
تصاعد الاختلافات والانشقاقات داخل تنظيم داعش.. الرسائل وأبرز الدلالات
أصدرت مؤسسة “التراث العلمي” المعبرة عن “التيار البنعلي” وهو مجموعة من الشرعيين المنشقين عن داعش مؤخرًا سلسلة جديدة بعنوان “ولتستبين سبيل المجرمين” لأبي عيسى المصري وهو أحد العناصر الذين كانوا يقومون بمهام القضاء والدعوة في ذروة حضور تنظيم داعش، وهو صاحب المبحث المعنون بـ”سلطان باريشا” الذي هاجم فيه الأسس التي تقوم عليها فكرة الخلافة عند داعش.
وقد قُسمت السلسلة إلى عدد من الدروس التي بُيّنت فيها الأسباب التي دفعت مؤسسة التراث العلمي للحديث عن تنظيم داعش وفضح ممارساته، وأبرز المسائل التي أحدثت الخلاف بين هذه المجموعة والتنظيم كمسائل البيعة والخلافة، وتطرق إلى التعذيب داخل سجون داعش، وذكر نماذج لعناصر سجنهم أو قتلهم التنظيم، حتى إنه تحدث عن أنه يتفق مع المجموعات التي وصفها بالعلمانية والتي تصف التنظيم بالظلم والإجرام، وأشار كذلك إلى وجوب بذل الجهود لإسقاط التنظيم ودحره.
أولا-من هو التيار “البنعلي”
يجد المتابع لقصة صعود ثم إنكسار وهبوط تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، أنها اشتملت في معظم مراحلها -خصوصًا تلك التي انكسرت فيها شوكة التنظيم الإرهابي في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرته- على خلافات عقدية ومنهجية تصاعدت حدتها شيئًا فشيئًا، مما أسفر عن انشقاقات وانقسامات وتحالفات متنوعة داخل التنظيم، إلى الحد الذي جعل بعض الاتجاهات المختلفة تشير إلى كفر “أبي بكر البغدادي” الزعيم السابق للتنظيم والذي قُتل في غارة جوية أمريكية عام 2019.
أسفرت هذه الخلافات عن تنافس وصراع بين تيارين رئيسين داخل التنظيم “تيار الحازمية” نسبة إلى “أحمد بن عمر الحازمي” وهو أحد المشتغلين بالعلوم الشرعية المقيمين في المملكة العربية السعودية وتم القبض عليه عام 2015، و “تيار البنعلية” نسبة إلى “تركي البنعلي” وهو شيخ بحريني وأحد تلاميذ أبو محمد المقدسي، وقُتل في سوريا عام 2017 في غارة للتحالف الدولي على مدينة الرقة.
في هذا السياق مثل الفريقان “الحازمية” و”البنعلية” الاتجاهين الرئيسين داخل تنظيم داعش، ويمكن القول إن الفريقين متفقان إلى حد كبير في معظم المسائل التي تسيطر على بنية العقل الداعشي وتتصدر خطابه، كمسألة تكفير الآخر، والحاكمية، والموقف من السياسة بمفهومها المدني الحديث وما ينبثق عنها كمسائل الانتخابات والديمقراطية… إلخ.
إلا أن الانقسامات بدأت تظهر داخل التنظيم، وبدأ تبلور الفريقين مع تناولهما لمسألة “العذر بالجهل”، إذ يرى الحازمية في هذه المسألة أنه في مسائل التوحيد والشرك لا عذر لأحد، وأن كل من مارس أو قام بفعل من نواقض الدين فهو كافر، دون الحاجة إلى النظر في تحقق الشروط وانتفاء الموانع، وأن من لم يقم بتكفير هؤلاء فهو كافر ومرتد، عملا بقاعدة عندهم تقول “من لم يكفر الكافر فهو كافر”، في حين يتفق معهم الفريق الآخر أنه لا عذر بالجهل في مسائل التوحيد والشرك، لكنهم يرفضون إطلاق “من لم يكفر الكافر فهو كافر” على الإطلاق، وهو ما ترتب عليه تكفير التيار الأول “الحازمية” للتيار الثاني “البنعلية”، فضلا عن الانقسامات الكبيرة التي عصفت بالاتجاهين نتيجة للمسائل التي تشعبت عن هذه المسألة والاختلافات التي ترتبت عليها.
ثانيا- السياق
تأتي هذه السلسلة التي أصدرتها مؤسسة “التراث العلمي” وهي المؤسسة الرئيسة المعبرة عن فريق الشرعيين داخل تنظيم داعش أو أتباع “تركي بن مبارك البنعلي” في سياق مضطرب يشهده تنظيم داعش بشكل عام، وذلك في ضوء أمرين:
1-الخسائر الكبيرة التي تكبدها التنظيم على مستوى القيادات
فقد تكبد التنظيم خسائر كبيرة فيما يتعلق بقادة الصف الأول له، إذ خسر التنظيم منذ بداية 2021 فقط مجموعة من أهم رجاله، على رأسهم “أبو ياسر العيساوي” “نائب الخليفة وزعيم التنظيم في العراق”، وذلك إثر عملية استخباراتية أعلنها رئيس الوزراء العراقي، وهو واحد من أهم قادة التنظيم. وبعدها بأيام نفذ التحالف الدولي عملية أخرى في فضاء أبو غريب غربي بغداد، مما أسفر عن مقتل القيادي الداعشي ووالي جنوب العراق “أبي حسن الغريباوي” والذي كان مسؤولًا عن العملية الإرهابية التي وقعت في ساحة الطيران بالعراق.
في ذات السياق أشارت تقارير إلى مقتل “أبو عمر” زعيم تنظيم داعش في تعز باليمن يوم 9 يناير المنصرم أثناء معارك واشتباكات مع الحوثيين، ثم أعلنت الاستخبارات العسكرية العراقية في 11 يناير عن القبض على “أبو اليمان” القيادي بما يعرف بفرقة “الكواسر” داخل تنظيم داعش، وصولا إلى ما أعلنه المرصد السوري لحقوق الإنسان في 12 فبراير الجاري بمقتل اثنين من قادة داعش في دير الزور بسوريا، ورجح المرصد أن يكون أحدهم هو “أبو ياسين العراقي” أمير ديوان الركاز في المنطقة.
2- استمرار الانشقاقات والخلافات
كما أشرنا يشهد تنظيم داعش خلافات وصراعات كبيرة، بدأت باختلاف بين فريقين (الحازميون والبنعليون) حول مسائل منهجية وفكرية، لكن هذا الخلاف أخذ في التصاعد والاشتعال. في هذا السياق استطاع “الحازميون” -وهم التيار الأكثر تشددًا وعنفًا داخل التنظيم- التغلغل داخل معظم مفاصل تنظيم الدولة، بما في ذلك ملفات الإعلام والقضاء، حتى أنه في العدد 85 من صحيفة النبأ التي تصدر عن التنظيم كان هناك مقال حمل دلالات خطيرة بعنوان “رموز أم أوثان” دون توقيع صاحبه.
وارتبطت خطورة المقال حينها بتلميح صاحبه إلى كفر “أبي بكر البغدادي” وضرورة إسقاط من يرون أنفسهم رموزا إسلامية، وعدم مدحهم والثناء عليهم لأنهم في نظره مرتدون. وقد كفّر صاحب المقال صراحة “عطية الله الليبي” القيادي في تنظيم القاعدة الذي قتل في وزيرستان عام 2011، وكان مبرر تكفيره هو عدم إقراره بكفر الجماعات الإسلامية التي تشارك في الانتخابات كحماس والإخوان المسلمين، وهو الأمر الذي يتعارض مع موقف البغدادي منه، إذ نعاه بعد مقتله ووصفه في كلمة له عام 2012 بالعالم العامل المجاهد، وبالتالي في ضوء ما سبق فقد حمل المقال تكفيرًا ضمنيًا للبغدادي.
انفجرت بعدها الخلافات بين الفريقين وخرجت للعلن، وشن كل طرف حملات ممنهجة ضد الطرف الآخر قامت هذه الحملات على اتهامات بالخيانة والتآمر، وأقيم بينهما العديد من المناظرات التي كانت تنتهي بالتراشق والتكفير، وهو ما اتبعه إصدار بيان وتعميم ملزم في مايو 2017 من “اللجنة المفوضية” بالتنظيم تبنت فيه رأي التيار الحازمي في المسألة الخلافية.
وهو ما تبعه غضب من التيار البنعلي الذي أصدر زعيمه “تركي بن مبارك البنعلي” ردًا على هذا البيان بيانًا من 21 صفحة أكد فيه أن هذا البيان مليء بالأخطاء الشرعية والنحوية والمنهجية، وأن هذا البيان يؤكد أن تنظيم الدولة ليس بخير وأن قياداته تكفر بعضها البعض. وبطبيعة الحال قامت الإدارة المركزية للتنظيم بتهميش الشرعيين “أتباع البنعلي” وفرض سيطرة الأمنيين والعسكريين على التنظيم.
بالإضافة إلى هذا الخلاف بين البنعليين” و “الحازميين” كانت هناك اتجاهات أخرى داخل تنظيم داعش تسيطر عليها حالة سخط وغضب وخيبة أمل، مع اختفاء البغدادي لفترة طويلة قبل الإعلان عن مقتله، إذ اعتقد هؤلاء بأن البغدادي تخلى عن “النضال” عندما كان التنظيم في أشد الحاجة إليه، وهو الأمر الذي أكده تقرير لصحيفة صنداي تايمز بعد اعتقال مجموعة من عناصر داعش من قبل قوات سوريا الديمقراطية بعد ما عرف ب “معركة الباغوز”، إذ أجرت الصحيفة حوارات مع بعض من هؤلاء وأكدوا أن لديهم خيبة أمل كبيرة حيث اختفى البغدادي في الصحراء بدلًا من مشاركتهم في “النضال”.
وعقب مقتل البغدادي استمرت الخلافات داخل التنظيم بل وتصاعدت بشدة، حيث تبنى العديد من المنصات الإعلامية الداعشية -خصوصًا تلك المحسوبة على تيار “البنعلي”- وجهة نظر تقول بأن زعيم داعش الجديد “حجي عبد الله قرداش” لا تتوافر فيه الشروط الواجب توافرها في “الخليفة” لكونه مبتور القدم، ودعت هذه المنصات الخليفة الجديد لداعش للظهور ومخاطبة قواعد التنظيم.
وهو الأمر الذي قرأته بعض الدوائر على أنه تعبير عن رغبة هذه الاتجاهات في التخلص من القائد الجديد للتنظيم، فالبغدادي دفع حياته ثمنًا لظهوره، ولكن “قرداش” لم يستجب لهذه المطالبات؛ لأنه على ما يبدو أدرك أن الظهور يضعه بين مطرقة التشكيك في أهليته ومخالفة شروط الإمامة التي تقتضي سلامة الأعضاء والحواس، وسندان الاعتبارات الأمنية المرتبطة بظهوره.
ثالثًا- الدلالات والتداعيات
تمثل هذه السلسلة تصعيدًا جديدًا من قبل التيار “البنعلي” ضد التيار “الحازمي” أو التيار الأكثر تشددًا المسيطر على تنظيم داعش، وترتبط أهمية هذا التصعيد بالتوقيت الذي جاء فيه؛ إذ يأتي بالتزامن مع مساعي القيادة الحالية للتنظيم الظهور بمظهر القوة، وهو ما عبرت عنه مجموعة الهجمات التي شنها التنظيم مؤخرًا، فضلًا عن الفيلم الوثائقي الأخير الذي نشره تنظيم داعش بعنوان “النهاية والبداية” وهو الوثائقي الذي حمل دلالات عديدة عكسها الاسم نفسه، على رأسها بطبيعة الحال إيصال رسالة بأن التنظيم عائد بقوة.
ختامًا، يمكن القول إن أكثر ما يقلق القيادة الحالية لداعش من التصعيد من قبل الاتجاهات المختلفة معها داخل التنظيم هو التداعيات السلبية لهذه المتغيرات، خصوصًا ما يرتبط بتعزيز الانقسامات، بل واحتمالية تحالف هؤلاء مع القاعدة، وكونهم مدخلًا بالنسبة للقاعدة لاختراق داعش.