
بوليتيكو الأمريكية: كيف عسكرت تركيا سياساتها الخارجية
“صفر مشاكل”، كان ذلك يومًا ما شعارًا للسياسة الخارجية التركية، والآن انتهى المطاف بتركيا لديها مشاكل مع الجميع، هكذا بدأ تقرير مجلة بوليتيكو الأمريكية الذي تناول تفنيد السياسات الخارجية التركية، وأشار إلى غن اعتماد تركيا المتزايد على القوة العسكرية لتحقيق أهدافها دفع باندلاع صراعات مع جيرانها وخصومها وحلفائها التقليديين على حدِ سواء.
وتشير بوليتيكو إلى أن أحدث جولات السياسة التركية، أطلت برأسها على منطقة القوقاز حيث ألقى الرئيس أردوغان بثقل بلاده خلف حليفه الوثيق “أذربيجان” وذلك بعد اندلاع المواجهات العدائية مع أرمينيا، حيث قدم الرئيس التركي دعمًا كبيرًا لأذربيجان من أسلحة وتدريب، كما رفض التجاوب مع الدعوات الرامية لتثبيت وقف إطلاق النار.
ويوضح هذا الموقف المتشدد استعداد تركيا لاستعراض قوتها العسكرية لتحقيق ما لم تحققه من خلال الدبلوماسية. أما في الداخل، فإن هذه السياسات أدت لحشد التأييد بين عامة الناس الذين ظلوا لفترة طويلة يشككون في جدوى التدخلات الخارجية، لكنهم يتوقون لإبراز النفوذ العسكري التركي والتاريخي بالمنطقة.
وعبرت تصريحات الرئيس التركي مطلع أكتوبر الجاري، عن هذه المواقف المتشددة والعسكرة المتزايدة للسياسات الخارجية لبلاده إذ قال بعد اجتماع مع رئاسة الوزراء، إن تركيا اليوم باتت تمتلك القوة الكافية لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية، وأن أولئك الذي اعتادوا على التحدث إلينا بنبرة امبريالية وسلطوية، أصبحوا اليوم يتفاوضون معنا بشروط متساوية، لقد أفسدنا سياساتهم الرامية لإخضاعنا في جميع المسائل الإقليمية والعالمية.
وفي العام الماضي وحده أثارت تركيا غضب جيرانها، وكثيرًا ما تحدت الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا بشن عمليات عسكرية نظامية في سوريا، وإرسال قوات كوماندوز بشمال العراق، وتغيير مسار الحرب في ليبيا، وتكثيف أنشطة التنقيب عن النفط والغاز في المياه الاقتصادية الخالصة لقبرص واليونان وإرسال سفن حربية رفقة سفن التنقيب.
وفي الآونة الأخيرة اتهمت أرمينيا – التي لا تقيم علاقات دبلوماسية مع أنقرة – تركيا بتأجيج النزاع وإشعال الحرب في إقليم ناغورنو كاراباخ، وأنكرت تركيا اتهامات أرمينيا بإرسال الاولي لمرتزقة سوريين ووضعهم على جبهات القتال وفي الصفوف الأولى لقوات الجيش الأذري، وتشير بوليتيكو إلى أن الكثير من هذا هو الدبلوماسية بالنسبة لتركيا، حيث تهدف من خلال هذا النهج والسلوك لحصد مكاسب اقتصادية، وأحيانًا لضم المزيد من الأراضي لها. حيث قال آلان ماكوفسكي، الزميل البارز في مركز التقدم الأمريكي الذي عمل سابقًا في وزارة الخارجية الأمريكية، إن معظم الدول الإقليمية والغربية غير راضية عن عدوانية تركيا، لكنها حتى الآن تعمل بشكل أساسي لصالح الأتراك.
ثبت حتى الآن أن التهديدات بفرض عقوبات من جانب الاتحاد الأوروبي على نفوذه في ليبيا والبحر الأبيض المتوسط كانت فارغة، كما تمكنت أنقرة من تفادي العقوبات التي قالت الولايات المتحدة إنها ستفرضها بسبب شرائها نظام صاروخي روسي مصمم لإسقاط طائرات الناتو.
قال صالح بجاكجي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة قادر هاس بإسطنبول: “لقد قيل لتركيا منذ فترة طويلة إنها لا غنى عنها للغرب، هذا الأمر غذي عقدة التفوق لدي تركيا”، وتابع “قوة تركيا الخشنة أوهمتها أن لديها القدرة على إفساد اللعبة، لكن الواقع يقول تركيا تتحرك ضمن هامش حركة مرسوم لها”.
من صفر مشاكل لصفر أصدقاء
لعقود من الزمان، التزمت نظرة تركيا ذات التوجه الغربي إلى حد كبير مع مبادئ مؤسس الجمهورية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك “السلام في الداخل يعني السلام في العالم”، وخلال النصف الأول من سنواته السبعة عشر في السلطة، شرع أردوغان في بناء علاقات تجارية ودبلوماسية في جميع أنحاء المنطقة تحت شعار “صفر مشاكل”، لكن انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط وفشل الاتحاد الأوروبي في توحيد رؤاه السياسية تجاه العديد من القضايا؛ مثَل فرصة لتركيا لفرض نفسها بالقوة في المنطقة، مع الاخذ في الاعتبار أن تركيا ليست الدولة الوحيدة التي تحاول ملء الفراغ، لكن ذلك أدى لانعدام الثقة مع مصر وحلفائها خاصة بعد عزل شريك أردوغان، محمد مرسي في عام 2013 واتجاه المملكة العربية السعودية لتكون مركز ثقل المنطقة أثناء موجات الربيع العربي، فضلاً عن توتر علاقات تركيا مع روسيا التي تدعم كيانات معارضة للمصالح التركية في كل من سوريا وليبيا.
وهنا تجدر الإشارة إلى أن توتر العلاقات مع مصر وقبرص وإسرائيل أدى لعزل تركيا تمامًا من معادلات الطاقة الناشئة في تلك المنطقة وكذا ترسيم الحدود البحرية بين الثلاثي، ويقول أستاذ العلاقات الدولية في جامعة إسطنبول، أيدين دوزجيت، أن تفضيل تركيا للقوة بدلاً من القنوات الدبلوماسية والسياسية من الأخطاء الكبرى التي تركت تركيا بمفردها دون الكثير من الأدوات العسكرية المتاحة لها بعد هذا التاريخ الطويل من العسكرة.
إلى ذلك يعزز الرئيس أردوغان خطابه بأن هناك مؤامرة من قبل الكرد، الذين تتخوف أنقرة من نزعتهم الانفصالية في سوريا والعراق وفي الداخل التركي ولهذا تتدخل تركيا في العراق وسوريا.، كما يواصل أردوغان خطاب المؤامرة بالقول ان هناك مخططات تستهدف تطويق تركيا من البلقان والبحر الأسود وصولاً للبحر المتوسط في مواجهة هذه الهجمة المتصورة، فإن تعهد أردوغان بتأكيد مصالح تركيا كقوة إسلامية واضحة مازال يستغل المشاعر القومية بين الجمهور الذي يرى نفسه بأغلبية ساحقة كزعيم طبيعي للعالم الإسلامي.
وتشير بوليتيكو أن مخاطر نزعة الهيمنة التركية على المنطقة تتمثل في توسيع رقعة الانخراط العسكري التركي في العديد من الجبهات بما يرهق اقتصادها المتداعي، وما يعزز تلك المخاطر على تركيا هو وجود اتجاه لعزل تركيا دبلوماسيًا واقتصاديًا في المنطقة من قبل بعض الدول.
وتوضح بوليتيكو أن القوات المسلحة التركية موجودة الآن في تسع دول على الأقل، من العراق إلى الصومال وكذلك شمال قبرص غير المعترف بها دوليًا وتدير قاعدة كبيرة في قطر. وتسيطر تركيا أيضًا على مساحات شاسعة من الأراضي في شمال سوريا بعد سلسلة من التوغلات عبر الحدود.
يتزامن التحول إلى الجيش – وكذلك وكالة الاستخبارات – فيما كان مجال الدبلوماسية مع توسع القوات المسلحة التركية التي تعد بالفعل ثاني أكبر قوات الناتو. ضاعفت الحكومة الإنفاق العسكري على مدار العقد الماضي وتعتزم تصنيع جميع أسلحتها بحلول عام 2023، مع وضع أردوغان هذه الاستثمارات العسكرية، حتى أثناء الانكماش الاقتصادي الحالي في البلاد كضرورة، وهو أمر ضروري لاستعادة نوع السيادة الذي تمتعت به الإمبراطورية العثمانية في البحر الأبيض المتوسط وعبر الشرق الأوسط قبل انهيارها بعد الحرب العالمية الأولى.
ورغم الوضع الاقتصادي الخانق حاليًا يصر الرئيس التركي على أن الصعوبات المالية هي التكلفة التي يجب أن يتحملها الأتراك، في الوقت الذي تكافح فيه البلاد هذه “النضالات من تلقاء نفسها” إذ قال نصًا: “بالطبع نحن ندفع الثمن .. ونخشى على كل مواطن يتضرر من الهجمات الاقتصادية. إن شاء الله، سوف نحصد قريبًا ثمار الصعوبات التي نواجهها الآن”.



