العراق

خطوط التماس: تصادم تركي إيراني في العراق.. ماذا يحدث؟

هدأت وتيرة حركة المحاور المتحاربة وخطوط تماسها في الميدان السوري إذ استقر الميدان المعقد هناك على ثلاث مناطق للنفوذ، الأولي تمتد عبر ثلثي مساحة البلاد وتسيطر عليها الحكومة السورية بدعم روسي وإيراني، والثانية تضم ربع مساحة البلاد وتسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية بدعم من التحالف الدولي والولايات المتحدة، فيما تقع المنطقة الثالثة في شمال وشمال غرب سوريا تحت نفوذ فصائل مسلحة تتبع الاستخبارات التركية، ولاسيما تلك الموجودة في آخر جيب عسكري في شمال غرب إدلب الذي يضم تشكيلات هجينة مرتبطة بتنظيم القاعدة. ولأول مرة منذ 2012، لم يحصل أي تغير على خطوط التماس العسكرية داخل مناطق النفوذ هذه في سوريا لمدة 6 أشهر متواصلة.

لكن ذلك الهدوء النسبي في الميدان السوري واستقرار خطوط تماس الخمسة جيوش المنخرطة عسكريًا داخله، أعقبه توترات متلاحقة في مناطق شمال العراق، إذ بدت منطقة عمليات منذ يونيو 2020، حينما أطلقت تركيا عمليتها العسكرية “المخلب النسر-1” وهي العملية الأولي التي تشارك فيها وحدات من الكوماندوز مع سلاح الجو ضمن تكتيك معركة الأسلحة المشتركة، عوضًا عن الاقتصار على ضربات سلاح الجو التركي ومسيراته بين الحين والآخر، لتناسب الطبيعة الطبوغرافية القاسية لشمال العراق ومناطق تمركز تشكيلات حزب العمال الكردستاني والتي تقف حائلًا أمام حركة وحدات المشاة الميكانيكية. ويظهر الفيديو التالي هجوم تشكيل من عناصر الحزب على نقطة عسكرية تركية من المسافة صفر.

واللافت كان التنسيق التركي الإيراني المشترك في منطقة عمليات شمال العراق وخلال عملية “المخلب النسر-1” 2020. حيث نفذت تركيا وإيران قصفًا مشتركًا داخل الأراضي العراقية في 17 يونيو من العام الماضي استهدف نقاطًا حدودية تعود لمنطقة “آلانه” المرتبطة إداريًا بقضاء حاجى عمران “التابع لمحافظة أربيل مركز إقليم كردستان العراق”، والتي تقع على الحدود العراقية-الإيرانية شرقًا، والمقابلة لمنطقة “پيران شهر” في إيران. حيث تعاون سلاح الجو التركي مع مدفعية الحرس الثوري الإيراني ضد أهداف عسكرية لحزب العمال الكردستاني والمعارضة الكردية الإيرانية التي تعمل من داخل الأراضي العراقية. في إشارة واضحة إلى مستوى التنسيق التكتيكي ضمن بنك أهداف التهديدات المشتركة بينهما.

تحولات لافتة واشتباك دبلوماسي

ومنذ ذلك الحين بدت لوهلة أن أطر التنسيق الاستراتيجي بين أنقرة وطهران أكبر من تناقضاتهما السياسية والثقافية والمذهبية، إلا أن تلك المقاربة أثبتت هشاشتها مع إطلاق تركيا لنسخة جديدة من عملياتها العسكرية في شمال العراق “المخلب النسر-2″، وذلك في 10 فبراير الماضي. حيث استمرت العملية العسكرية أربعة أيام وأسفرت حسب بيانات وزارة الدفاع التركية عن مقتل نحو 50 عنصرًا من حزب العمال الكردستاني، ومقتل 13 تركيًا أعلن وزير الدفاع التركي خلوصي أكار العثور على جثثهم في إحدى المغارات التابعة للحزب في منطقة كارا. 

بيد أن الأروقة السياسية والأمنية الإيرانية سادت فيها حالة من الامتعاض وعدم الارتياح للانخراط العسكري التركي المتنامي بالشمال العراقي، لتتجاوز إيران مرحلة القصف العسكري المشترك مع تركيا في العام الماضي، إلى مرحلة أخري يسودها التوتر والاشتباك الدبلوماسي بين الجانبين في نفس ميدان التنسيق. وعبّرت عن هذه الحالة تصريحات السفير الإيراني لدي بغداد “إيرج مسجدي”، أمس الأحد، التي أكد فيها رفض بلاده التدخل العسكري التركي في العراق، وانتهاك سيادته.

فيما استدعت الخارجية التركية على الفور السفير الإيراني لديها “محمد فرازمند”، وأبلغته احتجاجها الشديد ورفضها لتصريحات إيرج مسجدي. وما أسمته “الاتهامات الواردة في تصريح سفير إيران في بغداد”. وأكدت الخارجية التركية أن ما تنتظره أنقرة من إيران هو دعم تركيا في جهودها لمكافحة للإرهاب وليس الوقوف ضدها، لافتة إلى أن كلًا من تركيا وإيران متفقتان على أن وجود حزب العمال الكردستاني في شمال العراق يشكل تهديدًا مشتركًا. وردّ السفير التركي في العراق “فاتح يلدز” على تصريحات مسجدي قائلًا إن سفير إيران هو آخر مَن يمكنه أن يعطي تركيا درسًا حول احترام حدود العراق وسيادته.

وبدورها استدعت الخارجية الإيرانية سفير أنقرة لديها “دريا أورس”؛ احتجاجًا على تصريحات وزير الداخلية التركي “سليمان صويلو” أشار فيها إلى وجود مسلحين من حزب العمال الكردستاني داخل إيران، وحدد أعدادهم بـ 525 عنصر. 

وأكمل السفير الإيراني في بغداد نهج إيران المعارض قطعًا للانخراط العسكري التركي بالشمال العراقي، فقال في مقابلة مع موقع “رودوا” الكردي، السبت الماضي، إن إيران ترفض التدخل العسكري في العراق، ويجب ألا تكون القوات التركية بأي شكل من الأشكال مصدر تهديد للأراضي العراقية، ولا أن تقوم باحتلاله وانتهاك سيادته، ودعا مسجدي الأتراك أن ينسحبوا إلى خطوط حدودهم الدولية، وينتشروا هناك، وأن يتولى العراقيون بأنفسهم مسألة أمن العراق. 

مؤشرات التصادم

بعيدًا عن الاشتباك الدبلوماسي وحرب التصريحات المتبادلة بين مسؤولي البلدين، إلا أنها عكست تصادمًا أعمق، بل وجاءت بعد جملة من مؤشرات التصادم لم يكن العراق مسرحها الوحيد، ويمكن عدّها في نقطتين:

  • حرب المافيا والاستخبارات

فالأراضي التركية تُعدُّ ميدانًا نشطًا للاستخبارات الإيرانية وخلاياها المكلفة بتأمين تجارة المخدرات ومساراتها لأوروبا وكذلك اصطياد المعارضين الإيرانيين، ليس في تركيا فحسب، بل في أوروبا تحديدًا. حيث تصاعدت حدة الاشتباكات التركية الإيرانية في هذه الزاوية منذ أن ألقى الرئيس التركي أردوغان خطابًا في ديسمبر 2020، في العاصمة الأذرية باكو خلال الاحتفال بمناسبة الانتصار العسكري الذي حققته أذربيجان على أرمينيا. وألقي أردوغان أبيات من قصيدة لشاعر إيراني من أصل أذربيجاني، تتحدث عن تقسيم أرض أذربيجان بين روسيا وإيران في القرن التاسع عشر، وترفع من قيم القومية الأذرية.

استدعت الخارجية الإيرانية السفير التركي للاحتجاج على ما فعله الرئيس التركي. ولم تمضِ 24 ساعة على استدعاء طهران للسفير التركي، حتى بدأت الشرطة التركية في إسطنبول حملة أمنية تستهدف شبكة تابعة للمخابرات الإيرانية حسبما أفادت قناة “تي آر تي”. وقالت القناة إن السلطات التركية ألقت القبض على 13 شخصًا يعملون لصالح المخابرات الإيرانية على خلفية اختطاف المعارض الإيراني “حبيب أسيود” من إسطنبول في أكتوبر الماضي. 

كشفت قصة اختطاف “حبيب أسيود” عن تغول أجهزة الاستخبارات الإيرانية داخل تركيا، وصعود حرب باردة بين تشكيلات المافيا النشطة داخل البلدين والمرتبطة بأجهزة الأمن التركية والإيرانية. تجدر الإشارة إلى أن خطف المعارض الإيراني البارز “أسيود” هي ثالث عملية اختطاف لشخصية إيرانية معارضة بارزة في تركيا خلال سنوات. وقُتِل إعلامي إيراني في اعتداء مسلح في إسطنبول العام 2017. 

وفي أكتوبر الماضي، عُثر على جثة تاجر أسلحة إيراني يُدعى فيروز سعيد أنصاري، مقتولًا في روما. ويعتبر فيروز أنصاري رجل طهران في إيطاليا. فقد ذكرت صحيفة “إندبندنت” البريطانية في تقرير لها، أكتوبر الماضي، أن السلطات الإيطالية تحقق في قضية مقتل أنصاري المرتبطة بنقل أسلحة قيمتها 300 مليون يورو إلى إيران. وبدأت تركيا مؤخرًا في وضع انتماءات أعضاء جماعة الإخوان الإرهابية على طاولة الفحص والتحقيق، ولاسيما بعدما اكتشفت أنقرة ولاءات بين الجماعة لإيران، فمنعت الجنسية عن بعضهم.

  • استهداف الميلشيات الشيعية العراقية لقواعد عسكرية تركية

فقد استهدفت جماعة “أصحاب أهل الكهف” عبر قصفها قرب مدينة مديات موقع دعم خلفي للقطاعات العسكرية التركية المتقدمة داخل الحدود العراقية. 

وبرهنت طريقة الاستهداف على إحاطة تكتيكية شاملة للجماعة المسلحة التي ظهرت حديثًا في الميدان العراقي بعد زيارة إسماعيل قاني للعراق بعد مقتل سليماني. حيث كان الاستهداف قرب الخط E90، الرابط بين العراق وتركيا والعابر على طريق M4 التركي السوري قرب مدينة “ايدل” التركية. واستخدمت فيها النسخة الإيرانية من صواريخ جراد من نوع Arash.

وهذه الإحاطة التكتيكية ربما تؤشر على بصمات الحرس الثوري الإيراني. يأتي ذلك في ظل الانتشار الواسع لفصائل “الحشد الشعبي” في مدينة الموصل وأطرافها، ابتداءً من منطقة بعشيقة شمال شرقي الموصل وصولًا إلى منطقة نمرود جنوب شرقي المدينة. وكذلك تحرك لواء من الحشد الشعبي باتجاه سنجار لمواجهة العدوان التركي على السيادة العراقية حسبما قالت قيادات من الحشد.

دوافع التصعيد

يمكن تحديد عدة دوافع للتصادم التركي الإيراني في المسرح العراقي في ضوء السابق، كالآتي:

  • استقرار خطوط التماس ومناطق النفوذ في سوريا لأكثر من 6 أشهر دون حصد مكاسب استراتيجية لتركيا

مازالت تركيا وحضورها العسكري المباشر ينحصر في أقل من نصف مساحة إدلب، فضلًا عن انتشار متقطع بطول الحدود السورية التركية ضمن ثلاث مناطق عمليات “درع الفرات – غضن الزيتون – نبع السلام”.

يأتي ذلك في سياق اشتباكات متجددة مع قوات سوريا الديمقراطية في مناطق تل ابيض وعين عيسى، فضلًا عن اتجاه الإدارة الامريكية الجديدة لتعميق علاقاتها وارتباطاتها مع المكون الكردي السوري في منطقة الجزيرة السورية. إذ تريد تركيا الانتقال لميدان جديد “حدودي” في مقاربة تعيد للأذهان الانخراط التركي العسكري المركز في النزاع حول إقليم قرة باغ؛ فور هدوء الميدان الليبي.

  • توجس تركيا من الوزن الإقليمي لإيران بعد مرحلة العودة للاتفاق النووي

فبالرغم من الترحيب التركي لنوايا العودة للاتفاق النووي مع إيران، كون ذلك من المفترض أن يفتح آفاقًا أوسع للتعاون مع طهران، وتخفيف الضغط الواقع على أنقرة نتيجة حرصها على التنسيق مع طهران في مختلف القضايا الإقليمية، ولاسيما في الخليج والعراق وسوريا وليبيا؛ إلا أن تركيا لا تشعر بالارتياح تجاه احتمالات زيادة الوزن النسبي لإيران في الإقليم وتصاعد مجهوداتها التطويرية للصناعات العسكرية وخاصة “الدرونز” والصواريخ الباليستية. 

ومازالت تركيا تسعى لاحتواء احتمالات الصعود الإيراني، والدخول في شراكات استراتيجية “تركيا –أذربيجان” والقيام بتحركات تكتيكية تمنع طهران مستقبلًا من تحجيم النفوذ التركي ولاسيما في العراق. وقد نشر المركز المصري في إحدى ورقاته عن طبيعة الرؤية التركية للاتفاق النووي الإيراني.

  • رغبة طهران في تخليق خطوط إمداد جديدة

تسارع إيران عبر تحريكها للحشد الشعبي نحو سنجار، في تأمين نقطة في أقصي ما يمكن أن تصل إليه بالشمال العراقي، كي تبدأ انطلاقًا منها تخليق خط إمداد جديد يصل لمناطق نفوذها شرق الفرات، خط “سنجار – القامشلي – الحسكة” لتخفيف الضغط الواقع على خط “البوكمال”. ولاسيما قبل محاولات القيادة المركزية الأمريكية بإنشاء قاعدة عسكرية في شمال شرق سوريا تمكنها من إدارة أهم خطوط المواصلات في المثلث الحدود بين العراق وتركيا وسوريا.

  • تعزيز الموقف الإيراني في المفاوضات المقبلة مع الجانب الأمريكي 

تريد إدارة بايدن وضع برنامج الصواريخ الباليستية ونشاط الميليشيات المرتبطة بإيران ضمن بنود أي اتفاق نووي جديد مع إيران. فيما ترفض طهران المطالب الأمريكية وتدعو للعودة للاتفاق النووي 2015، دون قيد أو شرط. وهذا ما عبر عنه وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف في لقائه عبر قناة CNN الأمريكية 7 فبراير الماضي.

  • تنامي سقف الانخراط العسكري التركي في شمال العراق

فقد أصبحت تركيا تميل إلى التقدم والتوسع لمسافات بعيدة مع استحكام ميداني عام وسيطرة نارية للمناطق التي تتحرك بها، والوجود الفعلي في بعض المناطق والسلاسل الجبلية المهمة مع استخدام نوعي في الأسلحة والمواجهات ومنها الطائرات المروحية والقيام بعمليات إنزال جوي في فصل الشتاء. 

وتخطت تركيا مسافة العمق الـ 40 كم المعهودة لتحركاتها، إذ اعتادت حاليًا عبر طائراتها ومسيراتها الاتجاه لمناطق (سنجار – مخمور – الكوير – أربيل) وصولًا إلى قضاء الشرقاط بعمق 193 كلم من الحدود التركية داخل الأجواء العراقية. وهو ما اعتبرته قيادة العمليات المشتركة للتحالف عملًا استفزازيًا وتجاوزًا للخطوط الحمراء.

  • غياب ردود الفعل العراقية تجاه انتهاك السيادة

 فقد جاءت العمليات العسكرية التركية الأخيرة بعد زيارة وزير الدفاع التركي خلوصي أكار لكل من بغداد وأربيل، إذ ناقش الأوضاع الأمنية في منطقة سنجار واستمرار وجود وتحرك حزب العمال في محافظات إقليم كردستان. ولم يصدر عن الخارجية العراقية أي بيان بشأن الاشتباك الدبلوماسي العراقي الإيراني داخل العراق، لكن رئيس البرلمان العراقي محمد الحلبوسي دعا ممثلي البعثات الدبلوماسية إلى عدم التدخل في شؤون العراق. فيما لم تغادر ردود الفعل العراقية حيز الإدانة والشجب لنشاطات الميليشيات الموالية لإيران وكذا التدخلات السافرة لطهران في المشهد الأمني والسياسي والاقتصادي العراقي. ما شجع الطرفان الإقليميان تركيا وإيران على نقل اشتباكهم الاستراتيجي داخل الساحة العراقية دون رادع. 

وختامًا، لعل في مشهد الاشتباك الدبلوماسي بين تركيا وإيران بسبب العراق، ومن قبلهم مناوشات الميليشيات الموالية لطهران وتحركها باتجاه الشمال “سنجار”، وكذا الحرب الباردة بين عناصر المافيا وأجهزة الاستخبارات بين البلدين؛ صورة تعكس عن حجم التناقض الكبير في الرؤى السياسية والموروث التاريخي ومذهبية الخطاب الديني. 

وعلى الرغم من كون الساحة العراقية الأقل احتضانًا للاشتباكات التركية الإيرانية، إلا أنه مع جملة تداعيات التنافس الجيوسياسي بين البلدين، قد تواجه عملية “المخلب النسر-3” صعوبات أكبر من مثيلاتها في حال قررت أنقرة القيام بها. فضلًا عن كون العراق الذي مزقته الطائفية شاهدًا على تصادم تركي إيراني يكشف صراعًا على تثبيت خطوط تماس جديدة تراعي حسابات الجغرافيا السياسية لمنطقة تعد الأشد تعقيدًا.

+ posts

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى