دول المغرب العربي

زيارة الرئيس التونسي إلى ليبيا.. الرسائل والأهداف

أجرى الرئيس التونسي قيس سعيّد زيارة إلى ليبيا (17 مارس) تعد هي الزيارة الأولى لرئيس تونسي إلى ليبيا منذ زيارة الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي عام 2012، فضلًا عن أنها أول زيارة لرئيس إلى ليبيا بعد اختيار السلطة الليبية الجديدة وأدائها اليمين الدستورية أمام مجلس النواب (15 مارس). وتأتي هذه الزيارة في ظل أزمة سياسية تعيشها تونس منذ نحو شهرين، وخلاف سياسي أعمق بين رأسي السلطتين التنفيذية والتشريعية، مما حمّل هذه الزيارة أبعادًا أخرى أكثر من أبعاد العلاقات التونسية الليبية.

أصداء الأزمة التونسية

الزيارة التي وُصفت بالتاريخية وهدفت إلى “مساندة تونس للمسار الديمقراطي في ليبيا، وربط جسور التواصل، وترسيخ سنة التشاور والتنسيق بين قيادتي البلدين” حسب بيان الرئاسة التونسية حملت العديد من الأهداف التي أراد الرئيس التونسي تحقيقهًا على الصعيدين الخارجي والداخلي.

وكانت الأبعاد الداخلية للزيارة واضحة في كافة التفاصيل المتعلقة بها، بدءًا من تشكيل الوفد المرافق للرئيس التونسي واقتصاره على وزير الخارجية عثمان الجرندي ومسؤولين في الديوان الرئاسي والمستشار المكلف بالملفات الاقتصادية؛ وذلك في ضوء الأزمة المستمرة منذ نحو شهرين ونتجت عن إجراء رئيس الوزراء هشام المشيشي تعديلات وزارية أقصت وزراء محسوبين على الرئيس قيس سعيّد الذي رفض دعوة الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية أمامه.

الإمساك بزمام الدبلوماسية

يمثل ملف السياسة الخارجية في تونس أحد الجذور العميقة للأزمة الناشبة بين الرئيس التونسي قيس سعيّد ورئيس البرلمان وحركة النهضة راشد الغنوشي، وكذا كان أحد أول الخلافات التي ظهرت إلى العلن بينهما، وذلك إثر قيام الغنوشي بعدد من التحركات التي نازعت سعيّد في اختصاصات السياسة الخارجية، رغم أن الدستور التونسي يضع السياسة الخارجية للدولة ضمن اختصاصات رئيس الجمهورية.

أهم هذه التحركات كان الزيارات المتكررة التي أجراها الغنوشي إلى تركيا ومنها زيارته (يناير 2020) التي التقى خلالها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بعد أيام قليلة من إخفاق مرشح الحركة لرئاسة الحكومة الحبيب الجملي في نيل ثقة البرلمان. وكذلك تلقيه اتصالًا هاتفيًا من أردوغان (أبريل 2020) بحثا خلاله “سبل التعاون بين البلدين في مكافحة فيروس كورونا والعلاقات الثنائية والقضايا الإقليمية”

يُضاف إلى ذلك اتصاله (مايو 2020) برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الليبية فايز السراج لتهنئته على سيطرة الميلشيات التابعة لحكومته على قاعدة الوطية العسكرية. وهو ما فُسّر بأنه محاولة من الغنوشي لخلق اصطفاف تونسي مع المحور التركي في ليبيا.

وتمثل زيارة الرئيس التونسي إلى ليبيا محاولة لإعادة بوصلة السياسة الخارجية التونسية إلى مسارها الصحيح ولا سيّما في الملف الليبي في مواجهة اصطفافات الإسلام السياسي في كلا البلدين، وإعلانًا منه بأن الدولة كما قال من قبل “واحدة.. ولها رئيس واحد في الداخل والخارج”. وهي الرسالة التي تلقفتها أوساط حركة النهضة، وظهرت فيما قاله القيادي بالحركة وصهر الغنوشي رفيق عبد السلام تعقيبًا على الزيارة إن “قيس سعيد وضع نفسه في الموقع الخطأ في الملف الليبي واليوم يحاول القفز إلى طرابلس للحديث مع من كان يمتنع عن نصرتهم، وهم يعلمون جيدا مواقفه”.

اتحاد المغرب العربي

يُعد البعد الداخلي الآخر في زيارة الرئيس التونسي إلى ليبيا امتدادًا للبعد الأول وهو صراع الصلاحيات والمشاريع بينه ورئيس البرلمان والنهضة راشد الغنوشي؛ إذ بدت تصريحات سعيّد خلال الزيارة حول أهمية المراجعة الكاملة للوحدة المغاربية وأن يعود اتحاد المغرب العربي لأنشطته السابقة رسالة أخرى إلى الغنوشي مفادها أن كل ما يتعدى القطر التونسي هو من اختصاصه لا غيره، وأنه لن يترك له مجالًا من أجل بلورة سياسة تونس الخارجية من زاوية أحلاف الإسلام السياسي.

ويتجلى هذا البُعد بالنظر إلى التصريحات التي أطلقها الغنوشي (24 فبراير) ودعا فيها تونس والجزائر وليبيا إلى فتح الحدود وتبني عملة واحدة ومستقبل واحد لشعوب البلدان الثلاثة، قائلًا “علينا أن نحيي مشروع المغرب العربي ولو بالانطلاق من هذا المثلث، كما انطلق الاتحاد الأوروبي من العلاقة بين ألمانيا وفرنسا، وينبغي أن ننظر إلى هذا المثلث على أنه مثلث النمو والمستقبل لتونس”.

ومن ثم فإن حديث الرئيس التونسي عن عودة اتحاد المغرب العربي لأنشطته يعد ردًا غير مباشر على ما طرحه الغنوشي، لا سيّما وأنه استبعد كلًا من موريتانيا والمغرب من دعوته، وهو ما يمكن تفسيره بالنظر إلى أن كلًا من ليبيا والجزائر فقط بالإضافة إلى تونس كانت محط الاهتمام التركي الأكبر في المغرب العربي، مقارنة بموريتانيا وكذلك المغرب الذي شابت علاقاته مع تركيا مشكلات عدة، ومنها اتفاقية التبادل التجاري الحر بين البلدين، وإدخال الرباط تعديلات عليها (10 فبراير).

تعميق الحضور التونسي في ليبيا

بعيدًا عن الأزمة التونسية وظلالها التي خيّمت على جزء من الزيارة فإن عدة أهداف تخص العلاقات التونسية الليبية كانت حاضرة بقوة في زيارة الرئيس التونسي ولقاءاته مع كل من رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة.

فليبيا تمثل عمقًا استراتيجيًا مهمًا للغاية بالنسبة لتونس على كافة الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية وكذلك الاجتماعية. ولذا كان هناك حرص تونسي على الانخراط في الملف الليبي عن طريق استضافة ملتقى الحوار السياسي (نوفمبر 2020). وتأتي زيارة الرئيس التونسي إلى ليبيا لإعادة تأكيد حضور تونس -التي تتمتع بعضوية مجلس الأمن غير الدائمة- في ليبيا بعد انتخاب السلطة الجديدة.

وتعد ملفات ضبط الحدود والتعاون الاقتصادي والتجاري أحد أهم الملفات التي تنظر إليها تونس في ليبيا، لا سيّما وأن التطورات في ليبيا والسيولة الأمنية بها لها آثار كبيرة على تونس؛ فأمنيًا معظم الهجمات الإرهابية الكبيرة التي ضربت تونس في السنوات الأخيرة أُعدت في ليبيا أو أتت عبر الحدود بين البلدين الممتدة بنحو 461 كيلو مترًا. فضلًا عن تزايد وتيرة محاولات التسلل إلى التراب التونسي مع حالة الحرب التي تشهدها ليبيا وتدفق السلاح والمرتزقة، وإفادة المرصد السوري (يوليو 2020) بأن الاستخبارات التركية نقلت أكثر من 2500 من عناصر تنظيم داعش الذين يحملون الجنسية التونسية نحو ليبيا.

أما اقتصاديًا، فكشف ممثل البنك الدولي في تونس (2016) أن تونس تخسر حوالي 800 مليون دولار سنويًا كتأثير مباشر للأزمة الليبية على الطلب وآفاق الاستثمار.  وتمثل ليبيا سوقًا مهمة للغاية للمنتجات التونسية؛ إذ بلغ متوسط الصادرات التونسية إلى ليبيا نحو مليار دينار تونسي، وبلغ ذروته عام 2013 ليبلغ 1.4 مليار دينار، وانخفض بشكل قياسي إثر التطورات الأمنية في تونس إلى 950 مليون دينار عام 2016، ثم عاودت الصعود إلى 1.3 مليار دينار عام 2018 حسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء في تونس.

وكشفت دراسة للبنك الدولي (2016) تفاقم التجارة الموازية بين البلدين منذ الأزمة نظرا لعدم إحكام السيطرة على المناطق الحدودية بينهما. وتراجعت المبادلات التجارية الثنائية بين تونس وليبيا بأكثر من 75% نتيجة التوقف الكامل لأنشطة أكثر من مائة مؤسسة تونسية كانت تعمل بصفة كلية مع السوق الليبية. 

وقد أدت الاضطرابات عند المعابر الحدودية وتداعيات تفشي فيروس كورونا المستجد إلى انخفاض صادرات تونس من المنتجات الزراعية إلى ليبيا بنسبة تفوق 50% في الفترة بين يناير ونوفمبر 2020 مقارنة بنفس الفترة لعام 2019 حسب تصريحات رئيس المصلحة التجارية بالمجمع المهني المشترك للغلال بتونس. وتراجع الصادرات من المنتجات الزراعية والغذائية معًا إلى ليبيا بنسبة 17.5%. وهو انخفاض عوّضته –حسب تقارير- الصادرات التركية من المواد الغذائية بشكل بات معه نحو 80 % من المنتجات الغذائية في ليبيا منتجات تركية. فضلًا عن أن ليبيا كانت ملاذًا لمئات العاملين التونسيين الذين اضطرتهم الحرب إلى العودة إلى بلادهم.

ومن هنا تبرز أهمية هذه الزيارة بالنسبة لتونس وما نتج عنها من “الاتفاق على إعطاء دفعة جديدة للنشاط التجاري ووضع خطة عمل لتفعيل الجانب الاستثماري عبر تسهيل إجراءات العبور بين البلدين وتيسير الإجراءات المالية بين البنك المركزي التونسي ومصرف ليبيا المركزي”، والاتفاق على عقد الاجتماع التحضيري للجنة العليا المشتركة وتفعيل الاتفاقات المبرمة بين البلدين في مختلف المجالات. وإعلان وزارة النقل التونسية (19 مارس) عودة خط النقل البري بين تونس وليبيا.

+ posts

باحث أول بالمرصد المصري

محمد عبد الرازق

باحث أول بالمرصد المصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى