كل منتج يتم الموافقة على طرحه من الجهات المسئولة.
تصدير ربع الانتاجية
وتستهدف المدينة التكامل مع شركات القطاع الخاص عبر تعاون كبير معها، مع العمل على تلبية احتياجات السوق المحلية في مراحل المشروع الأولى، ثم التصدير بنسب تتراوح بين 25 إلى 30% من إنتاج «المدينة» على مراحل.
حيث تتعاون مدينة الدواء أيضاً مع هيئة الدواء المصرية في توفير الأدوية الاستراتيجية التي يوجد لها «فاتورة استيرادية عالية»، حتى تكون مُتاحة للمواطن المصري بـ«أسعار مقبولة»، بالإضافة لتصنيع أي أدوية بها نواقص بالسوق المحلية.
وتسعى المدينة إلى الحصول على شهادات الاعتماد الأوربية حتى يتم فتح أسواق لأوروبا لتصدير الأدوية المنتجة على أرض مصر.
مركزا إقليميا لصناعة الدواء
“مدينة الدواء بالخانكة” واحدة من أهم المشروعات القومية، وتم إنشائه بالأساس لتصبح مصر مركزا إقليميا لصناعة الدواء في الشرق الأوسط بالاعتماد على زيادة التعاون بين الدولة والقطاع الخاص. ومن ثم السعي للتصدير إلى الدول الأفريقية، كما كان لإنشاء المدينة أهداف أخرى، كضبط سوق الدواء والعمل على مواجهة نقص الأدوية، ومنع أي ممارسات احتكارية، وقبل ذلك كله تقديم علاج دوائي عالي الجودة وآمن ويضاهي الجودة العالمية وبسعر مناسب.
ويأتي هذا المشروع الواعد في إطار تحقيق رؤية مصر 2030 التي تهدف إلى خلق اقتصاد متنوع قائم على الابتكار والمعرفة. وتتبنى الحكومة المصرية هذه الاستراتيجية منذ عام 2014 بهدف تحقيق التنمية الشاملة وتعزيز جودة الحياة في مصر.
فتتمتع صناعة المستحضرات الطبية في مصر بفترة تطور كبير في السنوات الأخيرة، كما انها تعد فرص رائدة في سوق حيوية، فهناك تطوراً كبيراً حدث خلال السنوات الثلاث الماضية، فوصل حجم مبيعات سوق الدواء المصري خلال عام 2018 إلى 96.1 مليار جنيه، فيما وصل حجم المبيعات عام 2020 إلي 125 مليار جنيه، منها 90 مليار جنيه حققها القطاع الخاص و35 ملياراً حققتها المؤسسات والشركات التابعة للدولة، مما يشير إلى الدور القوي الذى يقوم به القطاع الخاص المصري، وكذا تشجيع الدولة له.
وتصل نسبة التصنيع المحلى لاحتياجات الدولة من الدواء إلي نسبة 88%، و12% فقط يتم استيرادها، لذا اتجهت الدولة إلي التركيز علي البعد الاستراتيجي لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الاحتياجات الدوائية من خلال المشروع العملاق لمدينة الدواء التي تم افتتاحها اليوم، بالإضافة إلي مشروع “تجميع وتصنيع مشتقات البلازما”، فنسبة الـ 12% من الادوية التي تقوم مصر باستيرادها تتضمن أدوية علاج السرطان، وهي أدوية شديدة التعقيد وشديدة التقدم، وتهدف الدولة إلي تحقيق الاكتفاء الذاتي منها.
ويتفق الخبراء على أن صناعة المستحضرات الطبية في مصر إيجابية للغاية، كما أن النمو السكاني السريع والتوسع في تغطية الرعاية الصحية والنفقات هي عوامل رئيسية للنمو، وكذلك زيادة الوعي بالقضايا الصحية وتحديث صناعة الرعاية الصحية.
كما أن مصر تمتلك أكبر قاعدة لتصنيع الأدوية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فيوجد حالياً 152 مصنع أدوية علي مستوي الجمهورية و40 مصنعاً آخر تحت الإنشاء، وأكثر من 700 خط إنتاج.
ومشروع “مدينة الدواء” الذي تم افتتاحه اليوم، سيكون مركزاً عالمياً بكل المقاييس، ليس فقط من شأنه تحقيق الاكتفاء الذاتي من الدواء بل وتصديره خلال المرحلة المقبلة.
باحث أول بالمرصد المصري



