أوروبا

البحر الأسود.. عودة الأهمية التاريخية

استدعت جملة من الأحداث المتلاحقة الاهتمام مرة أخرى لمنطقة البحر الأسود، الذي يعد بوابة العبور الروسية للشرق الأوسط. وكان أبرز تلك الأحداث إعلان تركيا المشكوك فيه لاكتشافات الغاز الضخمة بالبحر الأسود، والمناورات المصرية الروسية الأولى من نوعها بالبحر الأسود في سياق إجراء مناورات “جسر الصداقة 2020” البحرية بين الطرفين، وآخرهم تبادل الطرفان الروسي والبلغاري طرد عدد من دبلوماسيي البلدين. وعليه فإن التقرير سيسعى لتوضيح ماهية تلك المنطقة، وأهميتها التاريخية والجيوستراتيجة، وأبرز الأطراف الفاعلة بالمنطقة، وأخيرًا مآلات التصعيد في تلك المنطقة التاريخية.

مسرح عمليات تاريخي

يطل على البحر الأسود ست دول: روسيا، أوكرانيا، جورجيا (اللتان تسيطر روسيا على مناطق أساسية بهم مطلة على البحر) رومانيا، وبلغاريا (العضوتان بالاتحاد الأوروبي منذ عام 2007 وحلف الناتو) وأخيرًا تركيا العضو بالحلف. يقع البحر الأسود عند مفترق طرق اقتصادي وحضاري مهم على اليابسة الأوروبية الآسيوية. تحتوي المنطقة على موارد النفط والغاز وخطوط أنابيب الطاقة الرئيسية وممرات الشحن وكابلات الألياف الضوئية.

يُعد الصراع بمنطقة البحر الأسود تاريخي ومحوري لدى الطرفين الروسي والتركي، وكانت أبرز محطاته وبداياته منذ عام 1774، وهو العام الذي أنهى حربًا امتدت ستة أعوام، وضمنت لروسيا حق الوصول للبحر الأسود. واستمرت تطلعات روسيا لضم مضيقي البسفور والدردنيل منذ ذلك الحين، مرورًا بحرب القرم في نهاية القرن التاسع عشر، وتكرار المحاولة في الحرب العالمية الأولي، إلا أن دعم الغرب لتركيا أوقف تلك الطموحات الروسية. انتهاءً بتوقيع معاهدة لوزان 1923، وإضافة تعديل لاحق عليها من خلال اتفاقية مونترو 1936 التي نظمت سيطرة تركيا على مضيقي البسفور والدردنيل، وضمنت حق مرور الدول المطلة على البحر منهما وغيرها من الدول، إلا أنها وضعت شروطًا على تلك الدول الخارجية دون تلك الدول الست أبرزها تقييد القوى غير التابعة للبحر الأسود في إرسال سفنها العسكرية إلى البحر الأسود (يجب أن تكون أقل من 15000 طن لكل سفينة، 45000 في المجموع، ويمكن أن تبقى فقط في البحر الأسود لمدة 21 يومًا).

ولم تتوقف محاولات روسيا (الاتحاد السوفيتي آنذاك) لضمان مشاركته في السيطرة على تلك المضائق، ولكن الولايات المتحدة وضغطها، ودخول تركيا لحلف الناتو ضمن الحماية لها، واستمر من بعدها التوازن الهش بين الدول المطلة على البحر الأسود. إلا أن أهمية تلك المنطقة لم تغب عن صانع القرار الروسي، فأشعلت الثورات الملونة في جورجيا وأوكرانيا وخطر استبدال القادة الموالين لروسيا بآخرين موالين للغرب، وكذلك انضمام رومانيا وبلغاريا للحلف عام 2004، ثم انضمامهم للاتحاد الأوروبي، ودولتين أخيرتين، أوكرانيا وجورجيا، المنخرطتين في شراكة وثيقة مع الحلف، واعتبار حلف الناتو البحر الأسود “مهمًا للأمن الأوروبي الأطلسي (إعلان قمة بوخارست، 2008).

 كل تلك الأحداث راكمت شعور روسيا بالخطر من اختراق والتعدي على منطقة نفوذها التقليدي في البحر الأسود، وعليه دخلت حربًا مع جورجيا عام 2008، نتج عنها منطقتان إداريتان منفصلتان عن جورجيا مواليتان لروسيا، وأخيرًا سيطرتها على شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود عام 2014، ورسخت وعززت قواتها العسكرية بشبه الجزيرة. كانت الخطوة الأخيرة في إعادة ترسيخ الوجود العسكري الروسي في المنطقة هي التدخل العسكري الروسي في سوريا في سبتمبر 2015. ومنذ ذلك الحين أصبحت المنطقة محورية في تعزيز نفوذها روسيا بالبحر المتوسط والشرق الأوسط، وساهمت في استعادة أحلامها الإمبراطورية القديمة.

حلف الناتو والرغبة في احتواء النفوذ الروسي

لطالما صرّح حلف الناتو في مواطن مختلفة عن أهمية منطقة البحر الأسود، واعتبارها جزءًا من الأمن الأوروبي الأطلسي. إلا أن سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم ساهمت في تعزيز دفاعات دول الحلف بشكل عام والمطلة على البحر الأسود بشكل خاص رومانيا وبلغاريا، تخوفًا من التمدد الروسي. فاستنادًا إلى تقرير معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام “سيبري” قُدّر الإنفاق العسكري العالمي في العام 2019، زادت أربع دول في أوروبا الوسطى إنفاقها العسكري بمقدار أكثر من 150 % بين 2010 و2019: ليتوانيا (232%)، لاتفيا (176%) بلغاريا (165%) رومانيا (154 %) بالإضافة إلى أن بلغاريا ورومانيا أصبحتا من ضمن السبع دول الأعضاء في الحلف اللتين وصلا لإنفاق 2% من الناتج المحلى الإجمالي على الدفاع. 

وعليه؛ فإن سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم ساهمت في تعزيز الحلف لالتزامه ناحية دول المنطقة، فأثناء قمة الحلف بوارسو 2016. نتج عنها ترتيبات جديدة عززت وجوده العسكري برًا وبحرًا وجوًا، إلا أنه اتبع استراتيجية مهمة وهي الاعتماد على دول المنطقة كواجهة رئيسية ومنطلق رئيسي لعملياته، فعزز المكون الأرضي والصاروخي لوجوده في رومانيا.  بالإضافة لمساهمات تركيا الجوية والبحرية الكبيرة في المنطقة.

ويمكن إرجاع اعتماد الحلف على تلك الاستراتيجية لثلاثة أسباب: أولها، أنه على عكس دول البلطيق، التي طالبت بوجود عسكري أكبر لحلف شمال الأطلسي في بلادها لمواجهة روسيا، فقد فضلت الدول المطلة على البحر الأسود (باستثناء رومانيا) عمومًا وجود بصمة أخف لحلف شمال الأطلسي في منطقتها، خوفًا من تعزيز شعور روسيا بالخطر وتحفيزها لمواجهتهم بشكل أكبر. وثانيها، استفادة تلك الدول وكذلك الحلف من درس الدعم الغربي للثورات الجورجية والأوكرانية، وكذلك توسعه في الجوار الإقليمي لروسيا من خلال ضم بلغاريا ورومانيا للحلف ثم للاتحاد الأوروبي؛ لذلك يسعى كلا الطرفين لتعزيز وإظهار قوته عن حد معين لا يستفز روسيا ويشعرها بالخطر، وفى نفس الوقت لا يكن ضئيلًا فيفتح شهيتها للسيطرة على بلادهم. وأخيرًا أن الثلاث دول الأعضاء بالحلف لها علاقات وروابط اقتصادية وسياسية وغيرها من الروابط مع روسيا باختلاف مستوى تلك الروابط بالتأكيد.

واتباعًا لذلك المنطق، استمر الحلف في القيام بمناوراته، وتعزيزه تعاونه مع أوكرانيا وجورجيا، إذ أقر البرلمان الأوكراني في مارس الماضي قانونًا يسمح بدخول وحدات لقوات مسلحة تابعة لدول أخرى إلى أراضي أوكرانيا في عام 2020. بالإضافة لتعزيز التعاون العسكري مع وجورجيا.

ويمكن تبيُّن هذا الدعم من الناتو من خلال تصريح رئيس إدارة العمليات في قيادة الأركان العامة الروسية سيرغي رودسكوي في سبتمبر الماضي بأن حلف الناتو كثف منذ مطلع العام الجاري بشكل ملموس أنشطته العسكرية في منطقة البحر الأسود. فأشار إلى أن عدد زيارات السفن الحربية لحلف الشمال الأطلسي إلى البحر الأسود لا يزال مرتفعًا، مؤكدًا أن إجمالي فترة وجود هذه السفن في المنطقة في الفترة بين يناير وحتى سبتمبر الماضيين ارتفعت بـ 33% مقارنة مع ما سجل في العام الماضي. وكذلك أن طائرات الاستطلاع الأجنبية كثفت منذ بداية العام الجاري بـ 40% تحليقاتها فوق البحر الأسود، مقارنة مع نفس الفترة من العام الماضي، وتصل هذه النسبة إلى 61% قرب سواحل شبه جزيرة القرم.

مستقبل المنطقة: إحياء الأهمية التاريخية

إن الماضي هو مقدمة لمستقبل المنطقة. فبالنسبة لروسيا، لم تتغير الأهمية استراتيجية لمنطقة البحر الأسود منذ دخولها المتكرر في التصعيدات العسكرية مع تركيا، لتأمين وصولها للمياه الدافئة الوحيدة للبلاد؛ حتى إذا ساهم التغير المناخي في استغلال منطقة القطب الشمالي كبديل، إلا أن الوجود الروسي المتزايد بمنطقة الشرق الأوسط وبخاصة في سوريا ومنطقة البحر الأبيض المتوسط، يجعل أهمية البحر الأسود لروسيا دائمة ومستمرة. 

تلك الأهمية قد تنذر باستمرار المناوشات العسكرية بالمنطقة، إلا أن ترسيم الحدود البحرية بين الدول الست يساهم في تقليل حدتها عن الوضع في البحر المتوسط على سبيل المثال. إلا أن هناك مفاجأة مجهولة بالنسبة لروسيا، قد تؤدى لتفجر الأوضاع بالمنطقة، وهي قناة إسطنبول الجديدة التي يريد أردوغان إقامتها كممر مائي موازٍ لمضيق البسفور، فتقوم بالربط بين بحر مرمرة التركي والبحر الأسود.

فتلك القناة قد تكون فرصة ذهبية لروسيا، إذا ما جعلتها تركيا تنخرط في إنشائه؛ فبذلك تحقق حلمها القديم بالسيطرة على المضائق ولو حتى بشكل جزئي. أما في حال ما رفضت تركيا التعاون مع روسيا، واستخدمت القناة للتحايل على اتفاقية مونترو التي تحجّم الوجود البحري الأجنبي في البحر الأسود وتحدد كذلك حجم السفن المارة، وعليه فقد تكون مدخلًا لوجود عسكري من دول الناتو في المنطقة، مما قد يساهم في تصعيد وتيرة المناوشات بالمنطقة.

لذا نستطيع القول في الختام إن منطقة البحر الأسود لا يبدو أن أهميتها الاستراتيجية ستخبو، بل من المتوقع أن تزداد أهميتها للجانب الروسي وبالتبعية للناتو وبخاصة تركيا.

+ posts

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

الشيماء عرفات

باحثة ببرنامج العلاقات الدولية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى