سياسة

“الأكاديمية الوطنية لتدريب الشباب”.. رمز الشراكة الإدارية المصرية-الفرنسية

تستند العلاقات الثنائية بين مصر وفرنسا على روابط صداقة وثقة قوية وطويلة الأمد، وقد تطورت بشكل كبير في جميع المجالات على مدى السنوات الماضية مدفوعة بتوافق كبير في الرؤى بين البلدين بشأن عدد من الملفات الإقليمية والعالمية. لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد حيث طور البلدان نمطًا غير تقليدي من التعاون الثنائي في مجال الإدارة العامة، برز على إثر الاهتمام المتزايد الذي منحه الرئيس عبد الفتاح السيسي لفئة الشباب منذ توليه الحكم يونيو 2014 انطلاقًا من إدراكه العميق لدورهم في تحقيق التنمية الشاملة المستدامة وفقًا لرؤية مصر 2030.

ونستعرض في هذا التقرير نماذج التعاون الإداري بين مصر وفرنسا:  

الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب

تماشيًا مع تركيز مصر على خلق قاعدة شبابية واعدة مؤهلة لحمل شعلة القيادة في جميع المجالات على الصعيد السياسي والإداري والمجتمعي، وامتلاك وعي وطني عميق مع فهم شامل للتحديات والفرص التي تواجهها الدولة. وفي استجابة منه لتوصيات المؤتمر الوطني الأول للشباب بشرم الشيخ في نوفمبر 2016، أصدر الرئيس السيسي القرار الجمهوري رقم 434 لسنة 2017 بإنشاء الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب، لتكون على نفس نمط المدرسة الفرنسية للإدارة (ENA).

وتأسست المدرسة الفرنسية للإدارة – التي تعتبر واحدة من أعرق المدارس العليا ومن أرفع المؤسسات في فرنسا حيث يعد الحصول على شهادتها مرادفًا للحصول على وظيفة مهمة تبدأ من درجة مدير عام – في أكتوبر 1945 بأمر من رئيس الحكومة المؤقت آنذاك شارل ديجول، وترأسها موريس توريز الزعيم الشيوعي. وتهدف المدرسة إلى تأهيل الكفاءات من كل الفئات والطبقات الاجتماعية في فرنسا تمهيدًا لتمكينهم من شغل المناصب والوظائف العليا في مؤسسات الدولة، وخلق مجموعة من المسؤولين يتمتعون بالكفاءة العالية لا سيما في الشؤون المالية والاقتصادية والاجتماعية، واكتسابهم رؤية شاملة بشأن عملية تنظيم الإدارة العامة الفرنسية والدولية وسبل تسييرها، بما يؤهلهم لتحمل المسئوليات التى تنتظرهم.

وتوصف المدرسة بأنها “مصنع القيادات الفرنسية” حيث نجحت في إفراز قيادات رفيعة المستوى تولت أعلى المناصب في فرنسا والعالم. وفي هذا الشأن، يكفي الإشارة إلى أن 4 رؤساء ينتمون إلى الجمهورية الفرنسية الخامسة تخرجوا من تلك المدرسة، هم على الترتيب: فاليري جيسكار ديستان الذي تولى الحكم في الفترة من 1974 إلى 1981، وجاك شيراك خلال الفترة من 1995 إلى 2007، والرئيس السابق فرنسوا هولاند في الفترة من 2012 إلى 2016، وأخيرًا، الرئيس الحالي إيمانويل ماكرون. كما خرجت المدرسة سبعة رؤساء للوزراء هم: جاك شيراك ولوران فابيوس وميشال روكار وإدوار بالادور وآلان جوبيه وليونيل جوسبان ودومينيك دو فيلبان.

فضلًا عن عدد من قادة المؤسسات الثقافية والاقتصادية، والبرلمانيين، وأقطاب السلطات التشريعية والقضائية والإقليمية والمحلية، وكبار الموظفين بالمحافظات، ومستشاري الرئاسة المقربين، وأعضاء في السلك الدبلوماسي والهيئات الدولية، ومحافظي البنك المركزي، وقادة الكثير من الشركات الكبري من القطاعين العام والخاص.

وعلى نفس المنوال، تهدف الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب إلى بناء كوادر وطنية واعدة من الشباب، مدربة على أعلى مستوى علمي، وقادرة على تولي مسئوليات القيادة في مختلف مؤسسات الدولة من خلال خمسة برامج دراسية، هى: الدراسات الإدارية والاقتصادية والسياسية والتنمية البشرية ونظم تكنولوجيا المعلومات.

ويطمح الرئيس السيسي لأن تصبح الأكاديمية المصدر الرئيسي لاختيار القيادات وكبار المسئولين في الدولة وتزويد الجهاز الإداري باحتياجاته من الموارد البشرية المدربة وفق أفضل المناهج العلمية. ومن أجل بلوغ هذا الهدف الاستراتيجي حددت الأكاديمية 13 هدفًا فرعيًا تعمل على تحقيقهم، وهم:

  • تجميع طاقات الشباب في عمل وطني يفيد الدولة ويبني نهضتها.
  • نشر الوعي الثقافي والاجتماعي والديني والسياسي بين قطاعات الشباب.
  • المساهمة في إعداد الأنظمة والسياسات الحكومية لتصبح أكثر ملائمة مع احتياجات الشباب.
  • إعداد كوادر سياسية وإدارية قادرة على معاونة الدولة في مهامها.
  • تنمية قدرات ومهارات الشباب لتكون شريكا أساسيا وفعالا في الحكم المحلي.
  • بناء شراكات مجتمعية تنموية فاعلة مع كافات القطاعات (العام – الخاص – الأهلي).
  • توعية الشباب بالأخطار والتحديات التي تواجه الدولة.
  • تنمية مهارات الشباب وتأهيلهم لتلبية احتياجات سوق العمل.
  • التوعية بالدور المجتمعي في مواجهة كافة أنواع الأخطار التي تواجه الدولة.
  • تشجيع الفن والإبداع والارتقاء بالفكر والذوق العام.
  • العمل على الحد من التسرب من التعليم والمشاركة في تعليم المتسربين.
  • مواجهة ظاهرة أطفال الشوارع وتعليمهم وتأهيلهم لعمل جاد يفيد المجتمع.
  • الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة وتنمية مهاراتهم في جميع المجالات لدمجهم مع المجتمع.

وأفرز البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة والبرنامج الرئاسي لتأهيل التنفيذيين للقيادة اللذان انضويا تحت مظلة الأكاديمية عقب إنشائها، عددًا كبيرًا من النماذج الشبابية الناجحة فى مختلف محافظات وقطاعات الدولة، وعلى إثر ذلك تولى عدد منهم مناصب قيادية فى مجلس الوزراء، وتم تعيين البعض كنواب محافظين ومعاوني وزراء، وآخرين في الوزارات المختلفة كالاستثمار وغيرها فيما يحدد البرنامجان شروطًا للقبول تضمن عدم نفاذ الشخصيات غير الجديرة بالمسؤولية.

ويتطلب القبول بالمدرسة الوطنية للإدارة حصول المتقدم على شهادة عليا، واجتياز امتحان بالغ الصعوبة بأعلى الدرجات حيث لا يكفي مجرد اجتيازه للحاق بالمقاعد المحدودة جدًا التي توفرها المدرسة، إذ تستقبل 90 طالبًا فرنسيًا و30 أجنبيًا فقط كل عام. وتشمل الاختبارات إعداد مقال فى القانون العام وآخر فى الاقتصاد، وملخص تحليلى لوثيقة من 25 صفحة صالحة لتقديمها إلى وزير عن قضية اجتماعية، والإجابة عن ثلاثة أسئلة فى المالية العامة، وخوض اختبار شفهي تدور أسئلته حول السياسة الدولية، والقانون والسياسات الأوروبية، كذلك خوض امتحان لغة إنجليزية، واختبارًا جماعيًا فى إدارة الأزمات، والإجابة عن أسئلة مفتوحة مأخوذة من السيرة الذاتية للمتقدم. وبالمثل، وضعت الأكاديمية المصرية لتأهيل الشباب مجموعة من الشروط للاتحاق ببرامجها كالحصول على شهادة جامعية عليا، واجتياز الاختبارات المقررة بحسب كل برنامج. 

وعلى غرار البرامج المتعددة التي توفرها المدرسة الوطينة في فرنسا لتأهيل خريجيها للوصول إلى المناصب العليا في القطاعين العام والخاص، إلى جانب برنامجها الرئيسي الذي يمتد على مدار عامين، تقدم الأكاديمية المصرية 8 برامج مختلفة المدة تبلغ في أقصرها أسبوع وفي أطولها عام ونصف، وهي: البرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب للقيادة، والبرنامج الرئاسي لتأهيل التنفيذيين للقيادة، والبرنامج الرئاسي لتأهيل الشباب الإفريقي للقيادة، وبرامج المؤسسات، وبرامج الأفراد، وبرامج دولية، وبرنامج المدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة بمصر، وبرنامج جوجل مهارات، بما يجعلها غير قاصرة على خدمة القطاع الحكومي، حيث إن برامجها المتنوعة مصصمة لمعالجة التحديات التي تواجهها كافة المؤسسات سواء الحكومة أو القطاع الخاص أو المنظمات أو الشركات الدولية.

وتمنح الأكاديمية في نهاية التدريب شهادات مهنية تغطي كافة المعارف ذات الصلة بالإدارة والقيادة والتكنولوجيا والتنمية، وهي شهادات رسمية تفيد بتمتع حاملها بالمهارات والمعرفة التي حصل عليها من خلال العديد من البرامج الدراسية.

ويساهم هذا النمط من المؤسسات في مكافحة الفساد ومنع وصول الأشخاص غير المؤهلين وغير الجديرين بالمسؤولية إلى مناصب الإدارة العليا، حيث إنها تتيح اختيار القيادات بشكل متجرد وفق معايير الكفاءة وتكافؤ الفرص، وجعل الترقي في الوظائف الحكومية أكثر شفافية، بعيدًا عن كافة أشكال المحسوبية والحاباة. وهو ما يُعبر عنه بمصطلح “دمقرطة” الوصول إلي المناصب المدنية العليا.

وتحقق المؤسستان المصرية والفرنسية مبدأ تكافؤ الفرص بالنظر إلى إن الدراسة في الأكاديمية الوطنية متاحة لمختلف الأعمار والتخصصات ومجانية بالكامل لا تتطلب أي رسوم أو تكاليف سوى استيفاء الشروط وخوض الاختبارات والتصفيات. كذلك، فإن المدرسة الفرنسية تقدم برامجها لكل الفئات والطبقات الاجتماعية طالما استطاع الشخص اجتياز الاختيارات المقررة، ما يعني أن الكفاءة والجدارة هما المعيران الوحيدان للقبول والتخرج من هذان الكيانان.

برنامج المدرسة الوطنية المصرية للإدارة (ENA-Egypt)

هو أحد البرامج المتاحة أمام الدارسين في الأكاديمية الوطنية لتدريب وتأهيل الشباب، وقد تم إنشاؤه بموجب اتفاقية وقعتها الأكاديمية مع المدرسة الوطنية الفرنسية للإدارة، ضمن فعاليات زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمصر في يناير 2019، تتويجًا للإعلان الموقع بين وزير الخارجية سامح شكري ونظيره الفرنسي جان إيف لو دوريان في 24 أكتوبر 2017 بشأن تعزيز التعاون الثقافي والتربوي والجامعي والعلمي والتقني بين البلدين، والذي على إثره تم انتداب المدير المساعد بالمدرسة الوطنية للإدارة المعني بالعلاقات الدولية في القاهرة، في سبتمبر 2018، كخبير مقيم لوضع تصور للمشروع.

ويهدف البرنامج – الذي يتحمل الجانب المصري جزءا من تمويله في حين يتحمل الجانب الفرنسي جزءًا آخر من تمويله وكذلك الجانب الأوروبي جزءًا ثالثًا –  لتدريب وتأهيل العاملين بالدولة لتمكينهم من التكيف مع الاحتياجات المتغيرة للإدارة.

وتبلغ مدة الدراسة في البرنامج “عامًا ونصف العام” ضمن مرحلتين يكون بعدهما الدارس مؤهلًا للالتحاق بالوظائف القيادية بمختلف المحافظات المصرية وبالإدارات المركزية.

وتسمى المرحلة الأولى بـ “مرحلة الإعداد” حيث يتلقى نحو 300 دارسًا تدريبا مدته ستة أشهر للوصول به إلى المستوى المطلوب لاجتياز اختبار القبول بالمدرسة الوطنية للإدارة اللازم للانتقال إلى المرحلة الثانية المعروفة بـ “مرحلة التدريب الرئيسي”، حيث سيتم اختبار 100 أو 120 شخصًا للدراسة في تلك المرحلة والتي تستمر على مدار 12 شهرًا؛ 6 أشهر تدريب نظري و6 أشهر دورات عملية بمختلف الإدارات المصرية، في مختلف المجالات كالإدارة والحقوق والمالية العامة والعلاقات الدولية وغيرها، كما يتخللهم 80 ساعة من محاضرات تعليم اللغة الفرنسية في المعهد الفرنسي بمصر، فضلًا عن برامج تعليمية في مجالات أخرى كالثقافة على سبيل المثال.

ويراعي البرنامج الخصوصية المصرية في عدد من المجالات، حيث يتم نقل الخبرات الفرنسية في تصميم اختبارات جادة تسمح باختيار أفضل العناصر المتميزة في الجهاز الحكومي المصري للانضمام للمدرسة، بالإضافة إلى بلورة المحتوى التدريبي وفقًا لطبيعة الجهاز الإداري المصري وبما يتماشى مع متطلبات المجتمع واحتياجات القطاعات، فضلًا عن الاستعانة بالخبرة الفرنسية في تقنيات تصميم البرامج التدريبية المتميزة.

تدريب المصريين في المدرسة الوطنية للإدارة

لم يقتصر التعاون المصري مع المدرسة الوطنية للإدارة على الشراكة مع الأكاديمية الوطنية أو برنامج ENA-Egypt، لكن السفارة الفرنسية بالقاهرة تقدم سنويًا منحًا دراسية بالمدرسة الوطنية للإدارة العامة (ENA) والمدرسة الوطنية للقضاء (ENM)، لموظفين رفيعي المستوى من الوزارات المختلفة، أو مستشارين من مجلس الدولة، وذلك من منطلق حرصها على تنمية تبادل الخبرات بين الموظفين رفيعي المستوي والقضاة من البلدين، خاصة وأن النظامين القضائيين المصري والفرنسي متشابهين إلى حدٍ كبير.

وتساهم الدراسة بالمدرسة الوطنية للقضاء، في تحسين معارف القضاة الشباب بشأن دور المؤسسة القضائية الفرنسية والعملية التنظيمية القائمة بها. ولعل من أبرز القضاة المصريين الخريجيين من تلك المدرسة المستشار عدلي منصور الرئيس السابق ورئيس المحكمة الدستورية العليا السابق.

يذكر أن المدرسة الوطنية للإدارة تستقبل، منذ أكثر من 60 عامًا، الطلاب الأجانب من كل القارات، وبحسب موقعها الرسمي، فقد استقبلت حتى الآن 3575 طالبًا من أكثر من 128 دولة، ومعظمهم شغلوا مناصب عليا في بلادهم.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

ماري ماهر

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى